يبدو الناقد السينمائي السنغالي بابا ديوب معتمراً قبعة «ستيتسون» التي لا تفارق رأسه كراعي بقر خرج للتو من فيلم لفورد أو هاوكس. نقاط مشتركة عديدة بين الناقد الجيد وأبطال أفلام رعاة البقر. أولاها الجنوح إلى الوحدة الذي يميز شخصية كليهما، ثم دقة الملاحظة وبُعد النظر وسرعة ردّ الفعل. سمات لا يمكن أن تخطئها في بابا ديوب حين تعرفه عن قرب. كيف لا، وقد راكم خبرة طويلة في صحارى السينما الافريقية الشاسعة وواحاتها النادرة، قبل أن يتم انتخابه رئيساً للفيديرالية الافريقية للنقد السينمائي في العام 2008. التقيناه في أحد الصباحات، أثناء انعقاد الدورة الثامنة عشرة من مهرجان السينما الافريقية في خريبكة، فكان هذا الحوار حول المهرجان والسينما السنغالية والنقد السينمائي الإفريقي. o كيف عشت أجواء المهرجان هذه الدورة؟ n لقد كان دائما مهمّا ومفيدا حضور مهرجان خريبكة. فقرات المهرجان منظمة بشكل مثير للاهتمام: في وسعك أن تشاهد الأفلام مع الجمهور طوال اليوم، وفي المساء، نقاشات مركزة جداً تذكّرنا بنوادي السينما. ثم هناك فضاء نقاشات أفلام المسابقة كلّ صباح. من دون أن ننسى الندوات الرئيسية التي تتطرق لتيمة محورية كل عام، والورش التي تتوجه للشباب. لسنا في صدد تمجيد المهرجان، لكن ينبغي أن نقول بشكل ذكي إنه يشكل مكاناً حقيقياً لتبادل المعرفة والخبرة وإنه يمكننا أن نرى تطور السينمات الإفريقية ومختلف الاتجاهات الجمالية والتيمات من سنة إلى أخرى. o التساؤل حول جدوى مهرجان السينما الإفريقية في خريبكة وجدوى المهرجانات الافريقية بصفة عامة كان الخيط الناظم للنقاش الفكري أثناء هذه الدورة. ما هي الخطوط العريضة والدروس التي استنبطتها من هذا النقاش؟ n مجرد أن تطرح إشكالية جدوى مهرجان ما، ينبئ عن رؤية نيّرة وشجاعة. في وقت معين، ينبغي أن يتوقف المرء وأن ينظر إلى نفسه في المرآة ثم ينظر إلى مساره السابق ويعيد تصور المسار المستقبلي في ضوء استنتاجاته. لقد نشأ مهرجان السينما الافريقية انطلاقاً من النوادي السينمائية، ومن ثمّ تطور. وقد عبرت روح نوادي السينما المهرجان تاريخه وتم تشييد كل ما يتعلق بالتبادل والنقاش على أساس هذه الروح. يأتي كل مرة المخرجون إلى خريبكة ويعرضون أفلامهم. ماذا يضيف لهم المهرجان؟ يجب ألا نكتفي بالعبارة المطروقة: «نحن هنا لكي نلتقي ونتبادل». هل يصلح مهرجان السينما لعرض الأفلام فقط؟ هل يساعد في التقدم بالسينما بصفة عامة نحو تحكم أكبر في كل أقسامها وتخصصاتها قد يفضي يوماً ما إلى صناعة حقيقية؟ هذه أسئلة ضرورية وملحّة اليوم. o هناك همّ «قتل الأب» الذي يعود في أفلام عديدة شاهدناها، ما هي التيمات والتوجهات الجمالية التي طغت في نظرك على المسابقة الرسمية لهذه الدورة؟ n في نظري، من بين كلّ دورات المهرجان التي حضرتها، الدورة الحالية هي الأكثر غنى، ليس على مستوى المسابقة الرسمية بل على مستوى التوجه العام. لقد رأينا أفلام «جانر» تنهل من أبجديات الحركة والرعب وأفلاما أخرى تتبنى التوجه الأميركي من خلال قصص السطو والخطف. رأينا كذلك أفلاماً ترنو إلى الشاعرية في سردها. هناك أفلام أخرى بسيطة في سردها تحاول البناء انطلاقا من النموذج النوليوودي (المحرر: نوليوود تسمية تُطلق على النموذج النيجيري في صناعة الأفلام وتتميز بضعف الموازنة وسرعة التصوير والتوزيع مباشرة على أقراص الفيديو) استناداً الى نموذج من نوع المرأة في مواجهة نظرة المجتمع وتسلطه أو الشباب في علاقتهم مع كبار السن. هناك أيضاً علاقة الحب بين شابين تحت ضغط الفراق على يد العائلة أو المجتمع التي شغلت بال أكثر من مخرج والذاكرة التي تعود لتقض مضجع الحاضر، حيث شكّل التداخل بين الماضي والحاضر عصب رؤية أفلام عديدة أثناء هذه الدورة. سنقول إننا هذه السنة في خريبكة، سبرنا دروب أنواع متعددة: أفلام الحركة، الخيال والفانتازيا، الشاعرية في شقيها البلاستيكي والمتعلق بالسرد. أي أن وعاء الحساسيات الجمالية الإفريقية هو في طور التوسع اليوم ولم نعد نقتصر على الأفلام الاجتماعية ذات المحتوى التنديدي الملتزم كما كان الأمر سابقا. يُختزل نموذج نوليوود غالباً في شق الاستغلال رغم أن دروساً مهمة يمكن استخلاصها من الشق المتعلق بالانتاج نظراً لملاءمة خصائصها للبنية الاقتصادية السائدة في معظم الدول الافريقية... هذا يطرح علينا تساؤلاً مهماً: من أجل مَن ننجز الأفلام؟ نتفهم المخرجين حين يقولون إنهم يستمدون وحيهم من «الموجة الفرنسية الجديدة» أو يسعون لإنجاز أفلام مؤلف. هذا أعطى في بعض الأحيان نتائج مهمة، ولكن في أحيان أخرى أنتج سينما منغلقة لا يجد الجمهور نفسه فيها. ما حدث هو أن الجمهور كان متعوداً على نوع معيّن من السينما فجاء المخرجون الأفارقة وأرادوا أن يغيّروا هذه السينما بطريقة جذرية وفجائية، وهذا لم ينجح. كان ينبغي تبنّي التدرج في شيء كهذا. أنا متأكد أننا لو بدأنا بنموذج قريب شيئا ما من النموذج النوليوودي، لأخذت الأمور اتجاهاً أفضل ولربما ذهب جمهور أكثر بكثير إلى القاعات. الأفلام التي نهلت من «الموجة الجديدة» لم تكن تعرض أصلاً في القاعات بل كانت تعرض مباشرة في نوادي السينما أو قاعات الفن والتجريب، والجمهور لم يجد نفسه فيها. كانت هناك حرب غير معلنة بين سينما المؤلف والسينما الشعبية. هوليوود كانت نموذجاً يصب كليا في أفلام الترفيه، ومن المؤكد أنه كان ينبغي لنا أن نتجنب أيضاً الوقوع في هذا النوع من السينما، لأننا كنا ملزمين طرح تساؤلات حول قضايا مجتمعية ملحّة وأن نظهر للعالم أن ثمة ثقافة إفريقية في وسعها أن تنتج أفكارا تغذّي الثقافة الكونية. ما حدث اليوم هو أننا لم نعد نخف من تعبير «سينما شعبية»، لذا نرى أفلاماً تتوجه للجمهور العريض وتنال في الوقت نفسه إعجاب النقاد لأنها صيغت بإخراج جيد. «سينما شعبية» إذاً لا تعني سينما رديئة، و»سينما المؤلف» لا تنتج دائماً جودة عالية. o المثل الأبرز هنا هو فيلم محمد مفتكر «جوق العميين» (الجائزة الكبرى عثمان صمبين في خريبكة 2015) الذي نال إعجاب فئات عريضة من الجمهور وهو في الوقت نفسه فيلم عميق صيغ وفق سيناريو محبوك وإخراج متقن. هذه معادلة صعبة لكنها ليست مستحيلة. n فعلا! أتفق تماما مع طرحك. فيلم مفتكر يمكن أن يُعرض في المغرب أو السنغال أو زيمبابوي وسيجد الجمهور فيه نفسه نظراً لصدق تيمته وغنى سرده والطريقة التي صُوّر بها. لقد رأيت في هذا الفيلم وجوهاً جميلة جداً. من المؤكد أنه صُوّر بحبّ وحرص كبيرين. أعجبت كذلك بقدرة المخرج على التحكم في الإيقاع، فمكّنه ذلك من نزع فتيل التوتر في فترات معينة وهذا أساسي جداً من أجل إعطاء الفيلم إيقاعه المناسب، وخصوصا أنه ليس من السهل البتة أن تصوّر شخصيات كثيرة في فضاء ضيّق نسبياً كما في هذا الفيلم. o على الرغم من عراقة السينما السنغالية وريادتها خلال عقود للسينما الافريقية، إلا أنها تمر بأزمة هيكلية استعصى الخروج منها، علماً أن بعض بوادر الحلّ قد بدأت تظهر أخيراً مع تخصيص صندوق لدعم الأفلام وبعض الجهود لترميم القاعات وإعادة فتحها. هل يمكنك أن تضعنا في السيرورة التاريخية التي أدت إلى هذه الوضعية؟ n نحن اليوم في صدد إعادة النظر في سينمانا. أمزح أحيانا قائلاً إن السينما السنغالية هي سينما عقود (ضحك). مع بداية كل عقد ترى وجوهاً جديدة تطفو على السطح، وكلما مرت السنوات أخذت هذه الوجوه في الاختفاء شيئاً فشيئاً. وهكذا. عقد السبعينات، كان استثنائياً مع قمم، كعثمان صمبين وجبريل ديوب مامبيتي. أتت الرياح فعلاً بما تشتهيه السينما السنغالية آنذاك. فقد حالفنا الحظ بتولي بولين سومانو فييرا زمام «ليزاكتواليتي سنغاليز» التي كانت مكلفة تغطية الأسفار الرسمية وبروباغندا الدولة. وبما أنه كان مخرجاً، فقد حوّل مسار إنتاج الأخبار إلى مجال خلق حقيقي ومكّن أيضاً مخرجين لم يكونوا موظفين من المعدات، بينهم صمبين. فأضحت هذه نواة مدرسة حيث تناقش الأنواع السينمائية ويسلك كلّ مخرج واحداً من الاتجاهات السائدة آنذاك. كالواقعية الجديدة أو المدرسة السوفياتية وغيرها. انطلاقا من هذا، نشأت تساؤلات حول المقاربة السينمائية الخاصة التي ينبغي أن نبلورها، وأي الجماليات يجب أن نتبنى. كان الأمر يتعلق بنقاش غني وليس فقط بمعدات أو بنى تحتية، وكان المخرجون يومها يفكرون بعمق في السينما ودورها. في الموازاة، كان هناك شباب من مثل بين ديوغاي باي وسامبا فيليكس ندياي يشتغلون في المركز الثقافي الفرنسي، لكن مع هبوب رياح 1968، أخذوا بزمام النادي السينمائي الفرنسي واستحوذوا على «نادي الجاز» متبنين روح «الموجة الجديدة»، لكنهم لم يتوفروا على الخبرة اللازمة من أجل إنجاز الأفلام. وضع المركز الفرنسي تحت تصرفهم بعض المعدات فبدأوا بتصوير أفلامهم. كانت موجة السبعينات استثنائية حقاً! ما حدث في عقد الثمانينات هو أن الدولة لم تعد تضخ أموالا في الانتاج بعدما تم حلّ «الشركة الوطنية للسينما»، فهوينا إلى قعر الموجة. نشأ جيل جديد من ضمنه وليم مباي الذي انضم إلى مجموعة «العين الخضراء» التي كانت تضم أيضا فاديكا كرامو - لانسيني (مخرج من ساحل العاج يرأس اليوم مؤسسة السينما في بلاده) وإدريسا ودراوغو وغيرهم من المخرجين الافارقة الشباب الذين اجتمعوا بجانب مسبح فندق «ليزانديباندانس» في واغادوغو (دورة ال»فيسباكو» 1981) وأعلنوا بياناً يعكس رغبتهم في تبني جماليات جديدة تقطع مع أسلوب سينما جيل الرواد. كانت هذه محاولة رمزية مهمة لقتل الأب. أنشأوا أيضا تعاضدية من أجل تبادل الخبرات واقتسام الامكانات. فيلم المخرج كرامو – لانسيني، «دجيلي» (1981)، كان المعبّر المثالي عن روح هذه التجربة التي لم تعط النتائج المرجوة منها للأسف، لأن وسائل التواصل لم تكن متاحة كما اليوم، مما صعب مهمة الأعضاء. كما أن النقد كان قاسياً مع هؤلاء الشباب، فقد كتب نقاد: «من هؤلاء الشبان الذين يجرؤون على تحدي رموز السينما الافريقية!؟». مع بداية التسعينات، ظهر جيل جديد في مقدمه مخرجون كمنصور سورا واد، أخذوا اتجاهات وحساسيات جمالية جديدة حيث اعتمدوا على الحكايات الشعبية والأساطير وطرق السرد المنبثقة منها. موسى توري الذي جاء إلى الاخراج من الخبرة التقنية ينتمي أيضاً إلى هذا الجيل، الذي كان منتظراً منه أن يحمل المشعل من الرواد، لكنه سقط ضحية لفترة سياسات التقويم الهيكلي، حيث نهجت الدولة سياسة التقشف فتخلت عن قاعات السينما وتحولت جلّها إلى أروقة تجارية. o أو حتى كنائس (ضحك)... n نعم بعضها تحوّل فعلاً الى كنائس في ما بعد. يومها بدأنا نرى أن تمويل سينمانا يتحول شيئاً فشيئاً نحو الخارج. سواء شئنا أم أبينا، فمن يموّل يفتي أيضا توجهاته. هكذا نشأت السينما السطحية انطلاقاً من أفلام تتخذ من القرى والأرياف مسرحاً لها، وتنهج جماليات معينة لإرضاء الأهواء الغربية والأفريقية في الآن ذاته. لكن هذا لم ينجح لأن الصدق معطى أساسي في معادلة الإبداع. وهذا ما جعل سينمائيين واعدين يستسلمون ويتوقفون عن إنجاز أفلام لأنه لا يمكنهم أن يشتغلوا في وضعية كهذه. موهبة فذة كجبريل ديوب مامبيتي كان مجبراً على الصمت نحو عشر سنين. هذا يحز في القلب حقا! مامبيتي صاغ تجربة خلاقة جداً وفريدة من نوعها. تخيل أن النقاد انهالوا عليه بعد خروج «توكي بوكي» (1973)! بعضهم كان يصرخ «ما هذا؟ أنظروا لهذه اللقطة! أنت لا تعرف كيف تصوّر؟». وقد عانى كثيراً جراء هذا. في العودة إلى نهاية التسعينات، لم يستغل المخرجون الفرصة المتاحة آنذاك مع بزوغ العهد الرقمي ولم يستعدوا لها. عوض ذلك، احتقروا الشباب الخارج من رحمها ورفضوا أن يعتبروهم مخرجين. ما حدث اليوم أن الجميع انخرط في موجة السينما الرقمية. لكن، لو اغتنمنا الفرصة وأخذنا بزمام الكاميرا الرقمية مبكراً، واستثمرنا في التكوين الخاص بها، لكانت الأمور أفضل بكثير مما هي عليه الآن. مع بداية الألفية الجديدة، ورغم قلة الامكانات بفعل استمرار غياب التمويل، انخرط مخرجون شباب في تجربة انجاز أشرطة قصيرة وأفلام وثائقية. جيل جديد مختلف تماماً عن جيلنا. لكن من الضروري جداً أن ننخرط في هذه الموجة وأن نرافقها عن قرب، حتى نستطيع مواكبة الجماليات المنبثقة منها، وهذا ما أحاول فعله شخصياً. اليوم، نشهد عودة المجتمع المدني، حيث أخذ على عاتقه جل الانشغالات السياسية والاجتماعية والثقافية. لم يعد النموذج كما كان في السابق مقتصراً على المبدع وحيداً من جهة والدولة في الجهة المقابلة. للأسف لا نتوفر على مدارس تؤطر هذه الحركية.