أنا الرجل المحترم، ترتجف الورقة بيدي بلا روح، تنتابها هستيرية الإحباط وتجثم مخالب الأقلام على أنفاسها، فتلجم لغوها، وتتجسد الكلمات هراوات حديدية تزهق روح الورق وتبرز الإشارات الضوئية الحمراء قانية تمنع الحركة والمرور، والإشارات كلمات خطت بتحد على ورق محلي رخيص اختصرت مقتضبة في : «تغلب على كتاباتك المباشرة والتقريرية، تغيب آليات الكتابة والإبداع، ننصحك بمداومة المطالعة»، تتراقص الحروف حول نيران متأججة، الطبول إفريقية، تقرع وسط أدغال موحشة، تقل إلى صفراء، فبنفسجية، ثم حمراء قرنفلية، وتنبهني إلى التخلي عن الكتابة. كانت الكلمات تقصدني، تقصد المحاولات العديدة التي أمضيت زمنا في نحت تماثيلها، وبث الروح في أجسادها. إن أقفال جنة الكتابة موصدة في وجهي، ويتعاظم حنقي بتذكر موقف زوجتي من الكتابة ونعتها بأنها حرفة الضائعين، أي من لا حرفة لهم، ستغتبط زوجتي، وستلهب حلمي بسوط لسانها، تنعتني بالفشل في الكتابة والحياة. أقلب الورقة بين أصابعي، الحروف قضبان حديدية سميكة تتجمع لتخلق فاصلا حديديا مانعا، يفصل الممرات الضيقة عن الشارع العريض، أترك الفاصل الحديدي وهو يعيق تقدمي إلى الأمام وأجوب الشوارع المزينة بالمصابيح والأنوار بمناسبة التدشين الرسمي لمتحف المدينة. تأخذني خطواتي إلى النادي الرياضي، الرابض بالمدينة العانس، «يستقبل» الكرسي الخشبي البارد أشلاء جسمي الحيواني. يقصدني سي لحسن النادل بابتسامته الماكرة المعهودة، ينتظرنا بالترحاب والتهليل والسؤال عن الأحوال، ويتعمد السؤال عن زوجتي، يلقبها بالداخلية. لا يفتأ يردد : - هل تعلم الداخلية بمجيئك إلى النادي؟ هل باركت الداخلية سهرك الليلة؟ ويختم نادرته بأمنيته بأن لا تضبطني متلبسا بإفراغ كل الكؤوس التي تصلها يدي في جوفي. وسي لحسن يستقبل معظم الرواد بمرحه، ويودعهم بغلظة وقسوة متذمرا من عربدتهم وسكرهم واستماتتهم في الارتواء. جل رواد النادي محترمون. يأتون ببدل أنيقة، منسجمة الألوان والأشكال، أنا أحدهم وقد تعمدت اليوم اختيار بدلتي بنفسي، لقد أقصيت زوجتي عمدا، اخترت السروال الكاكي، والقميص البني الفاقع، لا شك أنكم تتفقون معي في تعايش اللونين، يزين نصفي حزام تتخلله دوائر صغيرة مذهبة، يتخللها مسمار دقيق مكعب، تعلو ربطة عنق حريرية يغلب عليها لون «بلعمان»، تسريحة شعري إلى الخلف تلائمني، وضعت قطرات عطر مكثفة خلف أذني وأرنبة أنفي. إني رجل لا يستهان به، ولو كان رأي النقاد معتدلا لكنت محترما وقورا. إن موقف هؤلاء قد ترك مرارة في حلقي. أفك الزر الأعلى لقميصي، وأخفف من ضغط ربطة العنق. ماذا لو نصحوني بأن أبوح بأحلامي؟. يتراءى لي جوربي «البيج» من تحت أقصى سروالي. أضع رجلي اليمنى على اليسرى، وأجذب الجورب فوق أشرطة سروال النوم الداخلي، أتلهى بشعيرات شاربي. أنا رجل محترم دون شك، وأتحدى رأي زوجتي الداخلية التي تشكك في عنفوان ذكورتي. يتوافد البعض، أغلبهم من الذكور، يغيظني ذلك، فتواجد الجنس الآخر بهذا المكان يلطف الجو وينبئ بالامتناع والمؤانسة. تتصاعد حرارة المكان، وتتعالى ضحكات وتعليقات الرواد، يطبق عليها تعليق سي لحسن «أرى برع»، «أطحن»، وهو يدور بين الطاولات الثملة المكتظة، يقظا، متوجسا، يقطع نصفه حزام علقت عليه محفظة يملأها بسخاء السكارى، يضع أمامي الجعة المثلجة، حبات لؤلؤ تحضنها. أهي الثامنة، أم التاسعة بعد العاشرة أو العشرين؟ لم أعد أضبط العدد. من المؤكد أنها حسناء لم تتجاوز العشرين، أصبها زخات متتابعة تجرف معها المرارة، كل المرارة، فشلي في الكتابة. ضعفي أمام الآخرين، وكرهي لزوجتي. أفك أسر الدائرة المذهبة من ربقة المسمار المكعب الرأس، وأوسع من الحزام الأسود لأترك مجالا لمجرى الجعة، تمتصها أمعائي بتلهف، يجف حلقي، واشعر برغبة مجنونة في الارتواء. أشير بيدي أو بأصبعي.ينبري سي لحسن – أرى برع – قنينات ربيعية، تتداعى أمامي، تطفئ ظمئي الأزلي بسيقانها الطويلة المنحوتة، وجيدها الفارع، يشل تفكيري، أتناسى زوجتي الحانقة الراغبة في إغرائي بمجالستها بعد أن استنفذت كل أسرارها، وأنا شهريار الضائع أحن إلى حكايات تمحو لوعة الفشل المتواصل، أنا الثمل الآن، المنتشي بربيع الجعة، وحرارة المكان ! أحلم برضى النقاد، واستجابة عزيزة لنداءاتي. يكفي ذكرها لمؤانستي، أراها جسدا بضا، يافعا، تلفحني شظايا أنفاسها، يذوب شوقي ويجري شلالات تقذفني إلى قمة الانتشاء. حركة نشيطة بين الطاولات، الزحف على أشده نحو مراحيض النادي التي «ثملت» بدورها بعصارة العنب والشعير مع الهموم والحصار، الأقمصة تترك قواعدها، الأحزمة تخفف قبضتها، والسراويل الداخلة إلى المرحاض والخارجة منه فقدت التوازن وتماهت مع ارتخاء مخدر. أنا أحب الجعة وعزيزة، إنهما تمنحاني الثقة في الحياة والحلم والكتابة، لكنني أكره نظرة الاحتياج في عيون أولادي وانعدام جسور التفاهم بيننا وأخاف الموت بمهانة، فلتحي عزيزة التي تخليت لها عن ثروتي، وفديتها عطرا، وردا وعشقا، ولتمت زوجتي، أصرخ وقد قفزت فوق الطاولة المستديرة : – «بص شوف عزيزة بتعمل إيه – بص شوف عزيزة بتعمل إيه «. وكانت عزيزة تخلع عني قميصي البني الفاقع وسروالي الكاكي بحركات مدربة وقد تعطلت في فك الأزرار. أصحاب المجلس لا يبالون بي، ولا تستهويهم عزيزة، يكون سي لحسن المتطفل الوحيد في هذا الوضع الحميمي الذي يضيع على عزيزة فرصة فك الأزرار وكانت آخر مرحلة للاختلاء بها. صوته حازم في إنزالي من الطاولة، وطردي خارج المجلس. لا أع ما يردد وإن كنت أحس بقوة قبظته على كتفي، أستغرب قسوته علي وقد اعتقدته صديقي، وذات مرة، وكان الطقس خريفيا منع توافد الرواد، تمكن من مجالستي ودعوته إلى الشرب بصحبتي، لكنه فضل ثمنها، أذكر أنه يومها كان غريبا، حزينا، أسر إلي قائلا والعهدة على من أخبر : «تيقن أنني حزين على فقدان دوداييف حزني على وفاة أبي وأم كلثوم، مكانة الثلاثة متكافئة بقلبي، لا تعوض، يعزيني صوت أم كلثوم، وأحلم بدوداييف بكل مكان، وأبي ورثني مسؤولية إخوة ودين، وأنا أعيش على ذكرى الثلاثة، ولن أنساهم ما حييت». نطق بذلك يومها وانسل بين الطاولات، ولكنه الآن يجرني إلى الخارج، أنا الرجل المحترم ذو البذلة المنسجمة، يرمى بجسمي وسط تاكسي يلفظني إلى البيت. زوجتي لا تنام، لا تستطيع ذلك قبل أن تجلدني بلسانها، أتمنى باستمرار لو كانت الخمرة كالكتابة تجهل زوجتي فك طلاسمها، لكن رائحة الخمرة العبقة تثير بطشها، زوجتي التي يكبر حنقي عليها على رفض النقاد لأحلامي، وسخطي على عدم فك أزرار قميصي بأنامل عزيزة المدربة. أتجشأ، يلفظ فمي سائلا حارقا، ينعي حلمي بالكتابة والفوز بقلب عزيزة.