عرفتُ الأديبة المتألقة «الزهرة رميج» من خلال العمل الإبداعي السابق «أخاديد الأسوار» والمجموعة القصصية «أنين الماء»،وها أنا اليوم، ألتقي بها ودون سابق إنذار، في عمل رائع شدني إليه، شدا، وقرأته بتأن وفي فترة متقطعة وطويلة، ومن عادتي أن لا أقرأ الأعمال الروائية المطولة لميولي إلى الشعر. ما شدني إلى هذا العمل عدة أشياء قد أستحضر بعضها: سبق لي أن راسلتها وقلت لها بصدق ودون رياء أثناء قراءتي ل: «أخاديد الأسوار» أنها لم تتسفل، وأنا أقرأ «الناجون»، وكلي معهم في مكاتب البوليس والمخابرات، وأمام المحققين والقضاة، وفي الزنازن الإفرادية، والزنازن العقابية التحت أرضية، والعنابر، ومختلف المطاردات، لاحظت أنها تكتب بأصالة وبهم وبمسئولية، وبأدب وبقيم وأخلاق لا نجدها عند كتاب هذا العصر الذين يريدون إرضاء فرنسا وإسرائيل وبعض الجهات الخليجية إما طمعا في المال والشهرة أو الجاه. وبالرغم من أن العمل الإبداعي يتناول فترة النضال أيام المد الاشتراكي، والدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وبث الوعي لدى الجماهير قصد التغيير الشامل الجامع في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، وبتعبير اقتصادي البني التحتية والفوقية، إلا أن الراوي والشخصيات بمختلف أصنافها وهيآتها وأعمارها، كان همها التغيير وتحقيق العدالة، ولا شيئ آخر. رغم ما كان يحدث بين الطلبة من علاقات تستوجب الحضور لوكان الكاتب أو الراوي غير الزهرة رميج التي كان همها الوطن والتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، لأخذَتِ الرواية منحى آخر غير هذا المنحى، ولكانت هستيريا المحرمات حاضرة بكثافة. لقد استطاعت الاستحواذ على القارئ دون اللجوء إلى التسفل والقول البذيء ماعدا كلمة او اثنتين صدرتا من رجال المخابرات والبوليس. أما الناجون، فكان همهم التغيير، والارتقاء الفكري، وتبادل الحوار الهادف. وبرواية الناجون تكون قدمت عملا إبداعيا راقيا، فعالا، وحركيا، يسمو بالإنسان إلى الإنسانية، ولو أنه في بعض مضمونه تأريخا لمرحلة من تاريخ المغرب الشقيق، مرحلة عاشتها كل الأقطار العربية بما فيها التي كانت تنادي، أو تسعى لبناء الاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحتى هذه البلدان عاش أبناؤها في غياهب السجون والزنازن الإفرادية، وحوكموا أمام المحاكم العسكرية بأحكام متفاوتة، سواء كانوا من أقصى اليسار أو من أقصى اليمين، كلهم ذاقوا مرارة الخطف والترهيب والتغييب والعقاب. «الناجون» عمل إبداعي ارتكز على الحقائق والوقائع التي عاشها أصحابها ولو كانوا من ورق، إلا أن أمثالهم الواقعيين من لحم ودم هم في وسطنا وأمامنا، ولعل الأديبة الزهرة رميج واحدة منهم وما «سامية» بطلة الرواية إلا الزهرة رميج المناضلة المقاومة. ما أحوجنا إلى أدب مثل:»الناجون» يوقظ الفكر، ويهذب النفس، ويحيي الحوار بين الأطراف ولو كانت متنافرة أو على مذاهب مختلفة. لقد ماتت الجامعة بموت الاختلاف، وانقراض المنابر الحوارية والخصومات الفكرية. في رواية «الناجون» فكر، وفلسفة، وأخلاق، وأيديولوجية، وصداقة، ونضال، وتعاون، وتزاور، وتآزر، وتسامح. «الناجون» رواية قامت على التدوير، أعني أن بنيتها وقوامها الدائرة، ودعائمها التحول، وسندها الفكر الحر، وأبطالها مناضلون من أجل قضية العدالة الاجتماعية والتغيير، وأن التغير الكلي لا يحدث إلا بالتغيير الجزئي، فلا يمكن للبطل أن يغير الواقع الاجتماعي إلا إذا غير من نفسه، أي أن يتخلى من رواسب الماضي، ومن معتقداته الزائفة ومن خوفه ومن ثقافته التي تكون في بعض الأحيان حبيسة الماضي، أو الآن المتوقف الراهن المزيف. رواية «الناجون» اعتمدت على الحركة ولم تبق حبيسة المكان الواحد مهما كان نوعه فأبطالها في حركة نضالية وفكرية تستوجب المطاردة والتنقل من وإلى داخل وخارج الوطن. الراوي في «الناجون» على ثقافة عالمية واسعة: دينية وفكرية وفلسفية، وذهنه متقد، لا يكل رغم عذابات السجن، فالرسائل المرسلة والواردة تنبؤنا بأن ذاكرته صلبة، تتذكر كل شيء، وتستحضر كل شيء بالشهر واليوم والساعة والدقيقة سواء تعلق الأمر بالأحداث التي جرت، أو التي تعرض لها الأبطال ومختلف الشخوص. ويستحضر العديد من الرموز مثل روزا لوكسمبورج، سرحان العلي، توفيق زياد، شي غيفارا، أوغسطين، نيتشة، روسو، جمال عبد الناصر. الراوي تارة هو الكاتبة وتارة أخرى، يتقمص شخصية بطل من أبطال الرواية. أسماء الشخصيات كلها تحمل دلالات أبانت عنها المبدعة في آخر صفحات الرواية، بدء من سامية إلى عبد العاطي وراضية وخليل وسعد وحسناء، إلا أني وبصفتي قارئا، لازلت أتساءل عن عبد العاطي لماذا لا يكون عبد المعطي، ولماذا حكمت الكاتبة على «سميرة» بالموت؟ رواية «الناجون» تطرح العديد من قضايا العصر وخاصة قضايا المجتمع العربي مثل: قضية الحرية، التخلف والتقدم، تغيير الاتجاه حسب المصلحة، المعارضة والموالاة، الزواج والغيرة، الأعراف والتقاليد القانون والطبيعة. في القسم الأول من الرواية المعنون ب:»الزلزال» الذي يشدنا إلى ماهو آت ك: «المستقبل» الصامت الذي لا يفصح عن كنهه ولا يفشي أسراره كما ورد في العتبة التي تتقدم العنوان المذكور ليدفعنا إلى اكتشاف أسرار الرواية، إذ للرواية أسرار لايمكن الوصول إليها إلا بعدة تكون في مستوى المخزون الثقافي للمبدع، إذ المبدع في الغالب، يكون أكثر وأوسع ثقافة من القارئ أو المتلقي مهما كانا، إذ المبدع يسعى دائما إلى تنمية مخزونه المعرفي، وتجديد معارفه، وتنويع تجاربه الإبداعية. يفاجئنا هذا القسم باللقاء غير العادي وغير المتوقع بين «عبد العاطي» بطل الرواية و»حسناء» التي سنعرف اسمها لاحقا، فما نعرف هنا، سوى جنسيتها المغربية، وأنها تقوم بعمل خيري لفائدة جمعية السرطان وعلى علاقة حميمة بالمرضى، وخاصة الأطفال مما يجعلها في حداد مستمر. رغم مادار من حديث بينها وبين عبد العاطي، فلا هي ولا هو تعرّف على الآخر بالاسم. فالذي جمعهما هو الهم ورائحة الوطن، فالناس في نظر عبد العاطي كلهم مهمومون ومملوؤون بالحكايات فهم عبارة عن «مقابر متحركة». ففيهم من يحكي ويفرغ همومه هذه بطريقة إبداعية، ومنهم من يبقيها حبيسة في داخله لعدم تمكنه من بلورتها في تجربة فنية،ولا يقوى حتى على حكيها بشكل قصصي يجذب إليه العقول والأفهام. وعبد العاطي واحد من هؤلاء الذين لم يكتبوا قصصهم ولم يترجموا لنفسهم، رغم أسلوبه الخطابي والإقناعي التحريضي للطلبة أثناء الإضرابات أو أثناء المحاورات الفكرية. أما «حسناء» فنستشف من حديث الساردة أنها طليقة رفيقها في النضال، فآست نفسها بمساعدة الأطفال المرضى بالسرطان إذ المعادل الموضوعي في نظرها بين هؤلاء الأطفال جيل المستقبل والطلبة المناضلين من أجل التغيير هو العذاب. تقوم الكاتبة/الساردة بمقارنة بين قول الأخت المتحجبة التي ترى أن هذه الأمراض سببها الابتعاد عن الله،ولا بد من العودة إلى الطريق المستقيم، وبين قول القس في رواية « الطاعون ل: ألبار كامي ««إن الله يريد أن يراكم تجلسون بين يديه وقتا أطول مما تفعلون، وتلك طريقته في التعبير لكم عن حبه» ص24.عرفت الكاتبة كيف تستنطق الأخت المحجبة وكيف تستحضر قول القس، وفي ذات الوقت، عقد الصلة بين قوليهما حيث يتفقان في ضرورة العودة إلى الله والاستغفار منه ليخرجوا من دائرة العذاب إلى دائرة الرضا والرحمة، إلا أن هذا الاستحضار يستوجب سؤالا استنكاريا وهو ربط هذه الأمراض (السرطان والطاعون) بالغيبيات أو الإيمان بالله، فلماذا لا تكون صلة هذه الأمراض ب: النظافة، المأكولات المعلبة، تلوث البيئة التفجيرات النووية، العلاقات الجنسية في غير محلها وفي غير زمانها؟فالتفسير العلمي والتقدير الذهني المنطقي يقول هذا. ورغم ذلك، لايستبعد ماورد على لسان الأخت المحجبة والقس لما في النصوص الدينية المقدسة وفي طليعتها القرآن، ما يبلغنا ويضعنا أمام حالات تشبه هذه مثل: طوفان نوح وما أصاب قوم لوط وغرق فرعون فهذه القصص بقيت محفورة في الأذهان، والحقيقة أن ظاهرة السيدا وما شابهها من أمراض تؤيد هذا المنحى الإيماني. بمعنى أن الفرد المؤمن الملتزم بالحلال والحرام يكون بمنأى عن هذه الأمراض إلا فيما ندر يقول القس في رواية الطاعون: «سلط عليكم هذه الآفة كما سلطها على كل المدن التي ساد فيها الفساد منذ فجر تاريخ البشرية» ص24. قول القس لا يتنافىمع ما ورد في القصص القرآني وخاصة قصة لوط.ويبقى الشك قضية تستوجب الطرح للوصول إلى الحقيقة التي لاتتناقض مع العلم، وما ذنب الأطفال؟ والحقيقة،هذه مسببات تجعل «حسناْء» في حدة من الغضب، فتبحث من جديد عن علبة السجائر داخل حقيبتها، ولتتذكر الرجل الذي تناولت معه القهوة، فتتساءل في عجب: «إلهي ! لماذا اعترض ذلك الرجل طريقي؟»ص25. هنا، يبدأ المنحنى في التشكل في العودة إلى حكاية الرجل التي لا تخلو هي الأخرى من سرطان السياسة، ولولا هذا السرطان ما ترك بيته وأهله ورفقاءه، بل ووطنه ليحترق كالسيجارة في غربة عن وطنه وخلانه أزيد من ثلاثين سنة. تشكُل هذا المنحنى له صلة بالأطفال المرضى وحب المتسائلة (حسناء) لهم، وبالرجل الرفيق الزوج الذي تخلى عنها بعد نيله شهادة الدكتوراه. * كاتب جزائري، مدير مختبر كلية الآداب واللغات، قسم الآداب واللغة العربية، جامعة بسكرة، الجزائر.