تعزز مجال البحث التاريخي الوطني المتخصص في تحولات ماضي منطقة الشمال خلال النصف الأول من القرن الماضي، بصدور عمل أكاديمي غير مسبوق، تحت عنوان «التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة ( 1921 – 1927 )»، لمؤلف الدكتور مصطفى المرون، وذلك خلال مطلع السنة الجارية ( 2016 )، في ما مجموعه 182 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل الجديد إضافة نوعية لمجال جهود إعادة تقليب جرائم إسبانيا فوق الأرض المغربية، في سياق سعيها لبلورة مشروعها الكولونيالي، وهو السياق الذي ارتبط بالرغبة النفسية العميقة التي اجتاحت صانعي القرار بإسبانيا خلال مطلع القرن 20، عقب الانكسار الواضح في مشروعها الاستعماري المرتبط بفقدانها لآخر مستعمراتها بأمريكا وبآسيا، وتحديدا بكل من كوبا والفلبين. لقد سعت إسبانيا الجريحة إلى الانتقام لشرفها العسكري من خلال تأكيد سطوتها بشمال المغرب، ومن خلال استغلال الاختلال الواضح في موازين القوى بين مغاربة الريف وجبالة من جهة، وبين الإسبان من جهة ثانية، من أجل استرجاع هيبتها المفقودة ومن أجل ضمان مقعد لها إلى جانب الكولونياليات الصاعدة بأوربا، وخاصة فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا. ولتحقيق هذا الطموح، أضحت كل الوسائل مباحة، وكل الطرق أصبحت تؤدي إلى الريف وجبالة، وكل الخطط غدت قادرة على خلق حقول مشرعة للتجريب ولتطويع فئران الاختبار. لا يتعلق الأمر باختبار فعالية الأسلحة المستعملة، بقدر ما يرتبط باختبار قدرات الإسبان الذاتية على تطويع المكان وإعادة رسم جغرافيته وعلى استيعاب ساكنته وعلى توجيه مساره. لذلك، فإن استعمال الأسلحة الكيماوية لم يكن إلا وسيلة لتفعيل هذا الهدف، باستغلال عدة معطيات داعمة بإسبانيا وخارجها، وعلى رأسها استثمار الجو النفسي المهيمن بشبه الجزيرة الإيبيرية والداعي إلى الانتقام «للشرف الإسباني» عقب الكارثة الرهيبة التي لحقت الجيش في أنوال سنة 1921، ثم باستغلال ظروف ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى والتوجه لتجريدها من ترسانتها العسكرية والكيماوية بموجب معاهدة فرساي الشهيرة لسنة 1919 وتوجه إسبانيا لنقل الخبرة الألمانية والمخزون الألماني قصد استثماره ضد من كانت تصفه الأدبيات الاستعمارية «بالمورو المتوحش». ورغم أن موضوع استعمال الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين بشمال المغرب قد نال اهتماما متزايدا لدى باحثين ومؤرخين رواد من خارج المغرب، وعلى رأسهم المؤرخ الإنجليزي سيباستيان بالفور والمؤرخ الإنجليزي بول بريستون والمؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا، فإن الموضوع لم ينل إلا اهتماما محدودا داخل الجامعية المغربية، في حدود علمنا المتواضع. فباستثناء بعض التنقيبات التي قام بها بعض المشتغلين على حروب الريف التحريرية من أمثال الأستاذ محمد خرشيش، ظل الموضوع مجالا للتداول الإعلامي وللتدافع الجمعوي والمدني لمغرب الزمن الراهن، من خلال إصدار ملاحق صحافية حول قضية استعمال الغازات السامة بشمال المغرب، ثم من خلال تحركات بعض إطارات المجتمع المدني لمطالبة إسبانيا بالاعتراف بخطئها في حق المنطقة وساكنتها، ولمطالبتها بجبر الضرر جراء ما ارتكبته من جرائم بهذا الخصوص. وفي كل الحالات، ظل الأمر مرتبطا بنزوعات ترافعية لم تستثمر عطاء البحث التاريخي الرصين، المتحرر من ضغط المرحلة ومن نزوات القراءة العاطفية المطمئنة ليقينياتها التي لم تكن مستندة دائما إلى قوة الحجة ومتانة التحليل وعمق الرؤية العلمية، بل ظلت تنحو – باستمرار – نحو توظيف خطاب المظلومية الذي يبحث عن «أي شيء» لتبرير مطالب اليوم، عبر الاستنجاد بتأويلات نزوعية لواقع الأمس. دليل ذلك، أن الكثير ممن يتصدى للموضوع إعلاميا وتعبويا، ظل يسعى للربط بين استعمال إسبانيا للغازات السامة خلال عشرينيات القرن الماضي وبين ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان في صفوف سكان منطقتي جبالة والريف، عبر وضع علاقة سببية مباشرة بين الأمرين، بدون احترام خطوات التريث الضرورية لإصدار مثل هذه الأحكام الجزافية المطلقة. ولا غرابة أن تثور ثائرة أصحاب هذه الدعوات، ضد كل الأصوات العلمية التي تسعى إلى إعادة مقاربة الموضوع في إطاره الأكاديمي الخالص، بل وقد يتحول الباحث المتخصص إلى هدف مشروع أمام كل سهام التجريح والتشكيك في الكفاءة وفي النزاهة الفكرية، ولعل فيما وقع للباحثة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا – في هذا الإطار – خير دليل على ما نقول ... وعموما، يمكن القول إن الإصدار الجديد للدكتور المرون يعتبر أول عمل أكاديمي نجح في كشف النقاب عن خبايا موضوع استعمال إسبانيا للغازات الكيماوية السامة بمنطقتي الريف وجبالة خلال مرحلة عشرينيات القرن الماضي، وهو الاستعمال الذي غطى جغرافية واسعة من الشمال، وشمل مراكز قروية ممتدة، إلى جانب العديد من المراكز الحضرية مثل الحسيمة والناظور وشفشاون وتطوان والعرائش. لقد استطاع الأستاذ المرون توظيف ذخيرة هائلة من الوثائق الدفينة المحفوظة خارج المغرب، إلى جانب نتائج الأعمال القطاعية التي اشتغلت على الموضوع وخاصة بإنجلترا وبإسبانيا، ثم تعزيز ذلك بالمظان المرافقة والموازية، مثل الصحافة المعاصرة والروايات الشفوية والصور الفوتوغرافية. وإذا أضفنا إلى ذلك، تماسك الرؤية العلمية في تجميع المادة الخام وفي تصنيفها وفي تحليلها وفي استثمارها، أمكن القول إن الدكتور مصطفى المرون نجح في تقديم عمل غير مسبوق في مجاله، لا شك وأنه يفتح الباب أمام جهود الباحثين والمتخصصين من أجل توسيع آفاق الدراسة داخله، بعيدا عن نزوات الاستيهامات العاطفية المنتشية بشوفينياتها، وقريبا من صوت الضمير العلمي ولا شيء غير ذلك. ولعل من محاسن هذا العمل، حرص المؤلف على التعريف ببعض الأعلام الذين كان لهم حضور قوي في مجال صنع الوقائع والأحداث، ممن لا نعرف عنهم إلا النزر القليل، مثلما هو الحال مع الوسيط الألماني سطولتزينبيرغ والقايد حدو بن حمو البقيوي ( المعروف بالقايد حدو لكحل البقيوي)، ثم من خلال ربط أدوار هذه الأعلام المؤثرة بانسياب الأحداث والوقائع. في هذا الإطار يمكن أن نستشهد بما كتبه المؤلف عن شخصية الألماني سطولتزينبيرغ، حيث يقول في كلمته التقديمية : « لعب هوغو سطولتزينبيرغ دورا رئيسيا في تطوير الترسانة الكيماوية الإسبانية، وتطويع استخدام هذه الغازات لكي تتوافق مع الطوبوغرافية المغربية المعقدة، والنصح باقتفاء تكتيكات جديدة في الحرب، عن طريق توجيه الضربات إلى أهداف لم تكن معروفة من قبل في الحروب، كالأسواق، ومنابع المياه، وذلك بهدف فرض حصار اقتصادي على السكان ودفعهم إلى الاستسلام ... « ( ص. 11 ). وبعد استكمال الاستعدادات، انطلقت العمليات الجوية الإسبانية، بمشاركة فرق جوية أجنبية مثل «السرب الجوي الأمريكي»، لقصف المدنيين الآمنين بالغازات السامة والمحظورة دوليا مثل غاز الفوسجين وغاز الخردل/الإبيريت، الأمر الذي استطاع الأستاذ المرون التدقيق في خباياه الدفينة، استنادا إلى استغلال علمي لمواده الخام ولرصيده البيبليوغرافي ذي الصلة بمنطقتي الريف وجبالة. وقد نحا الأستاذ المرون نحو إبراز البعد الإنساني للقضية عبر إثارة «فرضية» إثبات علاقة الغازات الكيماوية بمرض السرطان، وعبر إدانة الدولة الإسبانية مباشرة، من خلال الاستشهاد بما يدين هذه الدولة على لسان أعلى مؤسساتها، مثلما هو الحال مع الشهادة التي وردت على لسان الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر، عندما قال : « ما يمكن بحثه، هو إبادة بني ورياغل والقبائل الملتفة حول بن عبد الكريم، وكأن الأمر يتعلق بالبهائم وليس البشر « ( ص. 160 ). لا شك أن كتاب «التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة»، بصيغته العلمية التي بلورها الأستاذ المرون، يساهم في سد الفراغ المهول الذي ظل يعتري مجال البحث المتخصص، بشكل يفتح آفاقا واسعة أمام جهود إعادة تقييم الوقائع المؤصلة للأحكام المتداولة حول تحولات واقع منطقتي الريف التاريخي وجبالة التاريخية، تشريحا لالتباسات الذاكرة التاريخية المشتركة لمغاربة ولإسبان الزمن الراهن، وتأسيسا لقواعد الحوار الراشد المتجاوز للطابوهات وللاستيهامات وللانزياحات النزوعية الموجهة.