بعد باب المحروق أمضي مباشرة إلى «حومة الشوك « التي تبدأ طرقاتها صعداً نحو أعالي ليس كمثلها في نكران الذات إلا سهوبٌ لم يعرفها إنسان أبعد الجهات عن بلادي، ورغم ذلك فإن في أرض الشوك من سوف يذكرها ، إذا رياح ما ألقته هنا أو هناك ، بعيداً عنها ، وقد يبكيها كما يبكي كل نازح بلده. أتكون لللاجئ الهارب منها أغنية حنين ، يستعيد بها صور الأهل حين كان في أحضانهم، قبل أن تشتعل النيران حولها ، فتحرمه متعة التقاط صور الهدوء الأخيرة في سلام؟ *** كانت ترى دائما الشوكيين حين ينزلون من مرتفعات حومتهم ، وهم يتوزعون في طلب الرزق ،فإذا عادوا مساء اتفقوا على رفع بناء غرفة أو بيت يقي أُسَرهم سياط الهاجرة أو عصف رياح أيام البرد القارس ، كانوا كاللاجئين الهاربين ،وفي إثرهم كانت سياط تهرول أحيانا بأسرع مما يهرولون، فتلحق بمن تريد منهم ، وتعيده إلى حيث كان ، ليظل حلم اللجوء إلى جوار بحر ، قد يهيء لهجرة أبعد.يراوده إلى حين،أما من انتهى منهم إلى الاستقرار على هامش هذه المدينة ، ناجياً مما قبْلَ باب المحروق ، فإنه يخطط في الليل مع أصدقاء ألَّفت بين قلوبهم ظروف الفقر والقهر، وجعلت أياديهم تعمل من أجل خلق قرابات أسست لبناء حي غريب على الشوك ، فكأن لا جلود منهم تجرح بسنان. *** اقتربتْ جنان من حاجز البار ، وقد اشتعلت من خلفها أضواء كأنها النيران في حمرتها، صبَّت للزبون كأساً من مشروب هو النار حقاً لا شكلاً، ونظرت إليه نظرة باطنها حقد مشروع، كانت هي قد انحدرت عبر طرقات حومة الشوك إلى حيث يطلب منها أن تعمل بكل ما يصدر إليها من أوامر . الزبون فيها ملك لا يعصى له أمر، ولا تدري أيضاً أن أخاها يعمل في حقل الشيطان فيه إلهٌ يرزق ويقتل . *** وجنان همست لمن يقف قبالتها،كأنها تتعجب : أنا من الشوك .. فأسرعت إلى إخفاء دهشتي كأني أواسيها : جُنة الورد شوكه . همست في صوت هو إلى الحدة أقرب : ما أضيق هذه الحياة على كل من ولد أو كبر في حومة الشوك : لكن فرص الحياة تتسع كلما ابتعدتِ ... ألا ليتني أعرف طريقاً تسير بي إلى حيث أرى غصن وردٍ مورقاً، أو حتى قبل أن يورق. عضَّتْ جنان على إصبعها وهي تستحضر فرصاً ضائعة كان يمكن أن تحملها على أجنحة ترفرف بها إلى وضعية أفضل من وحل تسوخ فيه بكامل جسدها الآن، لكن لاَت حين مندم ، فقد ضاعت آخر خطوط الرجعة ، وعليها اليوم أن تتجرع كأسها المرة حتى الثمالة، فهل تتسع فرصة بعد أن ضيَّق ليل اليأس الكافر عليها الطرقات .. *** تشرف من أعالي الحي فلا ترى إلا الغبار ، والزحام، وأشتاتا من الناس وأفواجاً منهم تسير في كل الاتجاهات، وجميع ما يصعد على السطح لا ينطق عن حقيقة ما يجري في الأعماق، أعماق الدنيا ، وخفايا النفوس : هم كذبوا علينا في معظم الأوقات ، وصوروا لنا أننا ينبغي أن نسير من خير إلى خير ، فإن من يصنع خيراً يلق خيراً، فما هذا الذي يعصف بحومة الشوك التي اتسعت حتى كأن كل أهل الأرض كانوا أشراراً لتكون جحيم الشوك مصيرَهم. تشتد حيرة جنان، وقد غاب عن وعيها البار الأمريكي ورواده، وضمت أناها فلم تعد تسمع ، بعد أن صعدت من أعماقها زفرة حارقة ، وإلى عينيها دمعة، فإن بعض كرامة لايزال يفجر سيل أسئلة، فهي ترى أن من يبذرون المال الكثير هنا ، ليسوا أجانب فقط ، بل هم في معظمهم من بني جلدتها : هل قلت جلدتها ؟ ألا ترى أن جلدتهم ناعمة لدنة ؟ بالطبع، فقد ولدوا وعلى أفواههم ملاعق من ذهب . وعلى ظهورهم : ما يقيهم الشوك ، وهذا هو المهم . *** أولت عالم الكؤوس والملاعق الذهبية ظهرها، ولاحت لها في مرآة البار الداخلية صورتها، هي لا تختلف في أي شيء عن كثير ممن يطلبون السكر أمام هذا الكونتوار ، بل هي لم تجد لها مكاناً هنا إلا لأن مظهرها الجميل وجلدتها الرائعة اللون والرائحة والطعم أيضاً، كانا هما ما وفّر لها العمل في هذا المكان الذي لا كرامة فيه ، ولو لا صمت ذويها وذوي حومتها ، تحت ضغط القهر ، لكان لها شأن آخر ، ولكان لهم معها تصرف آخر أيضاً. في حومة الشوك ، للجراح مذاق يومي ، لا يذكر إلا بما يجب أن يحمي العائد ليلاً إلى حجرته ، من صدِّ غائلة الجوع، ودفع ظلم الزمان الذي ساق ناساً كثيرين إلى بئر فيها الظلام الكافر والجوع الذي لا حبيب له، بعد أن فروا من قُرَى كان لهم فيها أن يتمتعوا بالضوء رغم ضيق ذات اليد.هي تقف الآن حيث تلبي كل ما يطلب منها ، حتى ولو كان شديد الوخز ، لكنها وقد انحدرت من الشوك ، فقد تعودت جلدتها على قسوة الطعن، وشراب المر، فلا يزال في قلبها الكثير من المحبة لأمها ولأفراخ لم يشبوا بعد.