في ما يخص القضايا المقترنة بسياقاتها الاجتماعية أو السياسية، ذات البعد الكلي والشمولي، والحريصة على احتلال مواقع الصدارة، من اهتمامات الفضاءات العامة، يبدو الحديث عن التفاصيل، أمرا جد ثانوي وعابر، يقتصر فقط على ما هو مؤقت و كمالي، وأيضا، على ما يقع خارج الضرورة. إنه حديث مغايرٌ تماما لانشغالاتِ الرؤية الموجَّهَةِ إلى ما يندرج في العمومية، هندسةَ حدثٍ كان، أو أفقَ مشروعٍ، لا فرق، إذ يكفي أن يحيل العامُّ، على إطار المشترك، وعلى الأرضية الموحِّدة، التي يتأسس عليها البناء، بصرف النظر عما يمكن أن يتفاعل فيه من عناصر متنافرة ومتناقضة. فالأرضية العامة، هي البؤرة المركزية التي تتقاطع فيها المسارات والخطابات، حيث لن يتجاوز هذا المتقاطِع، حدود اجتيازه لما يعتبر في الأصل ثابتا فعليا ومحوريا، أي الأرضية التي منها ينطلق السهم المحدِّدُ لوجهة فكرةٍ، وُضِعَتْ بعناية فائقة داخل علبة التسويق. وعلى النقيض من ذلك، يلاحظ أن التفاصيل هي مصدرٌ فِعليٌ لشعرية الثوابت الصغيرة، التي تخضع لسبب أو لآخر إلى قانون تجميعي، تستجيب لديناميته العناصر الجزئية المزروعة في مدارات المعيش والمتخيل على حد سواء، والتي دأبت على حقن ذواتنا بمنبهاتها السيكولوجية، كما في ذوات الكتابة، و خاصة الشعرية منها. ولأنها فعلا تفاصيلُ،فسيكون من الشطط البيِّن محاولة تقديم نماذج تمثيلية لها، خلافا لما هو الشأن بالنسبة للشمولي، القابل للتصنيف والتأطير، لكن دون أن يمنعنا ذلك من الإشارة إلى حيثيات الطقس العام، الذي يحدث أن تكاشفنا بخصوصيتها فيه. علما بأن مبدأ العمومية التي يتسم به مفهوم الطقس/الإطار في هذا السياق، لن يكون أبدا سببا في تحجيم خصوصيتها، لكونها تفاصيل تشتغل ضمن تجربة التخوم، المنفتحة على اللآنهائي. نستحضر هنا على سبيل التمثيل لا الحصر، ودون أن نتورط في تسميتها طبعا، التفاصيل المحيلة على طقس الرتابة والغرابة، الغبطة والألم، التيه والبدد، وهي تفاصيل يمكن أن تكون مدركة على المستوى الحسي أو الفكري، مقترنة بمجالها الخاص أو العام تبعا للقدرة الذاتية، التي تتميز بها الطاقة الالتقاطية لدى الكتابة الشعرية، فضلا عن توجهاتها المعرفية والفنية، الفاعلة في تأطير اختياراتها. إن هذه التفاصيل قد تحضر في صيغتها الخام، كما يمكن أن تحضر في إطارها المجازي والاستعاري، حيث ينسحب الواقعي مؤقتا، مفسحا المجال للمتخيل، كي يعيد ترتيبها على ضوء قوانينه الخاصة به، تماما كما يحدث مع التفاصيل ذات الطبيعة التجريدية، والفكرية التي تتحول إلى مشاهد مرئية، وفي قلب لعبة إعادة الترتيب هاته، يحدث أن يتحرر المتخيل من مرجعياته الفكرية، كي يستسلم إلى جمالية نسج عوالم، تستهدف إمتاع كلٍّ من عين الكتابة، وعين القراءة. إن شعرية التفاصيل، تتجسد في هذا التركيب البنائي المعقد، الذي يمزج بين عناصر مختلفة ومتنوعة، تؤدي إلى توسيع فضاءات المرئي، فضلا عن إغناء إيقاعات تلَقِّيه، عبر جمالية التحفيز النوعي، الذي تستدرج فيه اللغة أشياء العالم إلى مسكن أسمائها. إن الأمر يتعلق بمنبهات جزئية متناقضة أحيانا ومتعارضة، متعددة الاتجاهات ومختلفة الأقانيم، والتي تتشكل بها ومنها، خصوصية التجربة الشعرية، باعتبار أن هوية الكتابة، تتماهى مع هوية هذه التفاصيل، التي تعتمدها في بلورة رؤيتها للمرئي واللآمرئي. وكما هو واضح، فإننا نشير في هذا السياق إلى مرتكزات النظرة واللقطة، والتي يتحقق بهما فعل انتقاء التفاصيل، وكذلك إلى سرية وحميمية متخيل الكتابة، وهما معا، يترجمان ما تلهج به أعماق الذات من نداءات، حيث سيكون بإمكان القراءة، أن تهتدي بضوئها إلى ذاكرة الكتابة، بما هي ذاكرة حياة جلية ومتوارية، وأن تعيش تفاعلها وتحاورها، مع آلية انفلات النص، من دائرة المشترك إلى رحابات التفرد والاختلاف، كما سيكون بوسع القراءة ذاتها، أن تهتدي إلى الحديقة السرية التي تتوحد فيها ذات الكتابة بممكناتها، واستحالاتها. غير أن سريرة التفاصيل، لا تخلو من مكر، يتصدى للكتابة الرديئة، بفضح ممارساتها الاستنساخية لتفاصيل الآخرين، والكشف عن بؤس تشغيلها لها، باعتبار أن خاصيتي انتقاء التفاصيل وتشغيلها، تؤثران في إنتاج شعرية الكتابة بالسلب أو الإيجاب. ولعل أفظع ما يمكن أن يعتري هذه التفاصيل من بؤس، هو افتقارها إلى الحد الأدنى من المعرفة الشعرية، إلى جانب الافتقار إلى آليات تفعيلها، حيث يمكن رصده، في إخضاع شعرية اشتغال التفاصيل لمنطق التكديس العشوائي، حيث تقوم أداة العطف، بمهمة رتْق مِزقِ النص، التي تفشل في إقناع القراءة بتكامله العضوي، وهو ما يؤدي إلى موقعته، بعيدا عن أسئلته المركزية، التي تتمحور أساسا حول منهجية بنائه، ومنهجية استحداث مسالكه، التي يتحقق فيها انفصال التفاصيل عن خصوصيتها المنغلقة، وعن سكونية نسقها المرجعي، كي تندمج في بنيات علائقيةِ وديناميةِ النسق الشعريِّ، المتميز بصَهْرِه لخصوصية التفاصيل في مشترك الدلالة النصية. من هنا يمكن القول، إن أكثر التقنيات استعصاء على الكتابة،هي تقنية بناء النص على أرضية خلق حوار متكامل بين تفاصيلَ لا تنتمي بالضرورة إلى مرجعية واحدة وحقل دلالي واحد،ب اعتبار أن التفاصيل، هي الجسر الأكثر تماسكا، في تعميق ذلك التواصل الحميمي القائم بين القراءة والكتابة. إن نجاعة هذا التوظيف، تتمثل في تلك العلاقة الحوارية، التي تؤسسها الكتابة بين مكونات التفاصيل، في أفق محوها لما يفرق بينها من خطوط، عبر تعميم طاقة الشعري على أنحائها. ذلك أن سوء توظيفها، يُحدث بين العناصر فجوات عميقة، يَتعذر على القراءة عبورها، مما يؤدي إلى إحداث تقطعات في سيرورة التلقي، وإلى إشاعة حالة من البرودة القارصة في فضاء الكلمات. وبمعنى آخر، إن تقنية اللعب بالتفاصيل، هي المحك الذي تختبر فيه الكتابة كفياتها، مما يستوجب حضور وعي شعري ومعرفي بجمالياتها.علما بأن حضور هذا الوعي، يظل هو أيضا بحاجة إلى حضور عوامل محايثة، لعل أهمها تفاعل قوة تجربة المعيش بقوة تجربة المتخيل، باعتبار أن المعيش الفاتر، والباهت، والمفرغ من عنف الكينونة وجدلها، لا يمكن بحال من الأحوال، أن يقنعنا بجدوى توظيف هذه التفاصيل، مهما حاولت الكتابة تلميعها بسحر المتخيل، ومهما أسرفت في تهريبها من قصائد الآخرين إلى فضائها. إن قوة المعيش، هي إحدى السبل الأساسية المؤدية إلى التعدد الحيوي لإبدالات التفاصيل، والتي تسمح للكتابة باختيار ما ينسجم منها مع خصوصية اللحظة الشعرية، كما أن شعرية الروح، وشعرية الاجتراح، هي أيضا تساهم في توتير أجواء ما تم انتقاؤه، وما تم اختياره منها. إن دلالة المعيش في هذا السياق، تندرج ضمن رؤية الشعري والفكري، وليس ضمن رؤية الدواب، التي تختزله في متعة ومحنة التهافت البدائي والهمجي على النهش والاجترار. ومن المؤكد أن اليأس الذي يتسرب، إلى جسد الكتابة، كي تتساءل عن جدوى اعتبارها الملاذ المحتمل، الذي يحتمي به الكائن من الأنواء الفعلية والرمزية، التي تتهدد كيانه بالهدم ولتدمير، يعود إلى ذلك الخلل المباغت أو التدريجي، الذي يحدث أن تصاب به عين الكتابة، فتعمى عن رؤية ذاتها، ومع احتجاب هذه الذات يحتجب العالم، ساحبا معه تفاصيله إلى حافة العدم. إنه اليأس الذي يهدد كيان الحروف بالاحتراق دون أن تنبعث بالضرورة من رمادها، حيث تسري النار في أوصال آخر جسر من جسور التواصل الإبداعي والفكري مع أشياء العالم، كي يخيم ليل الغربة على الفضاء النصي، ويتحقق قطع دابر كل تلك المتع الرمزية، التي تتوج بجماليتها، تعدُّدَ وتنوع ما يتفاعل فيه من أصوات، وألوان، وأشكال. اليأس من الانتماء إلى طقس الاحتفاء برعب التفاصيل وفتنتها، هو تضحية ضمنية بحق الحواس في الامتثال إلى نداءات الأسفار المحيرة، التي لا تكف عن محو ما بين يديك من تفاصيل، كي تستضيفك في رحاب ما احتجب وما نأى. تسرب اليأس من لذة القول، هو انصراف تام عن مفترق الغوايات الأسلوبية والتخييلية، وتعطيل لحركية تراكم كَمِّي لكائنات ورموز مسكونة بمفارقاتها، والتي تسمح لنا بالاهتداء إلى مضارب الأسرار، وتخَلٍّ حزين عن تلك المغامرة العالية، المتمثلة في تعقب الدوامات العجائبية والغامضة، التي تحدثها أرواح التفاصيل في ثنيات النص. وهي الدوامات التي لا تسمح للرؤية المتحجرة بمعاينتها. لكن ومع ذلك، فحيث ثمة لحظة من زمن الكون، إلا وثمة سيل جارف من التفاصيل، التي تندرج مؤقتا ضمن مدونة ما سبق التفكير فيه، وما سبق التعرف عليه، بانتظار حضور لحظة انفتاحها على فضاءات التأمل، المعاينة، والتجريب الحسي، والعقلي، والشعري، والتي هي فضاءات الكتابة بامتياز، تبعا لما يقتضيه السياق، الذي يمليه بَرْدً نارِ الضرورة وسلامُها.