في الآونة الأخيرة، تناسلت مبادرات فلسفيَّة متنوعة داخل مختلف مناطق المغرب،وجاءت كثمرات لجُهود مختلف المهتمِين والمشتغِلين بالفكر الفلسفي من مدرسين ومؤطرين وطلبة جامعيين وأصدقاء الحكمة.وكان لافتا للأنظار تزامن هذا الزخم مع ظهور الأزهار الأولى لفصل الربيع، والذي شهد أيضا انعقاد ندوات فلسفيّة عديدة طرحَت فيها قضايا التنوير والحداثة والإصلاح الديني، ناهيك عن سؤال الحاجة إلى الفلسفة. وقد توج كل ذلك بحدث فلسفي هام يتعلق بانعقاد المؤتمر الاستثنائي للجمعيّة المغربيّة لمدرسي الفلسفة، وهذا بعد مرور أزيد من عقد ونصف عن حالة الركود والجمود، لأسباب قد لا يسع المجال لذكرها الآن. لقد شكل الشباب في المغرب القوة المحرّكة للمجتمع في مختلف المحطات الكبرى من تاريخه المعاصر، وها هو اليوم يعود بقوة إلى جبهة الصراع الثقافي –الفكري، لغاية خوض معركة تنويرالعقول وتطوير الأذهان. بحيث احتضنت العديد من الجامعات المغربيّة أنشطةً متنوعة شملت فلاسفة الانسانيّة جمعاء، وعالجت موضوعاتها مختلف مجالات البحث الفلسفي: تاريخ الفلسفة، المنطق، الابستمولوجيا، فلسفة الذهن، التأويليات، الفلسفة السيّاسيّة،أخلاقيّات علوم الطب والبيولوجيا... ينضاف إليها مجهودات مراكز البحث والدراسات والحلقات الدراسيّة في الجامعات من مخابر وجمعيّات الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا، ناهيك عن مؤسسات مروّجة ومدعمة للفكر الفلسفي عن طريق النشر... يعبر حجم الأنشطة الفلسفيّة ومختلف فروع العلوم الانسانيّة عن ديناميّة غير مسبوقة عمادها الوعي المتنامي بخطر الفكر الأصولي وبعمق الأزمة التي يعيشها المجتمع بفضل انتشار قيم الانغلاق والتزمت والتعصب للرأي وتوسع قاعدة الدوكسا ليشمل الأوساط المتعلِّمة. لم تستثنى حركة النشر والتأليف من «ربيع الفلسفة» بالمغرب وجرأته في طرح قضايا جديدة وبنفس جديد كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة في الزنقة والمسرح المحكور، والاهتمام المتزايد – رغم ضعفه – بالممارسات الفلسفيّة الجديدة والفلسفة للأطفال، ناهيك عن ديناميّة الأنشطة التربوية الفلسفيّة من قبيل الأولمبياد الفلسفي والشاشة الفلسفيّة. كما ساهمت الوسائل التكنولوجيّة الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي في هذه الديناميّة رغم انعكاساتها السلبيّة على تعليم الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، من جهة أن الخطاب الفلسفي لم يعد خطاباً حجاجيّاً عقلانيًّا يرتكز على قواعد المنطق والمساجلة وتبادل الرأي، بقدر ما يرتكز على الاستظهار وعرض المواقف بشكل جاهز دون ادراك الدلالات الفلسفيّة والمعاني العميقة التي تحملها ودورها التاريخي في تغيير العقليّات والأجيال. لكن إلى ما يعزى هذا التحرك غير المسبوق في تاريخ تدريس الفلسفة بالمغرب؟ ما من شك أن عوامل مختلفة تظافرت لولادة «ربيع الفلسفة» بالمغرب منها ما هو مرتبط بالسيّاق الدولي والجهوي حيث عممت العولمة قيم ثقافة السوق كالتبضيع والاستهلاك اللامحدود... وما رافقها من سؤال حول الهويّة واثبات الذات في عصر العقل الأداتي الذي جعل الفرد ينعزل في عالم خاص يعتقد أنه هو من صنعه دون أن يدري أن شروطاًتظافرت لجعله أكثر انغلاقاً على نفسه، ففي الوقت الذي نتوهم أننا أكثر انفتاحاً على العالم فإننا نتقوقع في عوالم افتراضيّة منحتنا حرية محدودة ومراقبة... فلم يعد من المستصاغ ترك سؤال الوجود والبحث عن معنى للحياة أمام تغوّل»الجهل المقدس»، وزحف الأصوليّات المتواصل وهجومها الجارف على كل مساحات العقل والحياة. ينسجم مصطلح «ربيع الفلسفة» مع حجم وتحديات الثورة الثقافيّة والصراع الفكري الذي أدرك جيلُ شاب دخل الفعل في مختلف مستوياته السيّاسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة من بابه الواسع، ربما بعد أن فطن هذا الجيل الثائر إلى فشل المطالبة بالتغيّير السيّاسي الذي انطلق في أحد أيام فبراير 2011، بل ومحدوديّة المطالبة بالتغيّير السيّاسي دون خوض المعركة الثقافيّة. ولهذا يتوجب العمل على تحصين هذه الديناميّة وضمان استمراريتها لتضطلع الفلسفة - كما كانت من ذي قبل - بأدوارها الطليعيّة والتقدميّة، كفكرٍ حر يطرح السؤال وينتقد ولا يركن للسّائد، بل يعمل على خلخلة البداهات ويدفع بالشك إلى حدوده القصوى في سبيل معرفة وعقل متحرّرٍ من القيود التي كبلته طوال عقودٍ خلت. تمثل ديناميّة «ربيع الفلسفة» بحق سجّلاَ تاريخيّاَ ينضاف إلى سجلات المقاومة الفكريّة والممانعة الثقافيّة للمد الأصولي المتزمِّت الذي اجتاح هذه الرقعة قادما إليها من كل حدبِ وصوب، مما يستوجب معه مواصلة الطريق على نفس النهج لمواجهة كل الأشكال التي تُدِيم التخلف والجهل وتعمِّم الدوكسا مكان الرأي المبني والمؤمن بحق الغير في التفكير والتعبير الحر. وهو ما لن يتأتي دون خوض معركة الحداثة والتنوير: فأي حداثة نريد لمغرب المستقبل؟هذا هو السؤال.. وليس مهما في الفلسفة غير السؤال؛ فوحده السؤال يجعل التفكير ممكنا.