أصوات دافئة كأنها همسات الملائكة، شموع تكتوي خلف ستائر المحلات، وروائح الكعك بالقشدة البيضاء اللزجة تغري العين والمعدة. هكذا تستعد العاصمة « سانتياغو» للاحتفال بأعياد الميلاد. الجد بيدرو يعد حفيدته بقضاء هذه الليلة في القرية الصغيرة التي تبعد عن العاصمة ببضع الكيلومترات. يخرج كعادته الصباحية، يتمشى بمحاذاة الشارع الخلفي للبيت، متفقدا العجوز فرغاس في غرفته الكارتونية. الكلب يواجهه بنباح شديد لكن سرعان ما سيحرك ذيله يمينا وشمالا بعدما يتأكد من هوية الجد بيدرو: « أين أنت أيها المخرف؟» يحمحم فرغاس بصوته الواهن، إنه يعاني من نزلة برد ألمت به من جراء ترك نافذة غرفته الكارتونية مفتوحة تستقبل التيار القادم من جبال الأنديز. كانت سيمفونية الفصول الأربعة تجلجل المكان، يتذوقها الجد بيدرو كقطعة شوكلاتة تذوب بين أسنانه، يتأفف ويتأوه في الوقت نفسه، تلك التأوهات الثقيلة، فتتماوج الأفكار في مخيلته كيعسوب يريد أن يدرك حدائق الخلاص، يومها كان جنديا في الفيلق الرابع لمكافحة الشغب بتوصيات صارمة من بينوتشيه الذي يحكم الشيلي بقبضة من حديد. التلفزيون الرسمي يعلن عن حالة الطوارئ. كلمات معتوهة من سيادة الرئيس كافية لملء المستشفيات والمقابر. الجنرال الطريس بقسوته الجبارة، يأمر أن يمحق الجميع. بذرة العنف سقاها جحيم صحاري أتاكاما في الشمال، منذ كان طفلا يتنبأ له الكل بعمل مرعب، كانت هوايته قتل الكلاب الضالة، ومطاردة القطط الضامرة. نشوة رهيبة تذكي بروحه كشعلة نار في كومة من الأشواك الصفراء التي تغطي الشمال. يخرج فرغاس بعد أن انحنى على منسأته، وفي يده قارورة « نيجريتا «، يريد أن يحتفل بالعيد هو الآخر: - كيف حالك أيها العجوز؟ - بخير مازلت أتربص بباتريسيا، وهذا دليل كاف على قوتي. - إنك توهم نفسك أيها الجد بهذه الحيوية المفتعلة محاولا ارتشاء الموت بحركاتك المتشنجة التي يربكها ألم النقرس. يتعالى الضحك بينهما، وهما يدبان كسلحفاة تعقد عزمها على أن توهم الآخرين بسرعة واهية، يبلغان الحديقة العمومية التي تغطيها أشجار الأروكاريا وأزهار الريحان. ينشرح وجه فرغاس بعد أن يردف الكأس الرابعة مكسرا مذاق النبيذ بحبات الفستق: « لا شراب بدون مزة «. هكذا يقول فرغاس كأنه يغري الجد بيدرو الذي يمتنع عن الشرب، حتى يبقى في كامل قوته ليفي بوعده، لكن العدوى تبسط ذويها على إحساسه المرهف، فيعدل عن الفكرة، يتناول الكأس الأولى بنوع من الاشمئزاز، أما الثانية والثالثة، فستعرف السبيل إلى جوفه دون تكلف. تجود عقيرته بالغناء: نحن أبناء هذا العام نمشي كأطفال بوداعة الحمام الكعكة الجريحة تنزف عسلا نقضم أظافرنا من شدة الغيظ على فوات العام وانقضاء الكعكة. يصفق فرغاس بحرارة، كأنه يكتشف الصوت الملائكي للجد بيدرو. تطفئ « سانتياغو « أضواءها في منتصف الليل لاستقبال العام الجديد. أما الحفيدة فما زالت تنتظر عودة جدها...