شرعت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في الاشتغال على ورش الذاكرة التاريخية المغربية الفلسطينية الذي تحرص على تأصيله والتأريخ له. وفي هذا السياق، قام وفد من جامعة القدس المفتوحة بزيارة عمل لبلادنا حيث أجرى محادثات بالغة الأهمية حول هذا المشروع الجاد والهادف إلى صون الذاكرة التاريخية المغربية الفلسطينية وإبراز مضامينها وجوانبها المشرقة الزاخرة بالأمجاد وروائع الكفاح الوطني. كما برمجت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير لقاءات عمل بين الوفد الفلسطيني المكون من عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ورئيس قسم التاريخ بها والمسؤول على فضائية الجامعة مع كل من السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر والسادة رؤساء جامعات مغربية خمسة وعمدائها وأساتذتها وهي: جامعة محمد الخامس بالرباط؛ جامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة؛ جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء؛ جامعة عبد المالك السعدي بطنجة- تطوان؛ جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. وفي أعقاب زيارة العمل، تم الاتفاق مع الجانب الفلسطيني، على التوقيع على مذكرة تفاهم التي أعدها الجانب المغربي، للشروع فورا في تفعيل هذا الورش العلمي والثقافي والتاريخي الذي يندرج في مجهود إرساء وتثمين الذاكرة التاريخية المشتركة. وقد سبق للسيد الدكتور مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أن ساهم في الندوة الفكرية التي نظمها مكتب جامعة الدول العربية بتونس ضمن فعاليات المنتدى العربي لجامعة الدول العربية بتونس تحت شعار «نضال المغاربيين لتحرير فلسطين» بإلقاء محاضرة في موضوع: «الأدوار الرائدة للحركة الوطنية المغربية في تحرير فلسطين، قبس من الذاكرة التاريخية المشتركة المغربية الفلسطينية». نورد نصها كاملا على صفحات جريدتنا، نظرا لأهميتها وراهنيتها. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أود في البداية أن أتقدم بالشكر والامتنان للأخ العزيز الأستاذ عبد اللطيف عبيد، الأمين العام المساعد، ورئيس مركز جامعة الدول العربية بتونس على دعوته الكريمة لي لمناقشة موضوع لم يغرب عن بال الشعوب المغاربية منذ أزيد من 67 سنة؛ إنه موضوع القضية الفلسطينية ونضال المغاربيين من أجلها وفي سبيلها. ولكم هي المناسبة مواتية والظرف حاث على مثل هذا اللقاء الفكري لما يشهده الشعب الفلسطيني من تقتيل والمسجد الأقصى المبارك من تدنيس بشكل ممنهج ويومي والأراضي الفلسطينية من قضم واغتصاب، وبالنظر للهبَّة الشبابية التي أشعل جذوتها شباب وشابات أراضي الضفة والقطاع وحتى من يسمون تجاوزا بعرب إسرائيل دفاعا عن القدس الشريف. وسعيا للإسهام في مقاربة خصوصية التضامن الذي تميز به المغاربة مع القضية الفلسطينية، سأتناول المسارات والمحطات التاريخية التي تبسط الفعل التضامني للمغرب دولة وشعبا ومجتمعا، والتزامه الأخلاقي تجاه القضية العربية والإسلامية الأولى « القضية الفلسطينية « والانتقال بهذا السلوك من المستوى النظري إلى واقع الميدان ضمن الحدود والمستويات الممكنة. وأود أن أستهل الموضوع باستقراء وعرض سريع للذاكرة التاريخية المغربية الفلسطينية المشتركة والمتقاسمة منذ ما قبل النكبة وهي التي أسميها: 1-حفريات في الذاكرة المشتركة المغربية الفلسطينية: تشهد الوقائع وكتب التاريخ والسير أن المغاربة من بين الشعوب الأكثر تعلقا بالقدس خصوصا وبفلسطين التاريخية عموما. فالحديث عن فلسطين بقدسها بالنسبة للإنسان المغربي يثير كوامن النفس ومشاعر الألم والأمل ، واليأس والرجاء، والتسامح والفداء... ذلك أن فلسطين والقدس بالنسبة للإنسان المغربي هما مهوى أفئدة مئات ملايين المسلمين وقبلتهم الأولى وحجهم الثالث، وهي مهبط الأنبياء ومسرى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه. لكل هذا وغيره، شكلت فلسطين ولا تزال جزءا من الذاكرة المشتركة والمتقاسمة بين أهلها وأبناء الشعب المغربي. وفي اعتقادي ما من مدينة في التاريخ استأثرت باهتمام المغاربة كما استأثرت به مدينة القدس، ذلك الاهتمام النابع من الوجدان المغربي القح وقيمه الروحية والحضارية. فبعد نداء البابا أوربان الثاني سنة 1095م، وتمكن الحملات الصليبية من إخضاع القدس للاحتلال الصليبي، انبرى عدد من قادة المسلمين للتصدي له، ومن بينهم القائد البطل صلاح الدين الأيوبي الذي توجهت انظاره نحو الجناح الغربي من العالم الإسلامي حيث كان يومها معاصره السلطان يعقوب المنصور الموحدي، فوجه إليه سفارة يطلب من خلالها مده بالأساطيل لمواجهة جيش الإفرنج. وفي هذا الصدد، يقول ابن خلدون: «ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله تعالى أعلم .» ومهما اختلفت المصادر حول هذا الموضوع، فإنها تجمع على حضور أهل المغرب بأرض الشام وقتالهم المستميت لجيش الفرنجة، مما بوأهم مكانة مرموقة لدى صلاح الدين الأيوبي وابنه الذي يرجع له الفضل في تخصيص بقعة أرضية بجوار المسجد الأقصى لمن آثروا المكوث في فلسطين من المغاربة بعد أداء واجب الجهاد، وهي القطعة الأرضية التي حملت اسم حي المغاربة وبابه المشهورة أيضا « بباب المغاربة». واستدلالا على أن للمغرب والمغاربة علاقة خاصة بالقدس وفلسطين، تحدث الرحالة ابن بطوطة والعلامة أحمد المقري والمؤرخ أبو القاسم الزياني وغيرهم عن عقارات ومدرسة ومساجد تنسب للمغاربة في القدس؛ كالوقف المنسوب للمجاهد الشهير الشيخ عبد الله المصمودي المغربي على سبيل المثال لا الحصر. واجتهدت الدولة المرينية في تنمية الأوقاف المغربية في القدس، وكان سلاطينها أنفسهم ينسخون المصاحف بخط أيديهم ويبعثونها لمكتبات القدس الشريف تعبيرا عن تعلقهم به. واستمرت الصلات قائمة ومتصلة على عهد السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذهبي الذي كان يستقبل في قصره «البديع» بمراكش العديد من علماء القدس. ومجمل القول، إن فلسطين ظلت على مر الأزمنة والحقب بالنسبة للمغاربة أرضا للزيارة يقصدونها جيئة وذهابا «يقدسون ويخللون» على حد تعبيرهم، أي يزورون مدينتي القدس والخليل، سواء كان طريقهم نحو الحجاز لأداء مناسك الحج أو نحو العاصمة العثمانية اسطنبول في مهمات سياسية ودبلوماسية. 2- فلسطين في ذاكرة الحركة الوطنية المغربية إبان فترة الحماية: الحركة الوطنية المغربية والقضية الفلسطينية بين سنتي 1939-1930. إن اختيار هذا التاريخ كمحدد زمني لاهتمام الحركة الوطنية المغربية بالقضية الفلسطينية لا يعني غياب القضية عن بال المغاربة، ولكن وبسبب ظروف الاحتلال العسكري الفرنسي والإسباني، وكذا أوضاع التجزئة للكيان المغربي والمواجهات التي لم يهدأ أوارها إلا في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين، لم تنضج لدى المغاربة مواقف داعمة على أعلى مستوى أو تتجسد على أرض الواقع. وكما يذكر المرحوم العلامة الزعيم علال الفاسي (في كتابه الحركات الاستقلالية في المغرب العربي)،» لم تكن هناك ردود فعل واضحة لمساندة القضية الفلسطينية قبل انطلاق المغاربة في حركة سياسية وطنية لمجابهة نظامي الحماية الفرنسية والاسبانية، ذلك أن مرحلة العشرينات كانت مرحلة نضال مسلح في المغرب وبالتالي شغلت الكثيرين من المغاربة عن الاهتمام بقضايا خارج نطاق المغرب». وقد كانت أحداث البراق بالقدس أواخر سنة 1929 المناسبة الاولى التي عبر فيها الوطنيون المغاربة علانية عن استنكارهم للواقعة، حيث حصل تحرك جماهيري على نطاق واسع في بعض المدن المغربية كتطوانوسلا وفاس عبر خلاله المنتفضون والمتظاهرون عن احتجاجهم ضد السياسة البريطانية المتواطئة مع الصهاينة، وذلك برفع وثيقة احتجاج وتنديد إلى رئيس الوزراء البريطاني ماكدونالد MacDonald قدمها الزعماء الوطنيون المغاربة علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني جاء فيها: «نبلغكم استياء عموم المغاربة المسلمين استياء عميقاً للحوادث المؤلمة التي وقعت في فلسطين والظلم الفادح الذي أصاب المسلمين بتلك الناحية من جراء المساعي الصهيونية .... وان المساعدة التي تقدمها السلطة الانجليزية تجعل أربعمائة مليون من المسلمين في سخط تام على السياسة الانجليزية....». وقد كان لهذه الوثيقة الاحتجاجية صدى كبير داخل المغرب وخارجه. وسعت سلطات الحماية الاسبانية بشمال المغرب والتي كانت تقلقها علاقات أهل مدينة تطوان بالفلسطينيين وبمفكري المشرق العربي من قبيل الأمير شكيب أرسلان ومواظبتهم على قراءة الصحف الفلسطينية إلى إعاقة النداءات التي وجهها الشباب المغربي لأهل المدينة قصد التضامن مع أهل فلسطين بالاعتقال والسجن. وفي يونيو 1930، وعلى إثر إصدار سلطات الإقامة العامة الفرنسية لما سمي ب «الظهير البربري السيئ الذكر»، بلغ النضج والوعي الوطني لدى المغاربة شأوا كبيرا ومدى بالغا وازداد معه اهتمام المغاربة بالقضايا الوطنية والقومية، لاسيما القضية الفلسطينية ، وقد انضم وفد مغربي مكون من شخصيات وطنية إلى المؤتمر الإسلامي العام بالقدس، من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية . وكانت لاندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936 بسبب ارتفاع أعداد المهاجرين اليهود بين عامي 1933 و 1935 أصداء واسعة في صفوف الحركة الوطنية المغربية ، ففي مدن الرباط وفاس والدارالبيضاء، خرج الوطنيون المغاربة في مظاهرات صاخبة وقدموا عرائض استنكار واحتجاج أرسلت إلى القنصلية البريطانية جاء فيها: « ... نستنكر هذه السياسة الغاشمة ونعتقد أن ﺃرض فلسطين جزء من البلاد الإسلامية ونحن متضامنون أدبياً مع إخواننا الفلسطينيين... ولا يمكن أن نغض الطرف عما يجري في تلك البلاد التي تربطنا بها روابط مقدسة...». كما طالب الوطنيون المغاربة اليهود في المغرب بعدم تقديم أي دعم للصهيونية في فلسطين والإبقاء على العلاقات الجيدة التي تجمعهم في المغرب. وعلى اثر قيام الحكومة البريطانية بتقديم تقريراللجنة الملكية ،لجنة بيل عام 1937 والتي أوصت بتقسيم فلسطين وإنشاء دولة يهودية فيها، بعث أهل مدينة سلا الذين اجتمعوا في المسجد الاعظم رسالة إلى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني يستنكرون فيها وبشدة قرار التقسيم الذي عدوه «...سبة على جبين التاريخ وإهانة للعروبة والدين الحنيف ...». كما أرسلوا عريضة احتجاج للقنصل العام البريطاني اعتبروا فيها قرار التقسيم «إهانة في الصميم لجميع الشعوب الإسلامية واحتقارا للوطنية وضربة في الاعماق للوحدة الإسلامية المقدسة...». كما أسس الزعيم علال الفاسي» لجنة حماية فلسطين والأماكن المقدسة» مهمتها العمل على إشعار الرأي العام المغربي بمخطط الاستعمار والصهيونية على العروبة والإسلام. ومن أجل مضاعفة الاهتمام الوطني المغربي بالقضية الفلسطينية، انبثقت عن حزب الاصلاح المغربي، بزعامة المرحوم عبد الخالق الطريس في منطقة الحماية الاسبانية شمال المغرب « اللجنة القومية للدفاع عن فلسطين» لجمع التبرعات وبعث الاحتجاجات وإذاعة بيانات الهيئة العربية العليا في فلسطين على الشعب المغربي. كما عملت اللجنة على اقامة مهرجان مشترك بالتنسيق مع لجنة حماية فلسطين والأماكن المقدسة المنبثقة عن الحزب الوطني، أطلق عليه يوم فلسطين وتعهد الوطنيون بإقامته كل عام. وبذل حزب الوحدة المغربية بزعامة المرحوم محمد المكي الناصري في منطقة الحماية الاسبانية أيضا جهوداً كبيرة لتعريف الرأي العام المغربي بالقضية الفلسطينية وكشف المخططات والدسائس التي تحيكها الصهيونية داخل المغرب نفسه، ودعا زعيم الحزب يهود المغرب الى الانخراط في نضال العرب ضد الصهيونية وعدم الانسياق وراء المخططات الاستعمارية الاوروبية ، لافتا النظر إلى تسامح المسلمين تجاه اليهود خلال نكباتهم بالبلدان الأوروبية. وبمناسبة صدور الكتاب الابيض من قبل بريطانيا سنة 1939، نبهت جريدة «بريد الصباح»، لسان حال حزب الحركة القومية بزعامة المرحوم محمد بلحسن الوزاني، المغاربة لما يجري بفلسطين من خلال مقالة نشرتها الجريدة قدمت فيها لمحة تاريخية عن سعي الحركة الصهيونية إلى تشكيل قوة تتمكن من خلالها من تحقيق وعد بلفور بمساندة بريطانيا، وقد ذيلت الجريدة مقالتها بالقول إن حزب الحركة القومية كحزب عربي مسلم يرى أن من أوجب الواجبات في حقه أن يعمل ما في وسعه في سبيل دعم ومؤازرة فلسطين. وعلى إثر الأحداث المتأزمة في فلسطين سنة 1939، وما صاحبها من أعمال عنف بحق الفلسطينيين، قامت الأحزاب الوطنية المغربية في جنوب المغرب وشماله بحملة وطنية لجمع التبرعات سميت ب «حملة إغاثة منكوبي فلسطين «. الحركة الوطنية المغربية وتطور القضية الفلسطينية 1939- 1948: لم تحظ القضية الفلسطينية بما يجب من كبير الاهتمام من قبل الحركة الوطنية المغربية خلال الحرب العالمية الثانية في الفترة من 1939 إلى 1945 ، ومرد ذلك إلى ما تعرض له قادة الحركة الوطنية ومؤيدوها من اضطهاد واعتقالات على أيدي سلطات الحمايتين الفرنسية والاسبانية على حد سواء، زيادة على معاناة المغرب اقتصاديا من أتون الحرب العالمية لاسيما بعد الغزو النازي الألماني سنة 1940. إلا أنه وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية وما شهدته الحركة الوطنية من تطور نوعي تميز بالجهر بمطلب الاستقلال الوطني بوضوح كامل واكتسابها مزيدا من الجرأة والتقدم في التصدي للسلطات الاستعمارية، عرف اهتمام الحركة الوطنية المغربية تحولا جذريا ونوعيا في العلاقة بالقضية الفلسطينية بحيث تم الانتقال من النضال الوطني المحلي إلى النضال العروبي والإسلامي عبر جامعة الدول العربية والهيآت التي برزت بعد انتقال مركز نشاط الحركة الوطنية المغربية من باريس إلى القاهرة عام 1947، غداة لجوء محمد بن عبد الكريم الخطابي، بطل ثورة الريف إلى مصر في العام ذاته، والتي أعطت تصريحاته لدعم القضية الفلسطينية عمقاً للعلاقة التي جمعت الوطنيين المغاربة بفلسطين، اذ أشار في إحدى تصريحاته: «... إن فلسطين بلاد عربية ولا بد أن تبقى عربية... وهي لم تغب عن بالي عندما كنت في المنفى». كما كان البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي حريصا على إعلان تأييده للقضية الفلسطينية بقوله :»... نؤيد كفاح الشعب العربي الفلسطيني ونتضامن معه من أجل إحقاق الحق العربي في فلسطين». كما بين موقف المغاربة من القضية الفلسطينية بقوله: «...إن المغاربة ومنذ 25 سنة رفضوا وعد بلفور وما زالوا يساهمون في الجهاد العربي من أجل فلسطين». وصرح محمد بن عبد الكريم الخطابي في نفس السنة عن استعداده لقيادة أبناء المغرب العربي في تحرير فلسطين وإحياء خطته التي انتهجها في حرب التحرير الريفية بين عامي 1921 و 1926. ومن الجدير بالذكر أن العديد من القياديين الفلسطينيين كانوا يترددون عليه في القاهرة للاستفادة من خبرته العسكرية في حرب العصابات الشهيرة اللصيقة باسمه وبثورته الشعبية. ج- موقف الحركة الوطنية المغربية من قرار التقسيم الدولي عام :1947 في 29 نونبر1947 ، اتخذت الجمعية العامة لهيئة الأممالمتحدة قرارها تحت رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية وحكم دولي خاص بالقدس. وقد واكبت الحركة الوطنية المغربية تطورات وتداعيات القضية الفلسطينية في ردهات ومكاتب الأممالمتحدة، واتخذت مواقف وازنة ومتميزة عبرت من خلالها عن موقفها الداعم لنضال الشعب الفلسطيني. ففي 21 دجنبر 1947، عقد المجلس الاعلى لحزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي جلسة استثنائية للنظر في القرار 181 ، وبعد الاجتماع، اصدر الحزب بياناً موجها إلى الشعب المغربي بجميع مكوناته مسلمين ويهودا، مطالبا اياهم بوحدة الصف والتعبئة لمواجهة الفكر الصهيوني، ومما جاء فيها: «... يطلب الحزب من جميع المغاربة أن يقاوموا فكرة الصهيونية ويعرقلوا أعمالها... ويوجه هذا الطلب بصفة خاصة إلى المواطنين اليهود ليتعاونوا مع إخوانهم المسلمين في هذا العمل الانساني الذي يرمي إلى الدفاع عن حقوق سكان فلسطين الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود على السواء...». كما بعث المجلس الاعلى لحزب الاستقلال برقية إلى الامين العام لهيئة الاممالمتحدة، وأكد على دوره العربي في القضية الفلسطينية من خلال إرسال برقية إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، مؤيدا فيها جهودها ومساعيها الحثيثة في جميع قرارات مجلسها في سبيل الدفاع عن الارض المقدسة. موقف الحركة الوطنية المغربية من الحرب العربية الإسرائيلية لعام 1948: ازدادت القضية الفلسطينية تعقيدا عندما عمدت سلطات الانتداب على فلسطين في 15 ماي 1948 إلى الاعلان عن انهاء الانتداب والتآمر مع الصهيونية لقيام دولة اسرائيل في اليوم ذاته. ونتيجة لذلك، اتخذ مجلس الجامعة العربية قرارا بزحف الجيوش العربية الخمسة لدول العراق وسوريا ولبنان والاردن ومصر نحو فلسطين لإخراج العصابات الصهيونية منها، مما ادى الى اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الاولى عام 1948. وتعبيرا عن مظاهر التضامن المغربي مع دول المشرق العربي في حربها ضد الكيان الصهيوني، أخذت الحركة الوطنية المغربية على عاتقها زمام المبادرة تجاه التفاعل والتضامن مع الجيوش العربية المحاربة في فلسطين. وهكذا، بادرت القيادات الوطنية في المغرب وتونس والجزائر للتنسيق والعمل على تهيئة متطوعين مغاربيين وإرسالهم للمشاركة في حرب فلسطين. كما نظمت الحركة الوطنية المغربية مهرجانات خطابية ووزعت مناشير لتوعية الشعب المغربي بحقيقة الحركة الصهيونية وخطرها على الوحدة العربية. وفي القاهرة، التي كانت مركز تجمع الحركات الوطنية المغاربية، سارعت قيادات الحركات الوطنية الثلاث –المغرب-تونس- الجزائر- إلى فتح مكاتب لتسجيل أسماء المتطوعين من أبناء المغرب العربي، الذين وفدوا الى القاهرة وانضموا إلى المتطوعين العرب المشاركين في حرب فلسطين في 1948. ويشير الزعيم علال الفاسي إلى ان مجموع متطوعي ابناء المغرب العربي بلغ خمسة آلاف متطوع توجه معظمهم إلى فلسطين، ومن لم يتمكن منهم من الوصول إليها، فبسبب الرقابة التي كانت تمارسها السلطات الاستعمارية. وقد لعبت لجنة تحرير المغرب العربي بزعامة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي دورا ملموساً في الدفاع عن فلسطين، وذلك عندما أوعزت من خلال خطابات زعيمها إلى المغاربة المجندين في صفوف الجيش الفرنسي المتوجه إلى الهند الصينية آنذاك، بالفرار من البواخر الفرنسية العابرة لقناة السويس والالتحاق بالمتطوعين المغاربة المشاركين في الحرب الدائرة بفلسطين. وعن مظاهر الدعم المادي للمغاربة في الحرب العربية الاسرائيلية، قامت الحركة الوطنية المغربية بحملات واسعة داخل المغرب وخارجه لجمع التبرعات من الأوساط الشعبية التي لم يتسن لها المشاركة في الحرب، وقد تم دفع جزء من الاموال إلى جامعة الدول العربية ورصد جزء منها للجيوش العربية. شخصيات وعائلات مغربية في معترك النضال الفلسطيني : شكلت القضية الفلسطينية إحدى القضايا الرئيسة التي جسد من خلالها المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، قيم التضامن في أسمى صورها. وقد كانت محور عمل ونشاط عدد من الشخصيات الوطنية. أ-محمد الخامس و القضية الفلسطينية: على الرغم من واقع الحصار الذي فرضته معاهدة الحماية على السلطان سيدي محمد بن يوسف في مجال العلاقات الخارجية، فإن القضية الفلسطينية ظلت قضية محورية في أجندة انشغالاته، ولم يفوت الفرصة أبدا ليوضح موقفه من هذه القضية. فبعد الإعلان عن قيام إسرائيل سنة 1948، سارع الصدر الأعظم المغربي -وهو منصب يوازي رئيس الوزراء- محمد المقري بإرسال برقية تضامن إلى الامين العام لجامعة الدول العربية باسم السلطان محمد بن يوسف، أعلن فيها تضامنه مع ملوك ورؤساء الدول العربية في حربهم ضد اسرائيل، مما أثار حفيظة المقيم العام الفرنسي الذي اعتبر تلك البرقية خرقاً لبنود معاهدة الحماية ، لاسيما فيما يتعلق باتصال سلطان المغرب بدول أجنبية من غير وساطة الإقامة العامة للحماية الفرنسية. وعلى الصعيد الداخلي، وجه السلطان سيدي محمد بن يوسف رسالة تضامنية مع الشعب الفلسطيني قرئت على منابر المساجد بالمغرب ومما جاء فيها: « إننا بما خولنا الله جلت قدرته وتعالى شأنه من النظر في أمركم والسهر على مصالحكم، نوجه إليكم هذا البلاغ لتعملوا به وتقفوا عند حده . . . منذ بضعة أيام، اشتعلت نار الحرب في أرض فلسطين المقدسة بعد أن يئس العرب من إقناع الصهيونيين بالعدول عن فكرة الاستيلاء على تلك البلاد وإخراج أهلها منها . . . ونحن إذ نعلن اتفاقنا التام فكرا وقلبا مع ملوك العرب ورؤساء دولهم الأماجد كما اشعرناهم بذلك، نؤيد ما صرحوا به من أن العرب لا يظهرون لليهود سوءا ولا ينوون بهم عداء، وإنما غايتهم الدفاع عن القبلة الأولى للإسلام وتثبيت السلم والعدل في الأراضي المقدسة مع بقاء اليهود على حالتهم المعهودة منذ الفتح الإسلامي». وأضاف السلطان سيدي محمد بن يوسف مخاطبا رعاياه:» نأمر رعايانا اليهود أن لا ينسوا أنهم مغاربة تشملهم رعايتنا. وقد وجدوا لدينا في مختلف الظروف أحسن مدافع عن مصالحهم وموف بحقوقهم، فيجب عليهم أن لا يقوموا بأي عمل فيه تأييد للصهيونيين المعتدين أو تضامن معهم لما في ذلك من المساس بحقوقهم الخاصة وبالجنسية المغربية. ونحن على يقين من أنكم أيها المغاربة أجمعون، ستلبون نداءنا وتكونون عند حسن ظننا بكم حتى يظل الأمن العام محفوظا والسلام سائدا لهذا الوطن العزيز». ب-عائلة بنونة التطوانية والقضية الفلسطينية: يعود اهتمام النخبة المثقفة التطوانية، بالقضية الفلسطينية إلى سنة 1928 عندما التحق أفراد منها للدراسة بفلسطين بمدرسة «النجاح» بنابلس. ويعتبر المرحوم الطيب بنونة أول من سافر إلى فلسطين بمفرده للدراسة بها سنة 1928. وبعده، ستتوجه أول بعثة من مدينة تطوان للدراسة بمدينة نابلس بفلسطين، تتكون من المهدي بنونة وأخيه إدريس وعدد آخر من شباب تطوان. وشكلت القضية الفلسطينية محور اهتمام المغاربة منذ ذلك الحين، حيث قرر حزب الإصلاح الوطني المشاركة في أعمال المؤتمر الإسلامي العام المنعقد في القاهرة للبحث في قضية فلسطين. وشارك الحزب بوفد كبير ضم رئيس الحزب عبد الخالق الطريس، وكاتبه العام الطيب بنونة، خصوصا وأن هذه القضية يقول عنها أبو بكر بنونة، أنها «كانت تطغى على اهتمام الحركة الوطنية بشمال المغرب حتى قبل خروج الحزب إلى حيز الوجود». وتضامنا مع ما يحدث بفلسطين، نظمت وقفات داخل تطوان لنصرة فلسطين كما نظمت حملة لجمع التبرعات لفائدة ضحايا ومنكوبي فلسطين. وقد ألقى حينها الطيب بنونة كلمة للتعريف بالقضية الفلسطينية، منددا «بتشريد الأسر الفلسطينية وإطلاق النار على الأبرياء وتشويه أجسام الشهداء وتهديم بيوت الله». ولما أقدم الوطنيون على اقتحام المجال الدولي بفتح حزب الإصلاح الوطني لمكتب إعلامي له في نيويورك في أبريل 1947، كان المهدي بنونة الإطار الذي أوكلت إليه مهمة التعريف بقضايا مجموع أقطار المغرب العربي. بل إن مساهمة المهدي بنونة شملت كذلك القضية الفلسطينية ومختلف القضايا العربية التي كانت متداولة، إيمانا من جيل تلك الفترة بوحدة الهدف والمصير. ومن المناضلين التطوانيين المشهود لهم بالوقوف إلى جانب الأشقاء في فلسطين في حرب 1948 المناضل محمد بنونة الذي عمل طبيبا عسكريا في صفوف الجيش الفلسطيني والذي التحق فيما بعد بمكتب المغرب العربي بالقاهرة إلى جانب الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقد اضطلع غذاة الاستقلال بمهام دبلوماسية في عهد جلالة المغفور له محمد الخامس كسفير بلبنان وإيران ولباكستان وكدبلوماسي بالبعثة المغربية لدى الأممالمتحدة. ج-إبن عائلة قصرية، من مدينة القصر الكبير، يتوجه للتطوع بفلسطين: إنه الهاشمي الطود المزداد سنة 1930 بمدينة القصر الكبير. بعد مشوار دراسي ناجح وتخرجه سنة 1951 من الكلية العسكرية الملكية ببغداد برتبة ملازم ثاني متخصص في سلاح المدرعات، هاجر سنة 1945 إلى المشرق العربي مشيا على الأقدام، ليصل إلى مصر بعدما يقرب من أربعة أشهر، ليتطوع للقتال في فلسطين على الجبهة المصرية ضمن وحدات المتطوعين العرب بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وذلك استجابة لنداء بطل معركة أنوال بالريف المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي دعا فيه العرب والمسلمين للجهاد بعد صدور قرار تقسيم فلسطين من مجلس الأمن الدولي، وهناك خاض غمار معارك بطولية، أولا في موقع البريج، جنوبيغزة في مواجهة العصابات الصهيونية، وبعدها في مواجهات عديدة في ‘'بربرة'' و''دير ياسين و''أسدود'' و''عسقلان››. وعن المجاهدين المتطوعين المغاربة، يقول الهاشمي الطود أطال الله عمره، في إحدى تصريحاته الصحفية أنهم كانوا 12 فردا، ويتذكر منهم بالإسم خمسة وهم: محمد بن صبيح من تطوان، محمد البرنوصي من مدينة مكناس وهو من الضباط الذين تدربوا على يديه في الكتيبة 13 بالعراق، عبد الكريم الفيلالي ومحمد المزكلدي من الدارالبيضاء، وأيضا عمر الوزاني من مدينة وزّان وكان جنديا في الجيش الفرنسي، ولمّا وصله خبر الجهاد في فلسطين، وهو يومها في طريقه إلى الحرب الهند الصينية، فرّ والتحق بالمجاهدين المتطوعين. خلاصة يظهر من خلال هذه الشواهد التاريخية، أن المغاربة كانوا حاضرين بقوة وعزم وإصرار إلى جانب أشقائهم في فلسطين الذين طالتهم يد العدوان الصهيوني. ويشهد للملك المجاهد ولأقطاب الحركة الوطنية المغربية بمواقفهم البطولية في تلبية نداءات الاستغاثة، وهي النداءات التي لقيت أصداء واسعة في الأوساط المغربية على المستويين الرسمي والشعبي. وشهد عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني انعطافا كبيرا في الموقف المغربي الداعم لقضية فلسطين التي جعل منها قضية مصيرية للوجود العربي. فلقد احتضن مغرب الحسن الثاني العديد من القمم العربية والإسلامية منذ أول مؤتمر قمة إسلامية في 1969 انبثقت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي. وبلور جلالة الحسن الثاني ادوارا رائدة وطلائعية في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، مثلما سخر جهوده ومساعيه الحثيثة لتوحيد الصف الفلسطيني حول منظمة التحرير الفلسطينية. حسبنا، أن نكون من خلال هذا الاسترجاع التاريخي قد أحطنا بجزء من الذاكرة التاريخية المغربية الفلسطينية المشتركة، والتي هي ذاكرة نضال بامتياز، بحمولتها الثقيلة من القيم الدينية و الإنسانية و الأخلاقية المثلى. واليوم، فإن المغاربة سائرون على نفس النهج وثابتون على المبادئ النضالية وقيم التضامن و التعاون وفضيلة دعم ومؤازرة الشعب الفلسطيني في نضاله المتواصل من أجل إقامة دولته ال مستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وفي هذا السياق، يضطلع صاحب الجلالة الملك محمد السادس بأدوار طلائعية في الذود عن حمى فلسطين وحياضها ووحدة صفها وحماية القدس الشريف برئاسته لبيت مال القدس الذي يشكل دعامة مالية واجتماعية وتراثية للمقدسيين في مواجهتهم للتحدي الصهيوني ولمؤامرة التهويد المستمرة منذ أزيد من 67 سنة. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. * المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير