ناقش الباحث حسن إغلان برحاب كلية الآداب و العلوم الإنسانية بنمسيك بالدا ر البيضاء، رسالته لنيل الدكتوراه في الآداب، تكوين «الفلسفة و الشأن العام»، في موضوع: «الجنس والسياسة»، تحت إشراف الأستاذ عبد الباقي بلفقيه، وذلك يوم الجمعة 15 أبريل الماضي والتي نالها بميزة مشرف. . ، وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: موليم لعروسي (رئيسا)، وعبد الباقي بلفقيه (مشرفا و مقررا)، ومحمد نورالدين أفاية وفريد الزاهي وحياة الزيراري وأحمد المتمسك ولحسن زينون (أعضاء). والمقالة أسفله هي الجزء الاول من التقرير الذي تقدم به أمام اللجنة والحضور. حين فكرت في موضوعة البحث اعتقدت أني متحكم فيها، لكن في اللحظة التي بدأت رسم معالم الطريق وجدتني تائها. كأن الموضوعة حين وضعها سؤال البدء انفلتت، حتى أنني لم أعد أرى فيها غير بقع ضوء بعيدة. بالكاد شبهت نفسي بشخص ضرب موعدا مع صديقه أو صديقته في مدينة الدارالبيضاء.دون أن يحدد الساعة والمكان. وحين استفاق من ذلك وجد الأمر في غاية الصعوبة. و فيه حاجة إلى اللقاء بصاحبه. هنا يستعيد الشخص النظر إلى الزمان والمكان.مثلما سأبدأ أنا الآخر بمسح الطاولة عبر البحث عن خيط يربطني بموضوعة البحث. المسألة صعبة، وهي تفترض صبرا فيه من النضج ما يؤهل الصابر لبلوغ مراده. هكذا افترضت المغامرة وتأهبت لأساليبها، وعوائقها، ونتائجها. كما أنها استهوتني، وجعلتني قبالة مسار ملغوم بالمخاطرة. ولأني قبلت طواعية وحبا فيها جعلتني أنط بين كتاب وآخر، بين نص وآخر. لا لأجد الطريق في الأول. بل لأكون في مفترق طرق ملتوية كما أساطير الأولين. إلا أنني حين أتلمس طريقا يضيع في الطرق الأخرى. هكذا دواليك. إلى حدود انقضاء سنة بأكملها وبَدا لي أنني لم أعد قادرا على إضافة سنة أخرى من مغامرة تفضي إلى الباب المسدود أو الباب المجهول سيان. فكرت في الابتعاد عن هذه الموضوعة والبحث عن موضوعة هيِّنةٍ وواضحة المعالم لكنني بعناد متأصل، طردت الفكرة من دماغي، معيدا للبوصلة اتجاهها وللميعاد زمنَه ومكانَه إلى حدود أن طفت على شاشة النظر فكرة «السياسة و الجنس» في ثقافتنا العربية الإسلامية. إنها الموضوعة التي يشتغل عليها الإعلام الغربي بشكل كبير سواء في تظهير الفضائح الجنسية عند رجال السياسة أو فيما تتناقله تلك الوسائل من سلوكات ‹‹الأصوليين›› الإسلاميين من الخِمار، إلى نِكاح المجاهدة وما بينهما من علامات تتكاثر لحجب الدليل. كل ذلك من منطق ظاهرة الإسلاموفوبيا وماتختزله للغرب المضاد للحضارة، والمدنية، والحرية... صحيح أن هذه الظاهرة تم توليدها بطريقة أو أخرى بعد انهيار الإتحاد السوفياتي الموسوم بالعدو الأحمر لأمريكا والغرب الأوروبي. ولأن أمريكا لا تستطيع الحياة بدون خلق عدو حقيقي أو مفترض. وكأن حياتها لا تستقيم إلا به. هنا سيتم توليد الخطر الأخضر بمواصفات مرسخة في الذاكرة الغربية منذ العصر الوسيط، وما أتت به فيما بعد من أدبيات ورسومات إلى حدود الاستعمار الإمبريالي للشرق. وما أنتجته من تخييل حوله. كل هذه الصور ستتناسل حتى أمست واقعة تاريخية في الراهن العالمي منذ الحرب الأفغانية ضد الروس. وحادثة 11 سبتمبر 2001، إلى ما يعيشه العالم من تطرف ‹‹أصولي›› مرعب. لقد أضحى التطرف الديني صورا إعلامية عامرة بالرسائل المتعددة سواء في وضع الصورة للمثال الأصولي، أو في علاقته بجسده (اللباس،اللحية،النظرة....).أو بالصبايا المحيطات به. صورتان متأرجحتان بيني وبيني كأنهما علامة واحدة تحيل على النظر إلى موضوعة متأبية. إلا أن هاتين الصورتين زائلتان، وغير ثابتتين، لأنهما ينمحيان فور رؤيتهما على الشاشة أو قراءتهما على صفحات الجرائد. بينما انشغالي بالفلسفة يدعوني إلى عدم الركون إلى السطحي المبثوت في صناعة الإعلام. وما دمت كذلك. فكيف أتلمس البداية. أومن أية بوابة ألتمس شق طريق السؤال حول تلك الموضوعة ؟ بين المد والجزر انفلاتات ممكنة. في هذا المنفلت استوقفتني كتابات ميشيل فوكو حول ‹‹تاريخ الجنسيانية››، وكتابات محمد عابد الجابري حول نقد العقل العربي، وبالضبط كتابُه ‹‹تكوين العقل العربي›› . لا أريد هنا توليد حوار جرى بين فوكو و الجابري حين استثمر الثاني المفهوم الإبستيمي الذي نحته الأول وإنما في الإضاءة التي فتَحَاها لي. فإذا كان الأول يستشكل موضوعه انطلاقا من مركزية العقل ومركزية القضيب فإن الثاني يتساءل بسؤال نهضوي وتنويري، لماذا نجح الفقه، وأخفقت الفلسفة ليستخلص بطريقة حجاجية، وبمقارنة مع الثقافة الغربية أنه إذا كان العقل هو أعدل قسمة بين الناس كما يرى ديكارت باعتباره نظاما ثقافيا للغرب الأوروبي، فإن الثقافة الإسلامية تأسست على نظام فقهي محكم، باعتباره منتوجا عربيا قحا لا علاقة له بالإغريق، والفرس، ولا بسواهم. وأن الذين انشغلوا به ينتمون إلى الدائرة العربية تاريخا، وجغرافيا. ولأنه كذلك فهو أعدل قسمة بين الناس. إن للفقيه علاقة مع العموم والسلطان. وكأنه الواسطة بينهما. إنه المحافظ الباحث عن التناغم، والانسجام، والنظام في المجتمع العربي الإسلامي، فكل الناس يلجؤون إليه، بالأمس واليوم، يستفسرونه في أمور دنياهم وآخرتهم. و من ثمة فسلطته مبنية على آلية الخطابة كما يرى ابن رشد. هكذا فتحت لي الإضاءة الطريق لاستشكال الموضوعة. إلا أنني لم أقم بخرْز الرُّقع، ولا حتى بتوليفٍ عبر التصورين المذكورين. ربما لم أُحْظَ إلا بطيف منفلت يستلزم أطروحة واضحة المعالم منهجا وتحليلا. ثم بدأت الأمور تنبسط قُبالتي. وأصبحتُ قاب قوسين أو أدنى من طريق تلوح لي معالمه. صحيح أنني صِغْتُ إشكاليةَ «مركزية الفقه ومركزية القضيب» وما تحملانه من دلالة بالغة في ثقافتنا العربية الإسلامية. على اعتبار أن الفقهَ يقيم التوازن بين مرافق المجتمع الإسلامي عبر تشريع الأحكام وتدبير الجسد في الدنيا والآخرة و عبر سنِّ استراتيجيةَ تطويعه ليكون مآله صلاحا وخيرا، له ولأمته. لقد مارس الفقهاء (أغلبيتهم) بالفعل تدبيرا سياسيا للجسد المسلم (فردا وجماعة)، طاعة لأولي الأمر بالأساس (سلطانا، قائدا، أبا....) وهي إشارة دالة على قِوامة الرجل، والدركِ الأعلى في السماء والأرض. بينما تحيل مركزية القضيب على الجنس. بل أكثر من ذلك، فهو العيار الذي تقوِّمُ به الثقافة الكلاسيكية العربية مركزيتها. و كما سنرى، ستؤكد ذلك الأحاديثُ النبوية وبعضُ النصوص الفقهية والإِيرُوتيكا العربية. لامراء إذن، في ربط حَدَّيْ إشكاليتنا بحدَّيْ موضوعتنا «السياسية والجنس» وهو ما يفترض التحليل الدقيق الذي لن يستقيمَ إلا بالحجة والدليل. من هنا فرضتْ علي هذه الموضوعة التنقيبَ في أمهات مصادر التراث الإسلامي. و أن أشدَّ رحالي لأعبر أدغال هذه المصادر الشاسعة شَساعة الصحراء المنتجة لثقافتنا العربية الإسلامية. ها أنا أعود إلى المربع الأول، باحثا عن بوصلة تضيء الطريق، وتزيل العوائق أو بالأحرى تعبد السبيل لتأمين السير بدون كوابح مزعجة، حتى وإن كانت تلك الكوابح مفيدة في البحث الفلسفي. لقد خلصت في البداية إلى تفكيك المركزيتين استنادا إلى النص القرآني المؤسس، والأحاديث النبوية، والحواشي... ثم بعد ذلك خصصت فصلا لرصد علاقة النبي بالنساء لبيان الكيفية التي تم بها التدبير السياسي لجسد المسلم وفق التعاليم الدينية (القرآن، السنة). إلا أنني مع ذلك ظللتُ افترضُ أن الأمرَ غير واضحٍ بالشكل التام، الشيء الذي دفعني إلى استقراء كيفية تدبير الجسد الإسلامي من الوجهة السياسية وِفْقَ ثلاث محطات رئيسة: الجسد محجوبا، الجسد معذبا، والجسد أُخْرويا. وكل ذلك من أجل بيان هذا الذي استعصى علي في البدء. بهذه الطريقة استطعت اجتياز العوائق، واختراق المجهول، والدفع بالمخاطرة إلى حدودها القصوى. لا لأجيب على الأسئلة فحسب. وإنما لتفجيرها في مجالٍ ظَلّ مسكوتا عنه بمفعولات السلطة، والحقيقة، والمعرفة. ولأن الأسئلة أهم من الأجوبة في الدرس الفلسفي وغير الفلسفي، فإن الاتكاء على السؤال، بما هو خلخلة للمواضعة، البداهة، والعادة... ليس كافيا إن لم تكن مصاحبته مغامرة مغرية، ومدهشة. بهذا المعنى يكون التعنيف السياسي الدال على استبدادية السلطة بالأمس واليوم، دليلا على النَّهَم الجنسي لَدَى العموم. وكأن تصريف هذا التعسّف على الجسد المقموع يحيل على البحث عما يقدمه القضيب شكلا من أشكال تفريغ المكبوت و المقموع على الجسد الأنثوي المقموع. لا عجب إذن أن تكون مصاحبتي لهذه الموضوعة محفوفة بالمصاعب والمخاطر. إذْ لا يتعلق الأمرُ بالإشكالية التي وضعناها رسما لخريطة ممكنة. بل كذلك في العتبة الأولى التي خصصنا لها عنوان الجسد فلسفيا، ودينيا، وعلميا. وهي صعوبة مضاعفة لتأثيث كل فصل بالنظر والأسماء. لا تتأتى الصعوبة هنا من شساعة كل واحدة على حدة وإنما في النظر إليها. والإمكانات التي تفتحها اسما، ومرجعا، وتاريخا، كما لو كنتُ أبحث عن جسر لبلوغ تلك الإشكالية. والأدهى أن المسألة لا تفيد الوصلَ بين باب وآخر بقدر ما يندفع الفصل بينهما تركيبا رسمت معالمه في الباب الأخير الذي جعلته طريقة إجرائية لتلك الإشكالية، أعني الكتابات الإيروتيكية العربية ولا سيما ما كتبه الشيخ النفزاوي وجلال الدين السيوطي. إن الانخراط في هذا البحث تعترضه صعوبات أخرى غير تلك التي ذكرتها سلفا. وأهم شيء أدخلني إلى هذه المخاطرة هو وعْيُها وكأنه هو تحرير واو الوصل بين حدي إشكالية البحث. وفي هذه العملية استوقفتني صعوبتان رئيسيتان وهما أولا : الأسماء المقترحة في جميع فصول هذا البحث. سأعطي مثالا في الفصل الأول من الباب الأول والمعنون بالجسد فلسفيا. قدمت بعد التمهيد ثلاث محطات للجسد في النظر الفلسفي وهي:أولا أفلاطون وديكارت وثانيا نيتشه وميرلوبونتي وأخيرا ميشيل فوكو. وحين بدأت الاشتغال على كل واحدة، تساءَلْتُ، لماذا لم أختر الفلسفة الرواقية لكونها أعطت الجسد اهتماما فارقا؟ لكن وبمكر شديد أزلت السؤال من طريقي مبررا ذلك بكون أفلاطون في تصوره للمدينة والجسد مرتبطا جدلا بالقلب الذي سيحدثه نيتشه، إضافة إلى المفعولات التي تركتها فلسفته فيما بعد. قد يكون هذا المبرر مقبولا في بعده الأخير ولن يكون كذلك فيما بعد. إن هذه الصعوبة في المرجع تعترض القارئ والباحث معا. ذلك أنه يشترط وجوده وتداوله العام. مثلما يقوم على المكانة التي يحتلها هذا المرجع ذون آخر. وهما شرْطان، حاصَراني لأجد نفسي في تخوم قلق السؤال من جهة، ولكون العينة الفلسفية، والدينية التي اعتمدتُها ترمي إلى الرسائل الخاطفة والبرقية من جهة أخرى. صحيح أن الموضوعة التي انشغلت بها هي السياسة والجنس وهو الشيء الذي سيكون فيه الجسدُ طريقا إليها. حيث كان وعي هذه الصعوبة الجمة إمكانية للقفز على التفاصيل والتركيز على الأسئلة الإشكالية. والبؤر الفكرية. وقد تعاملت مع كل ذلك بشكل برقي رغبة في تعبيد الطريق نحو الموضوعة التي استشكلتها. وثانيا، تنكشف الصعوبة الأخرى حين قراءة النصوص الفقهية، والفلسفية، والدينية من حيث هي نصوص عالمة. بينما تتجلى نصوص أخرى وهي تقتات وتعيش في الحاشية والهامش. لكل نص وعيه الخاص، إلا أنني وجدتني بين هذا وذاك، لا في سبيل المقارنة بينهما، ولا حتى في إيجاد وصل ممكن بينهما. بل أقرب إلى الحفر في البياض الذي يسترهما عبر قراءة ما يكون اتصالا وانفصالا بينهما. صحيح أنني في بعض الأحيان مزجتهما بوعي نقدي أدخلني إلى اعتبار النظام الثقافي الذي يتحرك داخله النص العالِم والنص الشعبي. وكأنهما يتكلمان من داخله وينسجان وعيهما من جوفه. بين النص العالِم والنص الشعبي مسافة اهتم بها الأقدمون بشكل كبير. مثلما انشغل بها المحدثون من زوايا نظر مختلفة. وحتى لا أضيف إلى الخصومة جمرات النار. حاولت مد خيط شفاف بينهما في سبيل ضبط ما استشكلته في هذا البحث. لامناص إذن من الوقوف على هذه الصعوبات لوعيها، أولا، واختراقها ثانيا.إلا أن ذلك لا يستقيم إلا بالكيفية التي عبَرتُ بها طريق البحث، إذ لا بد من إعادة الموضوعة في الثقافة العربية الإسلامية بالأمس واليوم. بمعنى إذا كانت المكتبة العربية عامرة بالأطاريح حول السياسي والديني. فإن السياسي والجنسي شكل هامشا فيها. صحيح أن الأطروحة الأولى استقطبت اهتمام المفكرين العرب منذ زمن بعيد. أو على الأقل منذ القرن 19. اوما يسمى عادة بِ‹‹فكر النهضة››. وهو اهتمام مستنبَت من الراهن الإسلامي وما انفجر من أسئلة حول موضوعات انشغل بها الفكر العربي إثْر صدمة الحداثة، وبالأحرى من منطلق علاقة العرب بالغرب الأوروبي المتقدم. إنها الأسس الفكرية النظرية التي تفيد النظام، في علاقة السياسي بالديني، وما يتولد عنها من مفاهيم كالدولة، الحرية، الديموقراطية، المرأة، حقوق الإنسان، العدالة، التربية، المدنية، العلمانية.....إلخ. كل ذلك خلق فيضا مثمرا في المكتبة العربية، والذي تم بمقتضَى هذه العلاقة تخصيب النقاش و الاجتهاد في الجامعة والمنابر الفكرية والإعلامية، وغيرها من مجالات التواصل العمومي. إلا أننا بالمقابل نجد موضوعة الجنسانية العربية محجوبة بالسلطة تارة، والحشمة والحياء تارة أخرى. إن ركونها في الهامش هو ما يضعها سؤالا مستفزا. قد تدخل صاحبه إلى خانة المسيئين إلى الأخلاق العامة. هذا المستفز في الموضوعة هو ما ورطني فيها. ليس خرقا للأخلاق، وإنما في وضعها سؤالا أكاديميا وعلميا. لكن، كيف سيتم ذلك؟ إن مقاربة هذه الموضوعة (والتي تتطلب بحوثا جهوية أخرى) لا تعني الانحراف عن الموضوعة الأخرى (السياسي والديني). وإنما هي تكملة لها عبر تدشين جسر بينهما، فالأطروحة الأولى عتبة ومنطلقا رئيسا لفهم الثانية. حتى وإن تمَّ وضعُها في الحواشي وقراءتُها في العتمة من منطلقات وإكراهات متعددة، ذلك أن الجنس في الثقافة العربية الإسلامية شكَّل مدونةً خاصة به، سواءً على مستوى الحكايات والنوادر أو الأخبار، والحكم، أو الفتاوى وقصص الأنبياء... إلى غير ذلك. دون أن يعنونها بوضوح لتستقر في المهمل والهامش. إنه صادر عن السلطة الثقافية التي بوبت المقبول من الثقافة العربية. وبالمحصلة فتهميش هذه المدونة – يشكل في نظري – أحد تجليات الاستبداد السياسي عندنا حتى وإنْ كانت أهم النصوص الإيروتيكية العربية خرجت من داخل القصور الأموية والعباسية أو على الأقل كُتِبت بأمر من السلطة السياسية، إلا أنها مع ذلك ظلت في الحاشية. هنا يبدأ التأرجح المروع بين الحلال والحرام في المجتمع والدولة كإمكانية لفهم أعطاب التاريخ العربي الإسلامي، وبالضبط فيما تشكله تلك الثنائية من أفق تأويلي في الدين، والسياسة، والجنس. لا غرابة إذن أن يكون الثالوث رسما للحدود، مثلما كان تدبيرا سياسيا، ودينيا للجسد. فالإشكالية التي وضعتُها تجد في الديني مرجعها الرئيس. ولأن الدين قوة وجودية تحدد رؤية الإنسان المسلم إلى ذاته و العالم. لأنه يحدد الإطار العام الذي تتحرك فيه علاقة السياسي بالجنسي. وبهذا المعنى تنكشف لنا الموضوعة في التاريخ، غير أنني لم أقم بتأريخ هذه العلاقة بقدر ما قمت بتفكيكها وبيان السلطات الثاوية خلفها. بهذه الكيفية التقيت مع نصوص كثيرة. الأحاديث النبوية، المرويات، الأخبار، الأشعار، النوادر وغيرها. حيث من الصعب وضعها في سلة واحدة. الشيء الذي وضع أغلب تلك النصوص التخييلية في محك التحليل، انطلاقا من تبئيرها بنيويا والحوار معها بشغف، دون الاهتمام بصدقية الخبر أو كذبه، وإنما في خلطها بخلاطة النظام الثقافي الذي تنتمي إليه. فتحليل هذه المتون يفترض زمنا أطول، كما يشترط مجهودا جماعيا، إلا أن الوقوف على أهمية النص المكتوب عربيا هو ما ذوب تلك العوائق المشار إليها بفضل جمع متن مهم، ووضعه تحت مجهر التحليل النقدي. يبدو لي أن الجنسانية العربية تبتديء من الله، كما تضع كتابه شرطا لبلوغ المعنى. انطلاقا من هذه الفرضية سيكون القرآن والحديث مرجعين رئيسين وجبت العودة إليهما بين لحظة وأخرى، ومادام خطاب الجنسانية العربية موجها إلى المسلمين ومكتوبا باسمهم فإنه يحيل على سياسة الجنس ليس لأن لله ونبيه قدما النكاح في الدنيا والآخرة سبيلا للمتعة واللذة، وإنما في تدبير الجسد كي تكون طاعته لله وأولي الأمر أمرًا لا فكاك عنه. إنه تدبير مهندس المجتمع وفق ما أحلَّهُ اللهُ ونبيه وأولو الأمر. أما إذا تم الانحرافُ عنه، فهذا يعني التهلكة وما تتضمنه من أحكام فقهية صارمة. مثل الرجم، التعذيب، والجحيم )جهنم(. وتحليل هذه البنيات المؤطرة لعلاقة السياسي بالجنسي مسألة عامة، ذلك أن الوقوف على النصين المؤسسين للإسلام، وما تركاه في الوعي و اللاوعي الإسلاميين هو ما جعلني أقوم بعد تحليلهما و وضع التضاعيف التي خطّتُها، بصياغة تركيبٍ ممكن في الكتابات الإيروتيكية العربية. وكأني بذلك أقوم بإجراءٍ تركيبي للنتائج التي توصلت إليها. صحيح أنني لم أعتمد منهجا بعينه، وصحيح كذلك أني أفترض منهجية للقراءة. وكل منهج يستدعي مرجعه النظري، إلا أنني وفي خضم هذه المخاطرة توسلت الحذر، حتى لا اسقط في الدوغمائية والأحكام السريعة. أي أنني كنت منفتحا على كل القراءات، والمناهج النقدية. هل هذا الانفتاح المنهجي مقنع؟ أم هو انفلات من الترحال العاشق مع النصوص و القضايا؟ قد يكون ذلك ممكنا مادامت شساعة الموضوعة تلزم فطنة ومكرا شديدين، ليس فقط في الاستناد إلى التاريخ أو اعتماد التحليل البنيوي للنصوص، أو الاستفادة من منجز العلوم الإنسانية: السوسيولوجيا، الأنثربولوجيا، التحليل النفسي، السيميولوجيا، أو السؤال الفلسفي....فإن إعمال النظر فيها يفتح كل هذه النوافذ المنهجية، والعلمية المتعددة. هكذا انجذبت نحو هذه الموضوعة بوعي نقدي ومنفتح، أي أن ما توصلت إليه لا يطمح إلى أن يكون نهائيا، بقدر ما تكون نهايته أفقا لبدايات محتملة أخرى. فثَمّة أمور وقضايا سقطت سهوا أو عنوة على حاشية المكتب. إنها المتلاشيات التي تم نسيانها، حيث كان من الصعب الرجوع بفعل زحمة الوقت والجهد. وهي تنتظر المساءلةكما تنتظر كتابتها مستقبلا. ربما أن إعمال النظر في هذه المتلاشيات ستمنحني أفقا تأويليا آخر، مادمت قد تحررت مؤقتا من هذا البحث، وبمعنى أوضح، لقد ورطتني هذه الموضوعة في شهية باذخة سأستضيف إلى مائدتها كتابا وباحثين آخرين. وهذا هو المهم في نظري رغبة في كشف الأعطاب التاريخية التي نعيشها، والمحن التي عشناها منذ قرون. وكذلك من أجل كتابة تاريخ الجسد العربي. وربما ما تركناه مستظِلا بالحلال والحرام، ومركونا في العتمة ولا مفكر فيه، هو ما يضيف إلى تلك الأعطاب التاريخية أعطابا مضاعفة. فتحريره (الجسد) من تلك الظلال والهوامش هو ما سيجعل العرب متصالحين مع التاريخ. هذه المصالحة تنبني على تاريخ ممكن للجسد العربي. هل تستطيع الثقافة العربية المعاصرة الانخراط في ذلك؟ وهل يكون هذا البحث المتواضع إطلالة على المستقبل؟ وهل الأسئلة في هذا الموضوع لا تستقيم إلا بإتمام النظر في أطروحة السياسي والديني عندنا. هي أسئلة تتسلل كديناميت لإعادة تكوين مجالنا السياسي والثقافي العام. وهي أسئلة خلصت إليها بقلق. لا لأقول المآل.