أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. من بداية الستينيات، أي منذ استرجاع إقليمي طرفاية وطنطان حتى المسيرة الخضراء حدث انقلاب جذري في التركيب السكاني للصحراء المغربية، يعود إلى ثلاثة عوامل هي: توسع المراكز الحضرية بسبب استغلال مناجم الفوسفاط وانتشار الجفاف، توسع قطاع التجارة والخدمات بفعل وتأثير العاملين السابقين وأخيرا انخراط أعداد لا بأس بها من الشباب في التعليم والجيش وبعض المؤسسات الأخرى. في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الاستعمارية ترعى هذه التحولات في حذر. وتشجعها تمهيدا لخلق هياكل وقنوات تكون أعمدة للدولة العتيدة المنتظرة، كانت الدولة المغربية تعالج تداعيات خطيئتها الأولى. أو تغط في سبات عميق. تفيق منه لتتشاور مع الجزائر وموريتانيا، أو لترفع عقيرتها بالاحتجاج من أعلى منبر الأممالمتحدة ثم تنتهي بقبول تقرير المصير. وكانت تتصل من حين لآخر ببعض رؤساء العشائر، الذين لم يكونوا ولنقلها صراحة، يمثلون الأجيال الصاعدة. الغريب في الأمر أن مؤسسي حركة البوليساريو، نشأوا من فرعين متمايزين خلال هذه الفترة وفي معزل عن الدولة المغربية. الفرع الأول هو من الشباب الذين تلقوا دراستهم في المغرب، وهم أبناء الضباط والجنود الصحراويين الذين انضموا إلى جيش التحرير أثناء فترة وجوده في الجنوب. وأغلبهم أدخلوا إلى المدارس المغربية ضمن سياسة عامة وضعتها قيادة المقاومة وجيش التحرير لتأكيد وتثبيت دمج الصحراء بالمغرب. وكانت هناك مدرسة خاصة في مدينة الدارالبيضاء تلقى فيها أكثر أبناء الصحراء معلوماتهم الأولى، قبل أن يتفرقوا في المدارس الثانوية المغربية. والمرحوم الوالي مصطفى، الذي يعتبر مؤسسا للبوليساريو واحد من هؤلاء... وغيره كثيرون من الذين يعملون اليوم لأجل فصل الصحراء عن المغرب. الفرع الثاني، من الذين تعلموا في المدارس والمعاهد والجامعات الإسبانية. أما القوة العسكرية الضاربة فهي من الجنود الذين كانوا يعملون داخل الجيش الإسباني. حتى سنة 1975، لم تكن هذه الأطراف على صلة قوية بالجزائر ولم تكن حتى على صلة تنظيمية فيما بينها. بل إن الجزائر رفضت في البداية تقديم أية مساعدة لهم لأسباب واعتبارات تستحق أن يفرد لها مقال خاص. ما يعنينا هو أنه من الخطأ الحديث عنهم كعملاء للجزائر، ونحن نقول هذا الكلام ليس فقط لأننا لم نساوم أبدا في مسألة مغربية الصحراء. بل وأيضا لأننا نرى في تطور البوليساريو مظهرا من مظاهر عجز الدولة المغربية وإخفاقها وعدم قدرتها على معالجة مشكلة وحدة التراب الوطني. ومثلا، من الاخطاء الفادحة التي ارتكبتها الدولة المغربية هي أنها لم تمهد بما فيه الكفاية، لا قبل المسيرة الخضراء ولا بعد عودة الصحراء المناخ لطمأنه الناس ولدمج العناصر المسلحة التابعة للقوات الإسبانية في الجيش المغربي. ولا يكفي لإخفاء هذه الخطيئة الرابعة ترديد نظرية العملاء والمرتزقة. إن أغلب الناس لا يتحركون بهذه الدوافع، بل تقودهم مشاعر وطموحات أخرى. ولا أعتقد أنني بحاجة إلى القول بأن هذا ليس تبريرا لسلوك جماعة البوليزاريو، وإنما هو مجرد تنبيه إلى مسؤولية الدولة المغربية في نشوء هذه الظاهرة ولعلي أسوق هنا واقعة تدل على أن عدد الشباب الذين التحقوا بصفوف البوليزاريو كانوا يتحركون بدافع السخط واليأس من سياسة الدولة المغربية. كان ذلك أثناء انعقاد مؤتمر للرابطة العالمية للحقوقيين الديمقراطيين بالجزائر في ربيع 1975. وحضر هذا المؤتمر وفد مهم من المغرب، كان من أعضائه الشهيد عمر بن جلون. كانت الجزائر لاتزال في بداية اهتمامها بالموضوع. وجاء وفد من البوليزاريو يضم عددا من الشباب الذين أ عرفهم واجتمعت إليهم لمحاولة إقناعهم بالعدول عن طرح الانفصال وأراني أحدهم أثار التعذيب الذي تعرض له وأقسم أنه لن ينتمي إطلاقا إلى المغرب وسيظل حتى الموت من أجل «الاستقلال»، واتهمني بالخيانة الصريحة. وكان الشهيد عمر بن جلون حاضرا لهذه المناقشة، وقد ترقرقت عيناه بالدموع ويروي ما تعرض له هو الآخر في السجن بأسلوبه الحماسي المؤثر، قائلا إن تعرض المناضلين للقمع لا يبرز تخليهم عن النضال من أجل وحدة الوطن. انتهى النقاش الطويل بيننا إلى سوء فهم عميق، ولكني أدركت منه بواعث سلوك عدد كبير من الشباب الصحراوي، الذي لم تنجح الدولة المغربية في كسبه لقضية في منتهى البساطة.