دعا عبد الحميد مهري أحد مؤسسي الدولة الجزائرية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للاستجابة الى موجة الاضطرابات التي تجتاح العالم العربي بتغيير نظام حكم وصفه بأنه غير ديمقراطي وعفا عليه الزمن. وقال مهري الامين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بالجزائر في خطاب وجهه الى بوتفليقة ان الجزائر في حاجة الى تغيير جذري قبل أن تحتفل العام القادم بالعيد الخمسين لاستقلالها عن فرنسا. وتابع مهري في رسالة وجهها إلى الرئيس الجزائري ، ان النظام الحاكم لم يعد قادرا على مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الامة. وقال ان الاصوات التي تنادي بتغيير سلمي لهذا النظام كثيرة, معتبرا أن هذا التغيير يجب ألا يتأخر أكثر من ذلك وتكتسب كلمات مهري ثقلا لأنه كان شخصية قيادية في كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي وساعد في صياغة هوية البلاد بعد الاستقلال. ومهري ، 84 عاما ، واحد من جزائريين اثنين فقط مازالا على قيد الحياة ممن شاركوا في مفاوضات معاهدة ايفيان التي أنهت 130 عاما من حكم الاستعمار الفرنسي للجزائر بعد حرب الاستقلال التي سقط فيها مئات الالاف من القتلى. وبموجب دستور الجزائر, تتركز السلطة السياسية في يد الرئيس والبرلمان وهما منتخبان, لكن معظم المحللين يقولون ان قوات الامن لها نفوذ قوي على صناعة القرار في البلاد. وفي مايلي نص الرسالة التي وجهها مهري إلى بوتفليقة . الأخ عبد العزيز بوتفليقة رئيس الجمهورية أتوجّه إليك بهذه الرسالة ، في ظرف بالغ الدقة والخطورة، وأنا مدرك أنه لا يخوّلني هذا الشرف إلا الروابط الأخوية والمبادئ التي جمعتنا في مرحلة الكفاح من أجل حرية بلادنا واستقلالها، واعتقادي بأنّ هذه الروابط ما زالت تمثّل القاسم الذي يمكن أن تلتقي حوله الإرادات الخيّرة لخدمة بلادنا وسعادة شعبنا. وقد فضّلت هذه الطريقة المفتوحة لمخاطبتك، لأنك تحتلّ موقع الصدارة والأولوية ، ولكنك لست الوحيد المقصود بمحتوى الرسالة، ولا الجهة الوحيدة المدعوّة لمعالجة القضايا التي تطرحها. وقد توخّيت في هذه الرسالة قدرا من الصراحة التي كانت سائدة في مداولات الهيئات القيادية للثورة الجزائرية، والتي كانت - رغم تجاوزها حدود المقبول أحيانا - أفضل بكثير من الصمت المتواطئ، أو المسايرة الفاقدة لأي اقتناع. السيد الرئيس، إنك اليوم في قمّة الهرم لنظام حكم لست مسؤولا وحدك عن إقامة صرحه. فقد شارك في بنائه، بالرأي أو العمل أو الصمت ، كلّ من تولّى نصيبا من المسؤوليات العامة بعد الاستقلال. لكنك اليوم، بحكم موقعك، تتحمّل، ومعك جميع الذين يشاركونك صنع القرار، مسؤولية كبيرة في تمديد فترة هذا الحكم الذي طغت، منذ سنين، سلبياته على إيجابياته، ولم يعد، فوق هذا كله، قادرًا على حل المشاكل الكبرى التي تواجه بلادنا، وهي عديدة ومعقّدة، ولا قادرًا على إعدادها الإعداد الجيد لمواجهة تحدّيات المستقبل، وهي أكثر تعقيدا وخطورة. إنّ نظام الحكم الذي أُقيم بعد الاستقلال انطلق، في رأيي، من تحليل خاطئ لما تقتضيه مرحلة بناء الدولة الوطنية. فقد اختار بعض قادة الثورة، في غمرة الأزمة التي عرفتها البلاد سنة 1962، استراتيجية سياسية انتقائية لمواجهة مرحلة البناء بدل الإستراتيجية الجامعة التي اعتمدها بيان أول نوفمبر 1954، والتي سادت، رغم الخلافات والصعوبات، في تسيير شؤون الثورة لغاية الاستقلال. فأصبح الإقصاء، نتيجة لهذا الاختيار، هو العامل السائد في التعامل السياسي، ومعالجة الاختلاف في الرأي. وأصبحت الفئات أو الدوائر السياسية التي تحظى بالاختيار في أول الشهر، عرضة للإقصاء والتهميش في آخره. فنتج عن هذه الممارسة، التي أصابت عدواها كذلك بعض أحزاب المعارضة، عزوف آلاف المناضلين عن العمل السياسي، وانكماش القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم، وتضييق دائرة القرار في قمته. وقد ورث نظام الحكم، بالإضافة إلى طابعه الإقصائي، أنماطا وممارسات أفرزتها ظروف الكفاح الصعبة، وتبنّاها في تسيير الشؤون العامة بعد الاستقلال. كما تغذّى باجتهادات واقتباسات لم ينضجها النقاش الحر، ولم يصقلها، عبر مراحل تطوّرها، التقييم الموضوعي، الذي كان هو الغائب الأكبر في تجربة الحكم في الجزائر. لقد كانت تُنظّم، في كل مرحلة من مراحل هذا النظام، بدل التقييم النقدي الموضوعي لنظام الحكم، حملات التمجيد أو التنديد المفصّلة على مقاس الأشخاص، وتلوين العشريات بما يكفي للتستر على طبيعة نظام الحكم وممارساته، ولونه الحقيقي الذي لا يتغيّر بتغيير الأشخاص. إنّ الأصوات المطالِبة بتغيير هذا النظام، والحريصة على أن يتمّ هذا التغيير في كنف السلم والنقاش الحر، كثيرة، والمؤشرات التي تنبّه لضرورة هذا التغيير ظاهرة للعيان منذ سنوات عديدة، ولكنها تكتفت، في الأشهر الأخيرة، بقدر لا يمكن معه التجاهل أو التأجيل. إنّ الأحداث التي تقع عندنا باستمرار، والتي تقع حولنا منذ أشهر، تذكّر بمثيلات لها عرفتها بلادنا في شهر أكتوبر سنة 1988، وما نتج عنها من أحداث خطيرة وأزمات، ومآس ما زال الشعب يتجرّع كؤوسها المرّة. ويزيد من خطورة أحداث هذا المشهد عندنا، أنّ الخطاب الرسمي، في مستويات مسؤولة، يخطئ، أو يتعمّد الخطأ، في قراءتها، ويهوّن من تأثيرها، وينكر دلالتها السياسية الكبرى بدعوى أنّ المطالب المرفوعة من طرف المتظاهرين لا تتضمّن أيّ مطلب سياسي. وغرابة هذه القراءة والتحليل تتجلّى عندما نتصوّر طبيبا ينتظر من مرضاه أن يكتبوا له وصفة العلاج! إنّ مثل هذه القراءة الخاطئة من عدّة أطراف، وسوء القصد من أطراف أخرى، هي التي حالت، مع الأسف الشديد، دون استخلاص الدروس الصحيحة من أحداث أكتوبر 1988، ومكّنت أعداء التغيير، آنذاك ، من العمل المخطّط لسدّ السبل المؤدّية للحلّ الصحيح، وهو الانتقال لنظام حكم ديمقراطي حقيقي. وهو ما أضاع على البلاد، في رأيي، فرصة ثمينة لتجديد مسيرتها نحو التطور والتنمية السليمة. وتشمل هذه القراءة الخاطئة الأحداث التي تجري في أقطار قريبة منّا، كتونس ومصر، بالتركيز على أوجه الاختلاف بينها وبين بلادنا، لاستبعاد الدروس التي تمليها أحداثها وتجاربها. مع أنّ المشترك بيننا وبين هذه الأقطار لا ينحصر فقط في عدوى اللجوء المأسوي للانتحار بالنار، ولكن فيما هو أعمق وأخطر، وهو طبيعة نظام الحكم نفسه. فنظام الحكم في مصر وتونس والجزائر جميعها يتدثّر بواجهة ديمقراطية برّاقة ويقصي، عمليا، وبمختلف الوسائل، فئات واسعة من المواطنين من الاشتراك الفعلي في تسيير الشؤون العامة، وهو ما يرشحهم، بصفة دائمة، نتيجة التهميش والإقصاء، للنقمة والغضب واعتبار كل ما يمتّ لنظام الحكم أو يصدر عنه غريبا عنهم أو معاديا لهم. وعندما تُضاف لهذه الأرضية الغاضبة وطأة الصعوبات الاقتصادية، سواء كانت ظرفية أو دائمة، تكتمل شروط الانفجار. ويُضاف إلى هذه العوامل المشتركة، أنّ غالبية الجزائريين يعتقدون أنّ نظام الحكم القائم عندنا غير وفيّ لمبادئ الثورة الجزائرية وتوجّهاتها، وأنه لا يشفي ظمأهم للنزاهة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي ضحّى الشعب الجزائري بمئات الآلاف من أبنائه في سبيلها. ويُستنتج مما تقدّم أنّ القضية المركزية التي تتطلّب جهدا وطنيا شاملا ومنظّما، هي إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي قادر على حلّ مشاكل البلاد وإعدادها لمواجهة تحدّيات المستقبل. نظام حكم ديمقراطي يُخرج الفئات الاجتماعية العريضة من دائرة الإقصاء والتهميش إلى مصاف المواطنة المسؤولة الفاعلة. كما يُستنتج أيضا أنّ التغيير الحقيقي لا يأتي نتيجة قرار فوقي معزول عن حركة المجتمع وتفاعلاته. بل إنه من الضروري إنضاج عملية التغيير وتغذيتها من خلال المبادرات المتعدّدة التي تنبع، بكل حرية، من مختلف فئات المجتمع. إنّ الشعب الجزائري الذي احتضن الثورة ، عن وعي وإخلاص، عندما أُلقيت بين أحضانه، وتحمّل أعباءها ومسؤولياتها بجلد وصبر، مؤهّل، بتجربته العميقة، لاحتضان مطلب التغيير الديمقراطي السلمي لنظام الحكم ومرافقته إلى شاطئ الاستقرار والأمان. ويتطلّب هذا التغيير المنشود، في رأيي، البدء بالخطوات المتزامنة التالية: أوّلا - الإسراع بإزالة كل العوائق والقيود، الظاهرة والخفية، التي تحول دون حرية التعبير أو تحدّ منها. وتوفير الظروف الملائمة لتمكين التنظيمات والمبادرات الاجتماعية لشباب الأمة وطلبتها وإطاراتها ونخبها، في مختلف القطاعات والاختصاصات والمستويات، من ممارسة حقها الطبيعي والدستوري في التعبير عن مآخذهم ومطامحهم وآرائهم واقتراحاتهم ، بجميع الوسائل والطرق القانونية . ثانيا - الدعوة لتكاثر المبادرات الشعبية النابعة من صميم المجتمع والمساندة لمطلب التغيير السلمي، حول المحاور ووفق الصيغ التالية: 1 - ملتقيات للحوار تجمع في مختلف المستويات، ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية، المواطنين الملتزمين الذين ينبذون العنف والإقصاء السياسي، ويسعَون لتحديد القواسم والاهتمامات المشتركة التي يمكن أن تلتقي عندها الإرادات والجهود لإنجاح التغيير السلمي المنشود. 2 - مجموعات للتقييم تضمّ في مختلف المستويات، ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية، عددًا من المختصّين أو المهتمّين بقطاع معيّن من النشاط الوطني للاضطلاع بتقييم موضوعي لما أُنجز منذ الاستقلال وتحديد نقاط القوة والضعف فيه ورسم آفاق تطويره. 3 - وداديات التضامن ضدّ الفساد والرشوة ، مهمتها هي إقامة حاجز في وجه انتشار الفساد والرشوة بتوعية فئات المواطنين المعرّضين لابتزاز المرتشين في مختلف المستويات وتكتيلهم للالتزام بموقف قاطع ورفع شعار: «لا ندفع خارج القانون». ويأتي هذا الحراك الاجتماعي داعما ومكمّلا للإجراءات الإدارية والقانونية التي تستهدف القضاء على الفساد. إنّ مئات المبادرات التي يمكن أن تتفتّق عن هذه الدعوة، وتتعدّد بعيدًا عن الإملاءات الفوقية، ستكون مثل الشموع، تنير طريق التغيير السلمي الحقيقي وتترجم توجهات الشعب ومطامحه. ثالثا - مدّ جسور التشاور والحوار، على أوسع نطاق، مع القوى السياسية قصد التحضير لانعقاد مؤتمر وطني عام يتولّى المهامّ التالية: 1 - تقييم نقدي شامل لنظام الحكم وممارساته في مراحله المختلفة منذ الاستقلال، وتحديد المهامّ والوسائل والمراحل الكفيلة بإرساء دعائم الحكم الديمقراطي ودولة القانون. 2 - اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج البلاد، نهائيا، من دوّامة العنف التي تعصف بها منذ عشرين سنة. فالأزمة التي ما زالت إفرازاتها تطغى على الساحة السياسية هي محصّلة الأخطاء التي ارتكبتها بعض الحركات الإسلامية وأخطاء سلطات الدولة في معالجتها. ولا يمكن علاج الأزمة بمعالجة نصفها و تناسي النصف الثاني. 3 - الاتفاق على أرضية وطنية تبلور التوجّهات الكبرى لآفاق التنمية الوطنية الشاملة، وإعداد البلاد لمواجهة التحدّيات التي تُمليها المتغيرات العالمية. 4 - الاتفاق على أرضية وطنية توضّح ثوابت السياسة الخارجية وخطوطها العريضة. وفي مقدّمتها تحديد الخطوات الكفيلة بتحقيق الوحدة بين أقطار المغرب العربي. أخي الرئيس، إنّ الجزائر مدعوّة للاحتفال، قريبا، بالذكرى الخمسين لاستقلالها، والوقت الذي يفصلنا عن هذه المناسبة العظيمة، كاف، على ما أعتقد لاتفاق الجزائريين على التغيير السلمي المنشود. وأحسن هدية تُقدَّم لأرواح شهدائنا الأبرار هو الاحتفال بذكرى الاستقلال والشعب الجزائري معتزّ بماضيه ومطمئنّ لمستقبله. مع احترامي وتحياتي الأخوية. عبد الحميد مهري 16 فبراير 2011