إذا ما استحضرنا أصل الشرخ بين المسلمين السنة والشيعة، فما طبيعة المواجهة بينهما؟ يبدو، في البدء، أن الخلافَ ذو طبيعة سياسية. من يستحق خلافة النبي محمد، بعد وفاته في 632، لقيادة الأمة الإسلامية؟ السؤال هذا كان أصل ما يسمه العرف الإسلامي بالفتنة الأولى. إن التصور الذي انبثق عنه المذهب السني كان براغماتيا بالأحرى: مصلحة الأمة تستلزم أن يتوفر من سيحل محل النبي (الخليفة) على القدرة الفعلية للحفاظ على الإمبراطورية المسلمة التي كانت جد ضعيفة لا تزال حينها. هكذا فضل السنة، بعد مرحلة الخلفاء الأربعة الأوائل، دولة بني أمية (661- 750) ثم الدولة العباسية (750- 1258). وتعاقب خلفاء الدولتين على الحكم إلى حين قيام الإمبراطورية العثمانية التي عرفت، شيئا فشيئا، تراجع وظيفة الخليفة لصالح "السلطان" التركي، علما بأن سلطة الأخير السياسية أفرغت إلى حد بعيد من بعدها الديني. وبشكل مفارق، فإن العلاقة مع قوة أوربية عظمى هي التي ستؤدي إلى إعادة إحياء وظيفة الخليفة بالنسبة للسلطان العثماني. وبالفعل، فمعاهدة كيتشوك كاينارجي الروسية-العثمانية (1774) خولت لسلطان إسطنبول السلطة الدينية على مسلمي الأراضي التي انتزعتها روسيا من الإمبراطورية العثمانية. أما الشيعة، أو على الأقل الجناح الأغلبي ضمن الإثني عشريين (نسبة إلى الاعتقاد بإمامة الإثني عشر)، فقد دعوا إلى تصور تقديسي وشرعي للخلافة (يجسده إمام). وبعد مقتل علي بن أبي طالب، ابن عم النبي، في 661، واستشهاد ابنه الحسين في كربلاء (680)، سيطر السنة، فارضين حكم الدولتين الأموية والعباسية. وخلال مراحل القمع الشرس، كان الأئمة الشيعة يلجأون إلى السرية ويفتقدون إلى أي تأثير سياسي فعلي. لكن بعضهم اضطلعوا، بالمقابل، بدور مهم في تقنين المذهب، ومن بينهم جعفر الصادق (702- 765)، وقد اشتقت من اسمه تسمية المذهب الجعفري التي تطلق على الإثني عشرية). ووفقه، فالإمام يجب أن يعين من طرف سلفه، وأن يكون معصوما وعالما لأنه يمارس بعض الاختصاصات المخولة للنبي قيد حياته. ومن ثمة، ف "تغييب" الإمام الثاني عشر (941) ينتج عنه نظريا عدم شرعية السلط الراهنة برمتها. هذا، وبشكل سريع خلال القرن الحادي عشر، سيتشبع الشيعة الإثنا عشريون بمبادئ المعتزلة العقلانية، حيث سيصبح العقل لديهم أحد أعمدة الإيمان ويعتبرون الإنسان حرا في تحديد مصيره. وهو ما سيشكل الأرضية المذهبية لمسار العلماء الشيعة البطيء نحو امتلاك سلطة متزايدة. وإذا كان الشيعة والسنة متفقين حول ضرورة انحدار خلفاء النبي من الدوحة الشريفة، فإن لا أحد كان يستطيع الزعم بجدية أن السلاطين العثمانيين يتمتعون بهذه الصفة، علما بأن السنة لم ينازعوهم حول أحقيتهم في الحكم، ما يدل مجددا على براغماتيتهم. متى تحول ذلك الخلاف السياسي إلى خلاف ديني؟ معرفة لمن يجب أن تسند السلطة بعد النبي، هو سياسي وديني في الآن نفسه. الاتجاه السني، تبلور بعد الفتنة. أما المذهب الشيعي، فإنهم عاشوا نوعا من التجميد على مدى ألف عام (عدا في إيران وفي بعض الملكيات الهامشية)، قبل أن يسجل تحولا داخليا ابتداء من القرن 18، أفضى إلى اختلافات دينية راديكالية أكثر. المؤكد هو أن تدوين وترسيم معتقد مثل المحاولة التي تزعمها جعفر الصديق، تذهب دوما في اتجاه ترسيم هوياتي. وكانت في البداية قد صدرت ضد الشيعة المتطرفة وليس ضد المذهب السني. أي ضد الغلاة من الشيعة الذين ألهوا عليا، والذين يوجد اليوم ورثتهم في تركيا. لقد غادر التوجه الشيعي في القرن 16، مرحلة التصوف لأسباب سياسية، مانحا للسلطان الصفوي بإيران صفة "ظل الله على الأرض"، مما منح شرعية للصفويين. وكان ذلك بداية التبني الرسمي للدولة الصفوية بإيران للمذهب الشيعي كمذهب رسمي للدولة. من حينها تبلورت الوطنية الإيرانية في مواجهة مع السنة الترك والعرب والأفغان. حينها تغيرت المعادلات. لكن ذلك لم يكن بدون عواقب، لأنه قعد لتوجه ديني مذهبي معارض في المدن التاريخية للشيعة بالنجف وكربلاء (بالعراق). من حينها تبلورت مدارس شيعية متعددة، أفرزت غلبة في نهاية القرن 18، للتوجه الأصولي، الذي أصبح يعتبر إعمال العقل في الاجتهاد الفقهي إلزاميا. وشكل ذلك تحديا للمذهب السني الذي ظل يعتبر الاجتهاد منتهيا في ما بلورته المذاهب السنية الأربعة الشهيرة. علما، أن التوجه الديني الشيعي هذا، لم يحصر الاجتهاد في الشق الديني، بل وسعه مع مرور السنوات، ليشمل مجالات أوسع سياسية وقانونية وعلمية وعسكرية، والذي أفضى إلى النظام السياسي الإيراني الحالي، ضمن منظومة قوية لرجال الدين الشيعة. أصبحت إيران العنوان الأكبر للتشيع، فيما بدأت السعودية تتحول إلى حاملة التوجه السني الراديكالي الوهابي. كيف انساقت الأمور إلى ذلك؟ لقد ولدت الوهابية ضمن خصوصية اجتماعية للجزيرة العربية، ضمن سياق رافض للهيمنة العثمانية وضد النموذج المديني الذي يمثله ذلك النظام. فهو شبيه للتوجه الشيعي الأول الرافض سلطة الإمبراطوريات. أولا ضمن قبائل نجد، التي كانت ترفض التوجهات الصوفية بالحجاز. علينا نتذكر أن أول ما قامت به الوهابية بعد تمكنها من مكة والمدينة المنورة، هو تدمير كل الأضرحة سنة 1924، ومنع أي نشاط للصوفية بها. وقاموا بإخضاع المدن الشيعية بالعراق لنفس الأمر من خلال هجمات متعددة للحركة الإخوانية، التي هي الذراع العسكري للوهابية. لقد كانت تلك الغزوات البدوية متعددة، مسنودة على تبرير ديني. اليوم، في العربية السعودية والبحرين وخاصة بالعراق، فإن المواجهة السنية الشيعية تعكس مواجهة بين البداوة الرحل (السنة) والتمدن والاستقرار (الشيعة). وتسعى تلك الفرق من الرحل، إلى فرض توجهها من خلال عرض "حماية" جماعات الفلاحين والصيادين المتبنين للمذهب الشيعي احتجاجا ولأنه مذهب يتجاوب مع مطامحهم كمدينيين مستقرين، مظلومين ومقهورين. والأمر أوضح في العراق، حيث تجد العائلة الحاكمة في القبيلة سنية، حتى وأغلبية القاعدة السكانية بها شيعية. علما، أنه مع تراجع أسباب الترحال ببلاد الرافدين، فإن الكثير من السنة قد اعتنقوا المذهب الشيعي. كيف يمكن تفسير هذا النجاح الذي حققته الوهابية خارج محيطها الأول، وأصبح لها إشعاع استقطاب دولي؟ إن تعميم أفكارها ليس مرتبطا بالحركة الوهابية نفسها، بل إلى "دعاة الإصلاح الإسلامي". أي إلى مفكرين إسلاميين من طينة رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده ومحمد رشيد رضى. وكلهم تكونوا في كبريات المدن العثمانية "المتحضرة" مثل القاهرة ودمشق وحلب. لقد بلوروا في القرن 19 أفكارا شبيهة بأفكار الوهابية بدون الرجوع إليها، التي كان ينظر إليها على أنها مذهب بدويين رحل. لأن النظرية التي بلورها أولئك المفكرون الدعاة، بالتوازي مع الوهابية، هي أن ضعف العالم العربي والإسلامي أمام القوى الغربية ليس السبب فيه الإسلام، بل بابتعاد الأنظمة الحاكمة عنه، وأنه بالتالي عليهم العودة إلى الأصول. في بداية القرن 20، كانت الوهابية وربيبتها الحركة الإخوانية، تنفذ هجومات عنيفة اعتبرت همجية من قبل الإصلاحيين. وكان لابد من انتظار التحكم في العربية السعودية من قبل محمد بن سعود، في العشرينات، كي يتوحد التوجهان. لكنها وحدة غير مكتملة، لأنها أفضت إلى ميلاد توجهين: التوجه السلفي غير المسيس والتعبدي. والثاني التوجه الذي سمي في ما بعد "إسلامي" والذي قبل اللعبة الانتخابية على الطريقة الأوربية. والسلفيون، الذين لم يتنبه إليهم كثيرا بسبب أنهم بعيدون عن السياسة، لم يكونوا يقبلون أبدا بمبدأ الأغلبية. بالنسبة لهم، فإن سيادة الشعب يجب أن تعوض بسيادة الله. ومع فشل الإسلاميين في الوصول إلى السلطة، قد منح للسلفيين الحجية والتوسع. والمثال الأكبر عن ذلك، هم الحركة الإخوانية بمصر، الذين فازوا بانتخابات 2013، والذين أسقطوا سنة بعد ذلك. فليس هناك نجاح للإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة بالانتخابات. ما عدا حزب العدالة والتنمية التركي، المتهم أصلا أنه لا علاقة له بالتوجه الإسلامي. ومن هنا نفهم الحرب التي يقودها داعش ضد القادة الأتراك. ماهي المراحل الكبرى للتطرف الهوياتي التي قادت إلى المواجهة بين السنة والشيعة اليوم؟ أولا الإنتدابات الأوربية التي فرضت سنة 1920 بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية ' والإنحياز الضيق لفائدة أقليات دينية من طرف قوى الإنتداب . وبينما كانت النخب السنية غالبا ما تتعامل مع الإستعمار ,- لاسيما في العراقوسوريا – من أجل الحفاض على الهيمنة أو مكاسب السلطة , ظهرت قيادات سياسية ودينية شيعية لمواجهة الإستعمارالأوروبي . وبالتالب دخلت هذه الأخيرة في منافسة مع التيارات الإصلاحية السنية ومع الوهابيةالتي كانت بدورها تتبنى هذا البعد المناهض للإستعمار. وجاءت الثورة الإيرانية سنة 1979 والتي أيقضت مجموع القوميات الشيعية في العالم العربي والتي كانت منخرطة في حركات تحررية. لأن القاسم المشترك بين مجموع القوميات الشيعية في العالم العربي هو أنها كانت مفهورة سياسيا واجتماعيا من طرف سلطات سنية حاكمة . وهكدا في لبنان استبعدت عائلات فيودالية قديمة متجذرة في الجنوب والبقاع لفائدة طبقة متوسطة شابة ومتعلمة : هذا التطور كان جاريا من خلال ظهور حركة موسى الصدر في سنوات 1970 ة لكنه مع الثورة الإيرانية تسارع بقوة ى. نفس الأمر في الخليج وبالأخص في العراق .وهذه الحركات تجسدت من خلال حركات مسلحة مثل حزب لله اللبناني . وترافقت الحرب العراقيةالإيرانية (1980-1988) كنتيجة للثورة الإيرانية وامتداد الحرب الأهلية الكامنة بين البعثيين والشيعة في العراق إلى خارج الحدود , ترافقت مع تطرف عقائدي وتشكيل جبهة سنية ( بمساعدة عسكرية خليجية لصدام حسين ) ضد إيران وبالتالي ضد الشيعة العراقيين . وكان الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 إيذانا بنهاية هيمنة نظام سياسي طائفي سني في العراق والذي لم يستمر إلا بفضل توافق دولي وبالطفرة البترولية في سنوات 1970 والدي أظهر بجلاء الطائفية التي ظلت كامنة لفترة طويلة في هذا البلد . وأخيرا كان « الربيع العربي « سنة 2011 لاسيما في سوريا العنصر الكاشف لهذه المسارات الطائفية التي كانت تعتمل منذ زمان و والتي كانت تغطيها ما يمكن أن نسميه « الأوهام القومية والوطنية « ما دام الإعتقاد السائد كان يتمثل في أن الإصلاح السياسي والإجتماعي في إطار الدول القائمة سيكون قادرا على حل المشاكل الطائفية والعقائدية . وعندما نحاول رسم صورة شاملة نصطدم بالتبسيطات , لان هناك الكثير من الأوضاع الخاصة. ولكن اليوم ولأول مرة نجد أنفسنا أمام طرح شامل للصراع السني الشيعي . إلى درجة أن الطائفة الشيعية الإثنا عشرية أصبحت قطب الرحى ومركز الإستقطاب الأساسي لجميع القوميات الشيعية بما فيها تلك التي لم تكن لها علاقات معها منذ زمن ..مثل الطائفة الزايدية في اليمن , وبدرجة أقل الطائفة العلوية في سوريا, والتي كانت قد بدأت مؤشرات تقاربها مع اللواء المركزي للشيعة منذ بداية القرن 19 .ففي سنوات 1940- 1950كانت بعض المرجعيات السنية الكبرى تبدو مستعدة لقبول المذهب الشيعي كأحد مداهبها. واليوم بعض هذه المرجعيات يحمل لواء التكفير والمواجهة ضد الشيعة ويفندون الطابع الإسلامي للإثنا عشريين وبشكل أشمل لكل الطوائف المنحدرة من الشيعة. هذا المسلسل الشمولي يبدو أنه انطلق بشكل لا رجعة فيه وهو ما يعني أننا أمام « فتنة « جديدة تتجاوز بكثير كل الفتن السابقة سواء من حيث عدد القتلى أو من حيث الحجم أو من حيث مستوى تطرفها , لان الدول نفسها ( العراق , سوريا ,تركيا ,إيران , السعودية..)توجد في قلب المواجهة . من سيخرج منتصرا من هده « الفتنة « الجديدة؟ من الصعب الجواب .لكن هناك شبه يقين بمن سيخسر .وفي المقام الأولالسكان الذين ورطوا في صراع لا أحد يتحكم فيه . ثانيا الدول القائمة مع مخاطر تفكك حدودها .فنحن أمام مسلسل إعادة النظر وإعادة رسم نظام الدول في الشرق الأوسطبرهانات طائفية وهوياتية من شأنها أن تقود إلى توزيع ترابي عقائدي . قد تطرح مسألة ربط الأقلية العربية السنية العراقيةبسوريا . لأنه في النظام الذي وضعه الأمريكيون لا مستقبل آخر للعرب السنة سوى وضعهم كأقلية وهو ما رفضوه حتى الآن . والعربية السعودية مهددة كذلك ..وفي المنطقة وحدها الدول القديمة كإيران ومصر غير مهددة .. وهذا يطرح السؤال الأكبر للسياسة التي يتعين أن تنهجها الدبلوماسيات الغربية . هل يجب السير في اتجاه إعادة بناء دول فاشلة بينما تعتبر دولا غير شرعية في أعين جزء من مواطنيها؟ هذه الدول التي استحودت عليها أقليات إقليمية أو طائفية لا يبدو أنها قابلة للإصلاح.ويبقى مستقبل المجتمعات المدنية قضية أخرى خاصة على ضوء أكبر انتصار للدولة الإسلامية في العراق والمتمثل في نجاحها في إقناع السنة والشيعة باستحالة العيش المشترك بينهما . س: هل تغيرت نظرة الغرب لصالح الشيعة أي إيران والتي كانت لفترة طويلة تشكل التهديد الأكبر, والتي أصبح ينظر إليها كقطب استقلاالا منذ ظهور الدولة الإسلامية؟ ج : بعض الدبلوماسيات وخاصة الدبلوماسية الفرنسية تتميز بعداء مستحكم وقديم تجاه الشيعة , لكن هناك بالفعل إعادة نظر : الأعداء القدامى قد يصبحون مفيدين أمام تهديد تحول موازين القوة داخل الطائفة السنيةلفائدة مجموعات تندد بالتحالفات القائمة مع بعض الدول الغربية والتي أعلنت الحرب على الأنظمة القائمة . وبشكل عام الأمريكيون أكثر براغماتية من الفرنسيين . هناك فيما يبدو وعي بهشاشة الحلفاء السنيين التقليديين. ولكن الفكرة القائلة بأن أفضل وسيلة لمحاربة الإرهاب هي الإرتكاز على الدول القائمة وجيوشها تبقى فكرة قوية . وهو أمر يبقى مفهوما لأن غير ذلك سيكون قفزا في المجهول . ومع ذلك وبالنظر للوضعية الراهنة يبدو أننا دخلنا هذا المجهول الكبير. حوار: كريستوف أياد وسيسيل هينيون