بعد فيلمه الطويل الأول، "براق"، الذي نال عنه حصان الفيسباكو الذهب (بوركينا فاسو)، أنجز المخرج محمد مفتكر فيلمه الثاني "جوق العميين". يروي الفيلم طفولة ميمو إبان نهاية الستينات وبداية السبعينات، مستنداً الى عناصر من سيرة المخرج. من اللحظة التي يعلن فيها صوت ميمو الداخلي أن علاقته بأبيه بدأت حتى قبل ولادته، نتذكر الرابط (يكاد يكون توارد أفكار) بين الأب والابن في رائعة مفتكر، "نشيد الجنازة"، فنستشف ان الرهان هنا سيستمر على التيمة التي تعبر كخيط رفيع أعمال المخرج كلها: تسليم الشاهد بين جيلين وسط معاناة متّقدة تنبع من الأحشاء كلهيب مستعر تتخذ من مسلم المشهد نفسه وقوداً كي لا تنطفئ الشعلة. يقول الفيلم من وراء ستار الكوميديا الخادع أشياء متجذرة بشكل درامي في أعماق المخيال المغربي. يتسم السيناريو بالذكاء إذ يعتمد على جمالية الزيف الذي يطبع كل شيء، انطلاقاً من ميمو الذي يزور بيان النقاط المدرسية كي يخدع الأب، مروراً بالفرقة الموسيقية الشعبية التي تتظاهر بالعمى، ليحيي حفلات العائلات المحافظة، وصولاً إلى "انقلاب الصخيرات الفاشل". في الآتي، لقاء مع محمد مفتكر. p تنتقل الشعلة من جيل إلى آخر في سينماك وسط ألم ومعاناة كبيرين. هل هذا تصوّر فلسفي تؤمن به، أم يحضر بشكل غير واع في أفلامك؟ n ينبغي أن أشير إلى أن القراءات التي تأتي بعد مشاهدة عمل فني قد لا تتبادر إلى ذهن المبدع. لا نفكر بالضرورة في العمل تفكيراً عقلانياً قبل أن ننجزه. قد تفاجئنا تلك القراءات التي تضيء على جوانب لم نرها في العمل فتجعلنا نعي بعض أبعاده. أعتقد أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في الحياة لا يتم إلا من داخل المعاناة بمعناها الوجودي، لأن كل مرحلة في الحياة هي نوعاً ما ولادة جديدة. هناك في الولادة شيء يحيل على المتعة الجنسية التي تنتج شعوراً هجيناً بين الألم واللذة يعصيان على التحليل. في اعتقادي، لم تخرج الكائنات الحيّة عن كونها خلايا منوية في طور السباق، وهذا ما يخلق توتراً دائماً ويحفز الاستمرار لبلوغ هدف ما. p يرتكز "جوق العميين" على جانب بيوغرافي مهم ينهل من عوالم عشتها في طفولتك، من بينها أجواء الجوق الشعبي. كيف اشتغلت على هذه الأجواء؟ n علاقتي بالأب كنت دائماً أعيشها انطلاقاً من صورة الباب: الأب خلف الباب والأب أمام الباب. حين يكون داخل الدار كنت أراقب كلّ ما يفعله وحين يكون خارجها أتخيل الأشياء التي يقوم بها. وهذا ما يعيشه جلّ الأطفال، لأننا كبرنا مع النساء أكثر مما كبرنا مع الرجال. حين يخرج الأب ويغلق وراءه الباب، كانت تتفتح مخيلتي. كان أبي رئيساً لفرقة موسيقية تنشّط الحفلات والأعراس. عُرفت فرقته ببراعتها ولهذا شهدت اقبالاً مهماً، حدّ أنها كانت تستقبل طلبات الزبائن لفرق أخرى. أما العلاقة ب"جوق العميين"، فأتذكر أن فرقة موسيقية كانت تتكون من أعضاء كفيفين كان أبي يحبهم كثيراً وهم الوحيدون الذين كان يدعوهم للعشاء ويجالسهم لساعات كي يناقشهم في الموسيقى المصرية التي كانت مرجعاً أساسياً آنذاك. كانت تستهويه مجالستهم كونهم فنانين حقيقيين مشغوفين بالموسيقى. أفراد هذه الجوقة كانوا يلبّون طلبات العائلات المحافظة، وأحياناً يُجبرون بدورهم على المناولة، ولهذا يلجأون إلى فرق أخرى يعلّمون أعضاءها كيف يقلّدون حركات الكفيفين حتى تنطلي الخدعة على الزبائن (...). لعل أكثر ما يثير في الموضوع انه، أحياناً، عندما لم تكن الجوقة متوافرة، كان ربّ العائلة التي تنظم الحفل، يتواطأ مع الفرقة التي تتظاهر بالعمى في غفلة من عائلته والحاضرين جميعهم، بغية انجاح العرس. p قال هيتشكوك مرة إنه يشتغل في البدء على الجانب الفني قبل أن يضيف التوابل التي "يلعب" بها مع الجمهور. كون فيلمك يحقق ثنائية الفني/ الجماهيري، وخصوصاً لأنك مررت في "جوق العميين" من سينما اللقطة إلى سينما المشهد، فهل تؤكد ما قاله معلم التشويق؟ n أؤكد فعلاً ما قاله هيتشكوك. تختلف ربما حالتي فقط في نوعية المفاهيم. أظن أنه يقصد بالجانب الفني كلّ ما ينبع من الأحشاء، أي ما تريد حقاً أن تقوله للآخرين. بعد هذا، يأتي ما أسمّيه "الصنعة"، أي كيف تجعل من عمل ما شيئا مهماً، جديراً باهتمام الناس. شئنا أم أبينا، السينما هي أيضا فرجة. السينما ظهرت منذ بدايتها على شكل إبهار. وحين انتهى الابهار، ظهرت أزمة أفضت بالسينمائيين إلى اللجوء إلى عالم المسرح والرواية وغيرهما. لا سينما خارج الابهار. التحدي الذي أمامنا اليوم هو كيف تبهر متفرجاً يدرك كلّ شيء وهو على دراية أن ما يراه هو "مجرد" خيال. في حالتي، غالباً ما تكون البداية التي ينبثق منها كلّ شيء هي صورة. الصورة في "جوق العميين" هي شامة (ستصبح لاحقاً شخصية خادمة الجيران التي يقع ميمو في حبّها): بزّة يتلاعب بها الريح. هذه كانت البداية. لكن كي أصف كيف وصلت من "بزة يتلاعب بها الريح" إلى "جوق العميين"، فهذا مخاض دام ثلاث سنوات. ماذا تمثل لي شامة؟ لماذا بزّة؟ وماذا يمثل الريح؟ هذا ما يهمني أن أعرفه من خلال الفنّ حين يصبح أكثر من تجربة حياة. أو كيف تصل إلى عوالم غنية ومركّبة انطلاقاً من صورة. انه مسار يتمثل في النسخ العديدة التي مرّ فيها العمل. حين بدأتُ العمل مع المنتج الفرنسي، راحت تنطرح عليّ أسئلة لم أطرحها على نفسي من قبل: ما الفائدة من هذا الفيلم؟ إلى مَن أتوجه به؟ كيف أحافظ على تركيز الجمهور؟ أسئلة تأتي بعد أن أكون سلّمت بأن سيناريو الفيلم أضحى جاهزاً. هنا نصبح أمام عمل من نوع آخر. أنت أمام عدد معين من المتفرجين ينبغي ألا يغادروا كراسيهم ويجب أن يحسّوا أن الفيلم يعنيهم. هذا ما قصدته بكلمة "الصنعة". p يونس ميكري الذي اضطلع بدور الأب خرج علينا بأداء محكم حد الإتقان لا نرى مثيلاً له كثيراً في أدواره السابقة. بناءً على ماذا اخترته لهذا الدور وكيف أدرته أثناء التصوير؟ n يونس ميكري كان أول مَن اتصلتُ به. اشتغلنا عاماً ونصف العام قبل التصوير، وقد حمّلته المسؤولية منذ البداية فكان في مستواها. قلت له "سأغامر بك"، ليس بمعنى أنه دون المستوى. بل على العكس! عندما دخلنا في مرحلة الانتاج المشترك، اقتُرح عليّ رشدي زمّ، لكنني رفضتُ بلباقة لأنني قطعتُ وعداً ليونس ميكري ولا يمكنني أن أخلف بوعدي بعدما أمضى سبعة أشهر وهو يتدرب على الكمان. ميكري انسانٌ فذ وبفضل ذكائه ظهر بهذه الصورة في الفيلم. قال لي يوماً: "رهاني في هذا الفيلم مزدوج، اذ عليّ أن أقنع ميمو الطفل والمخرج". عندها تأكدتُ أنه سينجح في تأدية دوره، لأنه استوعب بمفرده طبيعة علاقته بالشخصية. دارت بيننا نقاشات طويلة قبل التصوير، فأصبحت المسألة في ما بعد تقتصر على تكرار اللقطات من طريق توجيه إشارات أو وشوشات في البلاتو. فأنت لا تحتاج كلاماً كثيراً مع الممثلين الأذكياء. وهذا ينسحب على جميع مَن مثّلوا في الفيلم. لم أشتغل مع الممثل المنفّذ بل المتآزر. منحتُ كل الممثلين مسؤولية شخصياتهم فاقتصر دوري على إدارة الفرقة. p في أعمالك السابقة، يشعر المرء بأن لديك حاجة ما لتشكيل الممثل كالعجين بين يديك، لأن جل مَن مثّلوا في ادارتك ظهروا بصورة مغايرة للصورة النمطية التي تكوّنت عنهم، وهذا ما لا ينطبق على "جوق العميين". ربما يندرج هذا في اطار الفرق بين سينما المشهد وسينما اللقطة... n عندما نقول الانتقال من سينما اللقطة إلى سينما المشهد، فهذا يعني الانتقال إلى شيء جديد هو، في الوقت نفسه قديم. في سينما اللقطة، تكون لديك مجموعة من اللقطات يمكن أن تستعملها في أي مكان في الفيلم. إذا قرأتَ سيناريو "براق"، فلن تجد نفسك في الفيلم لأن هناك هامش مناورة واسعاً جداً يصبح معه الفيلم كله عبارة عن مشهد واحد كبير يمكن أن "تلعب" داخله كما تريد. الاحساس بالزمن في "براق" ليس هو نفسه في "جوق العميين". يمكن أن تلعب باللقطات أيضاً في هذا الأخير، لكن داخل المشهد الذي يفرض عليك زمنه ومكانه الخاصين (...). نعم، "براق" فيلم لقطة رغم أن بعض المشاهد فيه هي التي تتحكم بالفيلم وتمنحه إيقاعه. المشهد في "جوق العميين" له بدايته ونقطة تأزم ونهاية ويحكي شيئاً محدداً وهناك تنقلات ودخول وخروج من المجال تتكرر كثيراً. p هناك جمالية الزيف التي تعبر الفيلم كله وتقول بعمق حقيقة مهمة من حقائق المجتمع المغربي. كيف جاءت فكرة الاشتغال عليها؟ n لم أفكر في هذا الأمر بشكل واعٍ. لكن دائماً حين تكتب مشهداً ما، تعيد قراءته فتتبدى لك أمور جديدة وتقول لنفسك: "نعم! هذا ما أقصده". هذه أهمية المقالات من طينة مقالك، التي تأتي بعد الفيلم. تقرأها، فتجد نفسك متفقاً مئة في المئة مع ما جاء فيها وتصيح: "نعم، هذا بالضبط ما أردت أن أقوله"! ربما فكرتُ بشكل مختلف في أشياء كهذه في النسخ الأخيرة من السيناريو، ولكن هذا كله لم يأتِ في البداية. لم تكن هناك سوى عوالم من جهة وفيلم ينبغي انجازه من جهة مقابلة. مثلاً، في ما يتعلق بمشهد النبيذ داخل إبريق الشاي، هذه عادة كانت منتشرة آنذاك لكن تجلياتها عميقة كما قلتُ. كان والدي يشرب النبيذ داخل زجاجة الكولا، أما البيرة فكان يسميها "الكولا" (اللصاق). كانت هناك أجواء معينة وقد أعطت بطريقة لاإرادية أرضاً خصبة للقراءات لأنها متجذرة في المخيال المغربي. تأكد لو أنني فكرتُ في كلّ ما قلته في مقالك لأنجزتُ فيلماً ميكانيكياً فجاً.