1. في المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية الجديدة : لكل مرحلة تاريخية إفرازاتها السيوسياسية والإيديوثقافية بامتداداتها الاقتصادية والتنظيمية وغيرها، والتي لها تأثيراتها على القيم والمرجعيات سواء من حيث المشاركة أو التفكير (=التنظير). وهو ما يشكل امتدادا للمعارف والتشكيلات السياسية السابقة وما تعرضت له من تطورات بالرغم من النظر إليها كقطائع؛ لأنه في التغير الاجتماعي «دائما يولد الحاضر من رحم الماضي». ضمن هذا التصور العام، سنتناول مسألة بروز الحركات الاحتجاجية الجديدة في محاولة لتفسير الخصوصيات الملازمة لكل مجتمع ضمن السيرورة العامة. وقد اخترنا في هذا الصدد تناول المغرب كنموذج. -أ) الأصول الغربية للمجتمع المدني : إن فهم سياق بروز المجتمع المدني كفاعل أساسي في الحركات الاحتجاجية ومحرك، باعتباره قوة مجتمعية مستقلة عن باقي القوى التي استطاعت مأسسة نفسها (الدولة، الأحزاب السياسية، النقابات، القطاع الخاص، الخ.)، يتطلب منا استعراض - ولو بشكل سريع ومختزل - تطور مفهوم المجتمع المدني منذ سقراط ومرورا بهيجل ثم ماركس فأنطونيو غرامشي ... وذلك من خلال التمثلات الرئيسية التالية : * هناك أولا التمثل الأرسطوطاليسي والذي عالجه طوماس الإكويني وقام بتأويله؛ حيث أوضح أن المجتمع المدني مجموعة بشرية متكاملة لها كهدف تحقيق السعادة الدنيوية للبشر والتفاهم بين أفرادها. * هناك ثانيا تعريف هوبز والذي يرى فيه أن المجتمع المدني جاء نتيجة إرادة الأفراد وأن مأسسته تمت من أجل تحقيق المنفعة المشتركة من أجل السماح للأفراد والأسر بالخروج من حالة الطبيعة. * بعد ذلك نجد التعريف الهيجيلي والذي يرى أن المجتمع المدني مرحلة من الحياة الأخلاقية التي تقوم في العصر الحديث بين المجموعة الطبيعية المكونة من الأسرة والدولة. * أما مع ماركس فإن المجتمع المدني مجتمع غير سياسي تُبَنْيِنه وضعيات الاقتصاد ونظام الطبقات. * ومع غرامشي سَيُنْظَر إلى المجتمع المدني على أنه مجموع المؤسسات والمجموعات التي تدبّر الإيديولوجيا. * ثم، في الأخير، نجد التعريف النابع عن الانتقادات الموجّهة للكليانية (totalitarisme) على اعتباره مجتمعا شاملا بكل مكوناته من حيث أنها تتّبع غايات طبيعية فقط. ويمكن أن نضيف تمثلا آخر الذي يضع المجتمع المدني كسلطة ثالثة1 لها قدرة على تغيير وجه العولمة. فبعد هيمنة الدولة ثم السوق، يأتي الآن دور المجتمع المدني بما له من إمكانات مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وما توفره من بنيات لمجتمع المعلومة2 المدخل الأساسي لمجتمع المعرفة كمرتكز أساسي للسلطة (السلطة المعرفية) بعد أن سادت في المرحلتين تباعا السلطة المؤسسة على القوة ثم السلطة المؤسسة على الثروة. وتبقى السلطة المؤسسة على المعرفة أحسن سلطة لأنها نابعة من ثروة لا تنضب ألا وهي المعرفة، خاصة وأن هذه الأخيرة لا تتجدد إلا بالمشاركة والاشتراك3. وهو ما تعبر عنه كذلك التيارات الرافضة للعولمة ضمن المنتدى الاجتماعي العالمي «العالم الآخر الممكن». وحسب نيكانور بيرلاس Nicanor Perlas، فإن أهمية المجتمع المدني تكمن في المجال السوسيوثقافي والذي يغطي كل الجوانب : الروحي / العقدي منها، والبشري / الإنساني، والثقافي، والبيئي ... وإذا ما استطاعت هذه القوة بما لها من حمولة ثقافية أن تنظم نفسها وتنسق بين هذه الجوانب بما يجعلها حاملة لمشروع تنموي مستدام ومندمج، فإنها ستفرض على الدولة (السياسة) والسوق (الاقتصاد) أخذ مقترحاتها ومفاهيمها بعين الاعتبار. وهكذا سينتقل النظام الاجتماعي إلى تمفصل ثلاثي تكون فيه العولمة في خدمة الجميع. ب) الأصول العربية للمجتمع المدني وتمظهراته : اجتهد الباحثون العرب4 في محاولة التأصيل للمجتمع المدني. وهكذا نجد البعض مثل وجيه كوثراني الذي يرى أن المجتمع الأهلي (تنظيمات الصناع التقليديين، المجموعات العقائدية، مؤسسات الوقف، تنظيمات الأسواق والأحياء بالحواضر العربية، الخ.) والذي كان حاضرا بقوة في لحظات معينة من تاريخ المجتمعات العربية يشكل جذورا للمجتمع المدني من حيث استقلاليته عن سلطة الدولة آنذاك ومواقفه التي كانت تشكل قوة ضغط للتوازن الاجتماعي خاصة أمام الدولة «السلطانية» والتي كانت تقودها مجموعة أسرية أو عشيرة لا تؤمن بتداول السلطة والتي كما عبر ابن خلدون لا تنحل إلا بانحلال العصبية التي كانت وراء قيام الدولة. غير أن الفكر الإسلامي لم ينتج إلا نقاشا حول «طاعة الحاكم» و»الخلافة»، وهو ما همّش مفهوم الحرية. وهذا ما دفع برهان غليون أن يشير إلى غموض مفهوم المجتمع المدني في الفضاء العربي الإسلامي لأنه اعتبر من قبل العديد معارضا للإيديولوجيا الإسلامية على اعتبار أنه تحالف جديد بين النخب العصرية من أجل إعادة بناء إيديولوجيا التحديث في مواجهة الإسلام. وبما أن التمثل الغالب في البلدان العربية قائم على التوحيد فإن تسييس المجتمع المدني ظل مطروحا وذلك في سياق معارضة الحاكم و المستعمِر؛ إذ بعد الاستقلال وتحت ذريعة بناء الدولة وضع كل شيء تحت تصرّف المجموعة الحاكمة. وهو ما جعلنا نمر بوضعية توتر: الكل متمرد ضد الدولة، والدولة تبحث بكل الوسائل من أجل خنق الأصوات المعارضة. ويشير برهان إلى أن سبب هشاشة المجتمع المدني بالعالم العربي هو أن الطبقة الوسطى لم تستطع استغلال المجتمع المدني بل تحالفت مع الدولة. ويرى أن قوة المجتمع المدني ستتقوى مع الاشتغال القاعدي ضمن مشروع يفترض تغيير الدولة والمجتمع؛ حيث أن التخوف بالنسبة له ناتج عما يتعرض الديموقراطية من معوقات من أجل التجذر في المجتمع، وهو ما يطرح سياسة القوة والمقاربة السلمية التي تنهجها الدولة لحماية المجتمع من تَسَيُّس الأوساط الإسلامية. هذا الوضع يضع مؤسسات المجتمع المدني تحت رقابة الدولة. وفق هذا النماذج من التمثل، يبدو أن العالم العربي يشكو من أزمة ثقافية حيث المجتمع لم يستطع تجاوز مشاكله. وتتجلى هذه الأزمة في ثلاثة مظاهر : * الشرعية : حيث العالم العربي يقدم عموما نموذجين من الأنظمة المستبدة : الملكية والجمهورية. ولئن كانت الأولى بتعدد تجلياتها التاريخية حاملة للشرعية التاريخية، فإن الجمهورية ينظر إليها كنموذج مستورَد جاء في سياق الاستقلالات التي تلت الاستعمار. وبالرغم من أن هذه الأخيرة حاملة للشرعية الوطنية فإنها تشكو من أن تَشَكُّل الدول القطرية جاء كامتداد للكيان الترابي الذي نحته الاستعمار (اعتماد الحدود الاستعمارية)5. وقد عاش كلاهما تآكلا مهما في شرعيتهما. إذ بعد ظهور الدول القطرية، أسفرت سنوات ما بعد الاستقلال على استلاب ولامبالاة من طرف الأغلبية والتي أفرزت ظهور تيار ديمقراطي علماني معارض موازاة مع صعود الحركات الإسلامية الاحتجاجية. وفي هذا السياق برز نوعان من الصراع : الدولة المستبدة ضد المجتمع المدني، وضمن المجتمع المدني الديمقراطيون العلمانيون ضد الإسلامويين. * الهوية : وتتجلى أزمتها في التعارض حول تمثل المجتمع؛ إذ التمثل المهيمن سلطوي في مواجهة العالم اللبيرالي المتعدد بحواره وانتخاباته، الخ. وهذا يخلق وضعا هشّا للمجتمع المدني. ناهيك عن الإرث الاستعماري الذي لم يتم هضمه أو ظل في عدد من الحالات أحد مرجعيات المجتمع القُطْري (الوطني). * العقلانية الأدواتية : حيث المشاركة في اتخاذ القرارات ضرورية؛ إذ لا يمكن ترك كل شيء بين أيدي حفنة أو مجموعة صغيرة. ومع ذلك نلاحظ اليوم6، ميلاد أنشطة جديدة وأشكال جمعوية لا تبحث عن تقديم المساعدة والخدمات فقط بقدر ما تسعى إلى تعبئة «المواطنين العرب» حول قضايا تهمهم من قبيل : الرشوة، البيئة، التراث، الدفاع عن المستهلك، الخ. وهو ما يظهِر رغبة هذا النسيج الجمعوي على المساهمة في الشأن العام وإبراز مواقفه كمعني بالاختيارات التنموية سواء تعلق الأمر بحقوق الإنسان أو السيرورة الديموقراطية، البيئة أو الاستهلاك، الخ. ج. المجتمع المدني المغربي والتحول الديموقراطي : في المغرب - وبالنظر لما أثرناه أعلاه - يختلف الوضع نوعا ما عما عرفه العالم العربي عموما خاصة منذ المرحلة الاستعمارية. فقد عرف المغرب أولى أنوية جمعياته أيام الاستعمار من قبيل جمعية طلبة شمال إفريقيا إلى جانب ما يطلق عليه بالمجتمع الأهلي من حناطي (تنظيمات حرفية تقليدية) وزوايا (تنظيمات دينية) وغيرها. ويرى عدد من الباحثين أن هذه الأخيرة شكلت أنوية الاستقطاب السياسي ضد المستعمر7. وهو ما حدا بالباحث الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي إلى تشبيه العلاقات داخل المؤسسة الحزبية بفعل هذا الامتداد واستنساخ ممارسات الأسلاف بعلاقات الشيخ بالمريد8، واستمرار اعتماد هذا النمط من العلاقة كمرجعية في العلاقة مع الزعيم وبين الرئيس ومرؤوسيه. ولئن كانت هذه خطاطة بروز الجمعيات والأحزاب، فإنه بُعَيْد الاستقلال، سيشهد المغرب طفرة جمعوية كبيرة كانت أهم جمعيتها تلك المرتبطة بالحركة الوطنية وخاصة المعارضة التي انشقت عنها. وقد تأسست هذه الجمعيات في إطار الأوراش الكبرى التي فتحت بعد الاستقلال أو في إطار مأسسة الحركات المدنية من قبيل تأسيس اتحاد كتاب المغرب والاتحاد الوطني للطلبة المغاربة وبناة المغرب ... وقد تقوى دور هذه الجمعيات وتنوع مع مرحلة الاستثناء السياسي (1965 ? 1976) والذي حلّ الملك الحسن الثاني خلالها بموجب الدستور البرلمان وعطّل الحياة السياسية، وخاصة خلال مرحلة الاضطهاد التي تعرض لها اليسار المغربي. وقد أصبحت كل هذه المراحل تعرف بسنوات الرصاص9 وما عرفته من خنق لكل أشكال التأطير المجتمعي الذي تنظر إليه الدولة بعين مريبة. غير أن حيوية المجتمع أفرزت أشكال تنظيمية جمعوية حول قضايا مختلفة استطعت الوقوف أمام هذا التضييق واستغلال الهامش المسموح به. وقد غطت هذه الجمعيات مختلف القضايا (الطفولة، المرأة، الشباب، حقوق الإنسان، العمل التنموي، الرشوة، مراقبة الانتخابات، الهجرة، الخ.). كما اعتمدت أشكال عمل متنوعة (الترافع، تشكيل مجموعات الضغط، والتفاوض) وذلك عبر شراكات مع الحكومة أو مع المنظمات الدولية غير الحكومية ... على أن الجمعيات النسائية والحقوقية شكلت في السبعينيات رأس رمح المجتمع المدني في صراعها من أجل توسيع فضاءات التعبير والنهوض بأوضاع النساء وحقوق الإنسان. كما شكلت هذه الجمعيات ملاذا للمناضلين اليساريين الذين هجروا السياسة بفعل ضيق هامش الفعل ومجالا للحراك السياسي كلما اشتدت رقابة الدولة وظهر اختناق سياسي. وأخذ فضاء العمل الجمعوي شكل ساحة صراع بين مختلف الفرقاء السياسيين؛ حيث أنه ينذر وجود جمعية لا تدور في فلك قوة سياسية أو تكونت بفعل حاجة سياسية لهيئة ما. يضاف إلى هذا، وفي سياق محاولة تأطير جيل ما بعد الاستقلال والتضييق على دور أحزاب المعارضة اليسارية وبعدما فشلت الدولة في تفعيل دور الأحزاب الإدارية10، ستلجأ إلى تشجيع تكوين جمعيات جهوية من قبيل رباط الفتح (مدينة الرباط وضواحيها)، وأبي رقراق (سلا وضواحيها)، أنكَاد (منطقة المغرب الشرقي)، الأطلس (مراكش)، كريان سنطرال (الدارالبيضاء)، وغيرها ... إنها «جمعيات ولدت وفي فمها ملاعق من ذهب»؛ حيث أن الدولة ستضخ موارد مالية مهمة في حسابات هذه الجمعيات بل وستتنازل عن عدد من أدوارها الخدماتية لصالحها في إطار شراكات إرادوية، كما ستفرضها كشريك على عدد من المنظمات الدولية وخاصة وكالات الأممالمتحدة. وقد قام بتأسيس هذه الجمعيات التي أطلق عليها في القاموس السياسي المغربي»جمعيات الأعيان» أو «جمعيات الوديان والسهول» أعيان بتزكية وتأطير من وزارة الداخلية والقصر أحيانا. وفي هذا السياق ستتخذ الأحزاب اليسارية موقفا يمنع على مناضليها النشاط ضمن هذه الجمعيات بل وستقاطعها. ويمكن القول أن هذه السيرورة مرت بثلاثة مراحل، كما يلي: * الأولى، وتتمثل في ميلاد بعض المكونات (الأحزاب السياسية، المجموعات السوسيوثقافية والخيرية) والتي رأت النور تحت الاستعمار في إطار محاولة تصاعدية، بدأت بمطالب الإصلاح مرورا بالمعارضة فالمقاومة بشقيها السياسي والعسكري. * ثم الثانية والتي انطلقت مع استقلال المغرب (1956)، حث دخل المجتمع المدني معترك الصراع السياسي الذي تواجهت خلاله الحركة الوطنية عموما، وفيما بعد اليسار المغربي مع السلطة من خلال معارك مختلفة لعل أولاها هو الاقتراع حول دستور 1962 الذي دشّن ميلاد المعارضة وتيارات الرأي. وهكذا زاوج النظام بين محاولة الاستحواذ على خطاب المجتمع المدني عبر تدجينه أو خلق بدائل طيّعة. * غير أنه مع بروز العولمة وما رافقها من انهيار لجدار برلين ونشوء لنظام عالمي جديد، سيفضي إلى مرحلة ثالثة جديدة سيصبح فيها للمجتمع المدني صوت ودور وازِنَيْن في الحياة العامة. كما أن وظيفته ستصبح ممأسسة خاصة مع إطلاق أوراش مهيكلة لمشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي الذي وقع عليه إجماع بين أهم القوى المجتمعية بالمغرب قيادة وقاعدة (خاصة مع العهد الجديد)، وكذا مع بروز مفاهيم سياسية جديدة في الفضاء السياسي المغربي من قبيل : المفهوم الجديد للسلطة، سياسة القرب، السلوك المدني والمواطنة، المبادرة الوطنية للتنمية ... مع ما رافقها من مواثيق وطنية11 في مختلف المجالات (التربية والتكوين، إعداد التراب الوطني، البيئة، الخ.) والتي أقرت كلها على دور المجتمع المدني كدعامة وشريك لا محيد عنه. وفي هذا الصدد، شهد قانون الحريات العامة إصلاحا تمثل في عزل قانون الأحزاب عن القانون المؤسس للجمعيات. هذه بصورة مختصرة سيرورة نشوء المجتمع المدني وتشكل أدواره، وهي التي أهّلته للقيام بأدوار جديدة والتي سنتناول ضمنها على الخصوص الأشكال الاحتجاجية وأسباب ظهورها. 2. الأشكال الاحتجاجية : حيوية مجتمع مدني أم أزمة القوى السياسية من خلال ما سبق، يتبين لنا أن ما يتميز به المجتمع المدني المغربي عن باقي المجتمعات المدنية العربية الأخرى عموما هو تطوره من سياقه التقليدي إلى سياق عصري تحت وطأة الاستعمار أولا وفي مواجهته ومعارضة السلطة المركزية بعد الاستقلال ثانيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المغرب يكاد يكون البلد الوحيد المؤسس على شرعيتين لازالتا في تناقض وإن خفت حدته مع الدخول في مرحلة التناوب السياسي (1996)12 وما واكبها من انتقال إلى عهد جديد : شرعية تاريخية (الملكية برصيدها التاريخية والرسمي) وشرعية وطنية (الحركة الوطنية إلى جانب المقاومة بتاريخها النضالي ضد المستعمر ومن أجل عودة الملك بعد نفيه)13. كما أنه البلد العربي الوحيد الذي تم فيه الدفع بالقوة المجتمعية التي ناضلت من أجل الاستقلال إلى الركون إلى المعارضة رغما عنها بل وتعطيل مطالبها الإصلاحية والديموقراطية التي كانت بمثابة برنامج استثمار للاستقلال السياسي من أجل تحقيق مكتسبات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهو ما عبر عنه الملك الراحل محمد الخامس إبان عودته من منفاه وتكريسه كملك شرعي للبلاد بأنه قد «خرجنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». هذه الخصائص المميزة للصراع السياسي والمجتمعي بالمغرب والتي أطرت بشكل مباشر أو غير مباشر سيرورة بروز المجتمع المدني هي التي ستحكم بشكل أو بآخر حركية هذا النسيج الجمعوي وديناميته وأشكال تدخله. ولئن قدر عدد الجمعيات بالمغرب حوالي 40000 جمعية14، فإن الدراسة15 التي قامت بها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن خلال شهر يونيو 2010 أبانت على أن الرقم يتراوح بين 30000 و50000 بينما يظل عدد المنخرطين أو الناشطين بهذه الجمعيات يظل مجهولا ككل. وتنشط بعض هذه الجمعيات في برامج منظمات دولية أجنبية وأممية أو حتى في إطار برامج وطنية لعل أبرزها في الوقت الراهن برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. ومن المفيد الإشارة إلى أن هذه الجمعيات تتنوع بين ما هو وطني له فروع جهوية أو محلية بالإضافة إلى ما هو جهوي أو محلي فقط ... وقد تقوَّت فعالية هذه الجمعيات بدخولها في شبكات موضوعاتية أو ترابية أو حول برامج محدّدة مع تطور مفهوم وممارسات الشراكة. وقد استفاد المجتمع المدني المغربي من الدور الذي منح له في إطار الاتفاقيات الدولية وعلى الخصوص اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية من خلال الأرضية غير الحكومية الأورومتوسطية16. كما أن ما شهدته مرحلة التناوب من انحسار في الحقل السياسي سواء من خلال ضعف المشاركة السياسية أو بروز ظواهر مشينة في الحقل السياسي وتمس بأخلاقيات العمل السياسي (الرحل، استعمال التزكيات السياسية، انشقاقات الأحزاب، تشكيل أغلبيات هجينة، الخ.)، إلى جانب الغموض الإيديولوجي والتذبذب في المواقف السياسية للأحزاب ... كلها عوامل إلى جانب أخرى، من قبيل : هيمنة الأعيان على الحقل السياسي، صراع الأجيال وغياب الآليات الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية بل وحتى عدم احترام القانون المؤسس للأحزاب17 ... ساهمت في احتلال المجتمع المدني لواجهة الصراع وتبنيه لمبادرات من طبيعة سياسية؛ مما جعل عددا من الأحزاب تلقي باللائمة على المجتمع المدني ناعتتا إياه بمحاولة الاستحواذ على أدواره. وقد اتخذت أشكال الاحتجاج والمشاركة التي ابتكرتها جمعيات المجتمع المدني أساليب متنوعة، خاصة إذا علمنا أنها إما جمعيات تنتمي لشبكة دولية أو منخرطة في شبكات داخلية وطنية أو جهوية ... ويمكن استعراض هذه الأساليب حسب الأنماط التالية : أ) المساهمة في سيرورة اتخاذ القرار : ونميز في هذا الصدد بين أسلوبين من هذه المساهمة : 1/ ويتمثل من خلال ضغط مباشر للجمعيات بمفردها أو مدعومة بهيئات أخرى سياسية أو غيرها على الحكومة من أجل انتزاع مطلب ما. ونشير في هذا الصدد - على سبيل المثال لا الحصر - إلى المظاهرتين التي شهدتهما شوارع الرباطوالدارالبيضاء حول «مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية» والتي تميزت هذه الضغوط بين قوى مدنية مؤيدة (الديموقراطيون والعلمانيون واللبراليون) وأخرى معارضة (الإسلاميون والمحافظون). وهو ما تطلب تحكيما ملكيا تجلى في تشكيل «اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية»18؛ 2/ كما أن الأسلوب الثاني يتمثل في إقدام السلطات العمومية على تنظيم استشارات موسعة وممأسسة مع هيئات المجتمع المدني ومجموعات الضغط على اختلاف أنواعها. ونشير في هذا الصدد إلى الحوار الوطني لإعداد التراب كمثال، والذي تتوج بالميثاق الوطني لإعداد التراب. ?ب) مراقبة مدى احترام السلطات العمومية للقوانين : ونشير هنا إلى عمل هيئات المجتمع المدني في مراقبة الانتخابات ومدى نزاهتها ومصداقيتها وصحة النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع. وفي هذا الصدد وبالرغم من حداثة التجربة وفرادتها والتي انطلق منذ انتخابات 2002 إلا أنها لازالت محط انتقاد واختلاف في الرؤى سواء حول مأسسة المراقبة ومنحها صفة قانونية أو ربطها بآليات متابعة قانونية من جهة أو متى تبدأ هذه المراقبة؟ هل منذ انطلاق المسلسل الانتخابي بمختلف مراحله أم الاكتفاء فقط بمراقبة الاقتراع بمكاتب التصويت أم ...؟ غير أن هناك إجماع على التحسّن الملاحظ في أجواء الانتخابات والتراجع الكبير في الخروقات وأشكال التدليس التي كانت تلجأ إليها وزارة الداخلية لإفراز خريطة انتخابية تستجيب لرغبات الدولة دون اهتمام بآراء الناخبين؛ الأمر الذي جعل من المجتمع المدني مرجعا إلى جانب مراجع أخرى. وبالرغم من «الحياد السلبي» الذي تتخذه بعض السلطات المحلية فإن مراقبة المجتمع المدني لسيرورة الانتخابات وفرت أجواء مناسبة19. وهذه المراقبة تقوم بها الجمعيات إما ضمن مجموعات أو بمفردها من خلال العمل الموازي مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المكلف بمنح التزكيات للجمعيات الوطنية والدولية أو دون اللجوء إليه، وكذلك من خلال انتقاء مجال المراقبة وفق مقتضيات منهجية تختارها أو من خلال التركيز على مراقبة جانب من جوانب العملية الانتخابية (مكاتب التصويت، مالية الانتخابات، دوائر انتخابية مختارة الخ.). إلى جانب هذا النموذج، نجد عمل الرصد المندرج ضمن سياق دولي مثلما هو حال جمعية ترانسبرانسي المغرب20 ودورها في محاربة الرشوة الأمر الذي أدى بعد نضالات متعددة إلى إنشاء هيئة مستقلة لمحاربة الرشوة بالمغرب21. ويرأسها حاليا رئيس سابق لفرع ترانسبرانسي بالمغرب، كما أنها أصدرت تقريرها الأول سنة 2009. هناك كذلك فرع منظمة العفو الدولية22 بالمغرب بالإضافة إلى فرع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان23 واللذين لعبا دورا كبيرا إلى جانب الجمعيات الحقوقية المغربية في إشاعة وتكريس حقوق الإنسان بمختلف أجيالها. وقد خاضت هذه الجمعيات بدعم من مختلف مكونات المجتمع المدني أشكال احتجاج وترافع وتفاوض مختلفة حتى الاعتراف بمطالبها وبها ثم اتخاذها شريكا مثلما هو عليه الأمر خصوصا بالنسبة للمنظمتين المذكورتين. ج) ابتداع منهجيات وفتح ملفات أو أوراش : نجد في هذا الصدد عمل جمعيات اشتغلت على شكل جمعيات مطلبية من قبيل منتدى الحقيقة والإنصاف والذي كونه مجموعة من معتقلي سنوات الرصاص من اليسار على الخصوص والتحقت بها مجموعات أخرى من الضحايا. وقام هذا المنتدى بتبني ملف ضحايا الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها الدولة؛ حيث طالب باعتراف الدولة بأخطائها والكشف عنها ومعاقبة مرتكبيها وتعويض الضحايا وجبر الأضرار المترتبة عن كل هذا. وهو ما مهد لتكوين هيئة الإنصاف والمصالحة24 المشار إليها أعلاه والتي ترأسها المرحوم إدريس بنزكري أحد معتقلي اليسار ومن قياديي منظمة «إلى الأمام» الماركسية اللينينية. كما نذكر كذلك مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل25 والذي يهتم بعلاقات المغرب مع محيطه الجيواستراتيجي. وهو مركز تأسس في إطار تدعيم ورش الانتقال السياسي الذي لا يعاني فقط من ضعف الحركية الداخلية للمغرب ولكن كذلك من هشاشة علاقته بمحيطه الجيواستراتيجي؛ حيث أنه يحاول إعمال وتطويع العدالة الانتقالية في معالجة الدين الاستعماري الفرنسي والإسباني والملفات المرتبطة به سواء مع بلدان الجوار أو غيرها بالإضافة إلى انه يهدف إلى تطوير الخبرة في هذا المجال. وقد أسفرت أنشطة المركز على التقدم في عدد من الملفات المغربية الإسبانية من قبيل : الكشف عن حقيقة دور المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ? 1939) سواء من حيث إشراكهم أو صون ذاكرتهم كضحايا أو جبر الأضرار التي تعرضوا لها، وحرب الغازات السامة التي استعملها الجيش الإسباني ضد عبد الكريم الخطابي إبان ثورة الريف ... كما أنه يستعد بفتح ملف الاستعمار الفرنسي في إطار الذكرى المئوية لإعلان الحماية الفرنسية بالمغرب والتي تحولت إلى استعمار مباشر وما نتج عنها من انتهاكات جسيمة مست التراب الوطني وكل مكونات المجتمع المغربي والتي لازالت تبعاتها تلقي بثقلها على الواقع المغربي. ولابد أن نذكر كذلك جمعية بدائل وهي نموذج للجمعيات التي اشتغلت بمثابة مجموعة خبرة وتفكير استراتيجي، حاولت أن تفتح ملفات وأوراش للدفع بالعمل السياسي ... فهذه النماذج من الجمعيات إلى جانب أخرى - كل حسب إمكانياتها وتوجهاتها واهتماماتها - أخذت زمام المبادرة أمام تخلف وتقاعس القوى الموكول إليها هذا الدور. ?د) الاحتجاج ضد السياسات الحكومية : وإلى جانب هذه الأساليب الهادئة، نجد أن الاحتجاجات بدأت تتعاظم منذ الدخول في مرحلة التناوب السياسي والتي فتحت آمالا واسعة أمام انتظارات المواطنين ومختلف القوى الاجتماعية. وحسب التقرير السنوي للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان حول «التجمعات الاحتجاجية في علاقتها بالحريات العامة»26؛ حيث تزايدت هذه الاحتجاجات في شكل مجموعات كبيرة أو صغيرة احتلت الفضاء العام سواء أمام المؤسسات العمومية أو حتى الخاصة. وقد بلغ عددها ما بين فاتح يناير و31 أكتوبر 2008 ما مجموعه 5508 تجمعا كان أهمها بالمدن الكبرى خاصة الدارالبيضاء . وقد انتهت بعضها إلى أحداث عنف تدخلت فيها قوات الأمن العمومي من قبيل أحداث صفرو (قرب مدينة فاس) خلال شهر شتنبر (أيلول) 2007 وأحداث سيدي إفني (بالجنوب المغربي) خلال شهر يونيو 2008 ولئن كانت هذه الاحتجاجات فرصة للتعبير عن السخط من السياسات الحكومية المتبعة، فإن بعضها شكّل خطرا على ممارسة الحقوق والحريات بل وكانت فرصة لمطالب لم تكن مبرمجة أصلا عند انطلاقها أو اتخذت مطية «لارتكاب جرائم سيما العنف والنهب والتخريب والعصيان ... (انظر التقرير المذكور). وأوضح التقرير المذكور أن الجهات المنظمة أبانت على كفاءة وابتكار على مستوى التنظيم وأساليب الاحتجاج واستقطاب المساندة. وهو ما فتح الباب للحوار حول الحكامة الأمنية بغية ضمان حقوق المحتجين في ممارسة حقهم مع احترام للقوانين من طرف المسؤولين الموكول إليهم تأمين ممارسة الحقوق والقيام بالواجبات. على أن ما أهم ما سجله التقرير حول هذه الحركات الاحتجاجية هو قطيعتها مع الاحتجاج المسلح، وهذا لا ينفي ما أشرنا إليه من انفلات أمني لأسباب مختلفة. وغالبية الاحتجاجات يدور موضوعها حول : الشغل (حالة جمعيات المعطَّلين من الطلبة)، غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار (تنسيقيات الغلاء)، مطالب اجتماعية (جمعيات ذوي الحاجيات الخاصة، الجمعيات النسائية)، الحقوق (جمعيات حقوقية أو حركات خاصة من قبيل مجموعات النساء السلاليات التي طالبت بحقها في الإرث ضمن أراضي السلالات)، السكن والبنيات التحتية (جمعيات الأحياء والفيدراليات المنظمة لها)، أو سوسيوثقافية (الحركات الأمازيغية والإسلامية)، الخ. 3. بين تكامل الأدوار والمشروع المجتمعي المنظور من خلال الحالات والأمثلة التي استعرضناها، ما الذي يمكن قوله عن هذه الحركات الاحتجاجية؟ إن التوسيع الذي شهده هامش المشاركة والصعود اللافت للمعارضات على اختلاف مشاربها وتكريس حرية الرأي والتعبير وضمانهما، جعل دور المجتمع المدني يتقوى خاصة أمام تردي المردودية السياسية للأحزاب والتي وإن أصبحت تعاني من كثير من الظواهر السلبية (تعدد حزبي أمام تزايد غموض التعدد السياسي، الترحال السياسي، غموض المرجعيات الإيديولوجية، الانشقاقات الحزبية غير المبررة، التحالفات الهجينة وغير المنطقية ...)، فإنه لا بد من التنبيه إلى ما تعرض له الحقل السياسي من بلقنة وتفريخ لأحزاب شكلية وتكريس لدور الأعيان، والتفاف على المنهجية الديمقراطية، وتهريب للمسؤوليات السياسية التي على الحكومة توليها إلى مؤسسات وهيئات لا وصيات للحكومة عليها مما يخلق ارتباكا في تحمل المسؤوليات وفي الاحتجاج ضد الذين أخلّوا في القيام بها. على هذه الخلفية جاء صعود نجم فعاليات المجتمع المدني. ويعتبر البعض أن هذا الوضع الجديد الذي يحتله المجتمع المدني نابع من التعارض الذي أصبح قائما بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني بفعل الضعف الذي تعيشه الأحزاب وعدم القدرة على اتخاذ زمام المبادرة السياسية. كما أن مطالب المجتمع المدني وإن كانت معقولة، فإن أصحابها لا يأخذون سيرورة تدبيرها وإنجازها في الحسبان ويستعجلون استصدار القرارات بعيدا عن كل وتيرة إدارية أو سياسية بل ويلتفون حول نتائج نضالاتهم في محاولة استفادة خاصة (حالة بعض فئات من الطلبة المعطّلين الذين رفضوا اجتياز اختبارات للحصول على مناصب إدارية أو حتى اجتياز تداريب مهنية أو برامج إعادة التكوين بل منها من ذهبت إلى حد تمتعها بمفردها بالمقترحات المتوصَّل إليها). وبالرغم من أن الاحتجاجات تملأ دورا مهما، فإن الحديث عن المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي يدفعنا بحسب تحليل آلان تورين27 إلى القول بأن انهيار التقليد الثوري الذي دشَّنته كل من الثورات الأمريكية والفرنسية ثم السوفياتية فيما بعد؛ أدى إلى انتصار النموذج السياسي الديمقراطي مع تفاوت في المصائر وتمايز في إعمالها. غير أن الملاحظة الأساسية تتمثل في أن بروز هذا النموذج المجتمعي الجديد حيث الحركات الاجتماعية مستقلة بالنسبة لتعبيراتها السياسية. وهذا ما يفسر أن انهيار النموذج الثوري التقليدي سيعطي دورا أكثر مركزية للحركات المجتمعية منه للأنساق المؤسسية. 4. خلاصات عامة إن ظهور الحركات الاحتجاجية الجديدة أتى في سياق التحولات التي شهدتها المجتمعات في خضم العولمة والنظام الدولي الجديد والذي برزت في سياقه أطروحات من قبيل :نهاية التاريخ، ونهاية السياسة28 وما بعد الديموقراطية29 مع ما واكبهما من حوار حول دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الدولية في حصر سلطة الدول الجنوبية في مجال «ما دون الوطني» subnationalمع احتكار القوى العظمى تدبير «ما فوق الوطني» supranational . وهو ما جعل الاحتراز من مكونات المجتمع المدني وتأليب الرأي العام حولها من خلال اتهام بعض مكوناتها بالتبعية لقوى أجنبية وتخوينها. كما أن محاولة تفريخ قوى ذيلية داخل المجتمع المدني أو استقطاب قوى أخرى ظل هاجس السلطة للتحكم في المجتمع المدني وربطه بالاختيارات الرسمية30. غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن المجتمع المدني ساهم بشكل كبير في تجديد النخب وأشكال العمل من جهة كما ساهم في خلق حراك سياسي مكن على الأقل من التخفيف من حدّة الاختناق السياسي عبر الدفع ببعض القضايا التي لم تستطع الأحزاب لسبب ذاتي أو موضوعي أخذ مبادرات فيها أو خلق إجماع حولها أو تشكيل لوبيات سياسية تحت ذريعة التوازن السياسي من جهة أخرى. كما أن سيادة العمل السياسوي الفج حفاظا على مكاسب ممتهني السياسة ونخبها، وأمام سخط الرأي العام، كان من الضروري أن يقود المجتمع المدني بالرغم من طبيعته اللاسياسية معالجة قضايا ذات طبيعة سياسية من منظور مطلبي أو حقوقي. وهذا ما دفع كذلك إلى بروز الجيل الجديد من الحقوق (خاصة الحقوق الثقافية والحق في التنمية). أما بالمغرب، فإن الحركات الاحتجاجية الجديدة تقودها قوى غالبا ديمقراطية، ترى أنه من المطلوب من الأحزاب اليسارية بلورة استراتيجية على شاكلة الحركة الإسلامية من خلال جعل أطرها متمرسة بالعمل مع المواطنين وفق مقاربة القرب في إطار جمعيات الأحياء31. ولهذا فالمجتمع المدني وأمام تراجع دور الأحزاب الديمقراطية والاهتمام بالسياسة فهو مطالب كذلك بالتغطية على أزمة الجامعة من حيث مواكبتها كفضاء للحوار والتكوين والتأطير والإعداد والتأهيل لمستجدات الحياة المجتمعية بمختلف تمظهراتها، وكذا المساهمة في بروز زعامات ديمقراطية بديلة قادرة على القيادة وتدبير السياسة بمنظور جديد ناهيك عن تعثر تعاقب الأجيال وتجدد النخب. كما أن الاحتجاج بالمغرب كممارسة مدنية مكّن من المساعدة في تحريك الوضع ورفد العمل السياسي بقوة مجتمعية. غير أن بعض الدراسات32 أشارت إلى الجانب القبلي والانقسامي الذي يخترق هذه الحركات الاحتجاجية ولنا في الحركات الأصولية على اختلاف تلاوينها العقدي أو الترابي أو العرقي أو الثقافي نماذج من الأساليب غير الديمقراطية. ويظهر أن المجتمع المدني بحركاته الاحتجاجية الجديدة مدعو إلى بلورة أشكال قادرة على إبراز هويته غير السياسية. كما يبدو أن التحولات المجتمعية سواء بالمغرب أو ما تشهده معظم الدول العربية وباقي الدول عموما أن التحول اللولبي للعالم33 سيستمر كلما انتهت بداهة الفكرة التي تقوم عليها حضارة ما. هكذا تأخذ مجموعة أخرى في النشوء محاولة إدماج بعض العناصر الموجودة وإحياء - ربما - عناصر ظلت مهمشة أو متجاهلة. إن ما قام به ميشيل فوكو تجاه الحداثة نحن مطالبون للقيام بنفس الشيء تجاه ما نعيشه اليوم. إنه رهان كما عبر عنه فيكتور هيجو بالنسبة لما عاشه : «لا شيء يوقف فكرة جاء أوانها». إنه زمن المجتمع المدني والأشكال الجديدة للاحتجاج أمام هيمنة العمل السياسوي. إنها نهاية «السياسي»34 الذي يعتبر السياسة دهاء وسمسرة وتنميق الخطب والخضوع لشكليات «اللعبة السياسية» (كذا!) إلا أنها ليست نهاية السياسة قطعا. لأن نظرية نهاية السياسة هي إيديولوجيا، وإذا كنا لا نستطيع الطعن في التقدم التكنولوجي أو في تطور التجارة فإنه من الأكيد أنه يمكننا دائما الطعن في الإيديولوجيا : أية إيديولوجيا. لهذا ليس أمام الأحزاب السياسية إلا ضبط هويتها وتحيين خطابها وتجديد جلدها بما يضمن تعاقب الأجيال وتمثيلية القواعد وتحديث أساليب اشتغالها والإنصات إلى نبض المجتمع في تعايش مع المجتمع المدني. إنهما رِجْلا المجتمع الجديد، إذا ما أصاب العطب إحداهما اعتمد الباقية. لكن لا مجتمع دون سياسة ولا سياسة دون أحزاب، وقد تقتل السياسوية35 في غياب مجتمع مدني حقيقي يَقِظ السياسة. 1Nicanor Perlas .- La société civile : le 3e pouvoir Changer la face de la mondialisation. Editions Yves Michel, Coll. Société, 2003. 2 نميز هنا بين مجتمع المعلومة كتجهيزات وبنيات ومجتمع المعرفة كمضمون وهو تمييز يأتي في علاقة عضوية مع تمييز آخر يحيل على الفرق بين التحديث الذي يقوم على مجتمع المعلومة والحداثة التي هي عين مجتمع المعرفة. 3 ألفن توفلر .- تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة. تعريب ومراجعة / د. فتحي حمد بن شتوان ونبيل عثمان. الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1992. 4 أشغال مناظرة المجتمع المدني في البلدان العربية. نشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 20-23 يناير 1992. 5 إن الإرث الاستعماري المرتبط بحدود الدول العربية وبتشكل الدول القطرية يعتبر مصدرا لمختلف التوترات الداخلية منها والخارجية لأسباب متعددة ليس هنا مجال لمعالجة وإن وجبت الإشارة إليها. 6 Sarah Ben Néfissa .- ONG arabes: pas encore globales! Le Courrier de la planète, 12/2005. 7 Robert Rézette .- Les Partis politiques marocains. Préface de Maurice Duverger. Armand Colin, Paris, 1955. 8 عبد الله حمودي .- الشيخ والمريد، ترجمة: عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، ط.2/ 2000. 9 راجع موقع هيئة الإنصاف والمصالحة http://www.ier.ma ، وهي هيئة مستقلة تأسس للنظر في الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها المغاربة من طرف الدولة والبحث في تعويض الضحايا وجبر الأضرار التي لحقتهم أو لحقت أهاليهم أو بلداتهم. وقد تولى رئاسة هذه المؤسسة مناضلون حقوقيون من قدماء معتقلي الرأي. وهي تجربة فريدة في عالمنا العربي والعالم عموما وتشكل أحد المعالم الديموقراطية البارزة للعهد الجديد. 10 لقد دشنت الدولة الدخول في مرحلة المسلسل الديمقراطي (1976) بتشكيل الحزب الوطني للأحرار الذي تشكل كقوة سياسية حازت على الأغلبية. وقد ترأسه أحمد عصمان صهر الحسن الثاني. وفي الانتخابات التشريعية الموالية تشكل حزب آخر من عدم عشية الانتخابات ليحوز الأغلبية ويحكم لمدة ولاية تشريعية، وهو الاتحاد الدستوري برئاسة المعطي بوعبيد ... وهي أحزاب كانت تؤسس برعاية من وزارة الداخلية وتزور لصالحها الانتخابات. 11 لا يجب الخلط هنا بين الأهمية السياسية والمرجعية الدستورية والقانونية لهذه المواثيق و»التقرير الخمسيني حول التنمية بالمغرب» (انظرhttp://www.rdh50.ma) بالرغم من قيمته العلمية والذي أعده خبراء مغاربة وفق معايير أكاديمية. 12 يقصد بمرحلة التناوب، المرحلة التي انطلقت مع «تصويت الثقة» على دستور 1996 من طرف أحزاب المعارضة، والتي أفضت إلى انتخابات تشريعية ترأس على إثرها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحكومة التي دشَّنت التناوب السياسي. كما يطلق عليها كذلك مرحل التوافق السياسي لما عرفه التصويت على الدستور من توافق بين الأحزاب المعارضة والملك الراحل الحسن الثاني، كما تنعت المرحلة بالتناوب الديموقراطي لما شهدته أيضا من دمقرطة للحياة السياسية وأوراش مهيكلة على مختلف الأصعدة. ويرى فيها عدد من المحللين السياسيين مرحلة إعداد للانتقال من عهد إلى عهد جديد مما جنب المغرب «سكتة قلبية» كما عبر عن ذلك المرحوم العاهل الحسن الثاني في إحدى خطبه الأخيرة ويسر انتقالا سلسا من عهد إلى آخر بعد الوفاة «المفاجئة للملك». وقد استمر العاهل المغربي محمد السادس في إنجاز أوراش التناوب لم يخلو عندها الأمر من انحراف عن المنهجية الديمقراطية التي اعتمدت كعُرْف في التدبير السياسي (موقف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، غير أن مفكرا مثل عبد الله العروي تحدث عن المرحلة كاختيار إرادوي للملك الراحل كان الهدف منه «توسيع هامش المشاركة» ليس إلا. 13 راجع في هذا الصدد على سبيل المثال لا الخصر كتابات المرحوم المفكر عابد الجابري على موقعه الرسمي http://www.aljabriabed.net/MAROC1.HTM 14 Rachid ELhoudaigui .- La société civile au Maroc. In Séminaire Conjoint CAFRAD/OFPA sur la Clarification des Missions de l?Etat, de la Société Civile et du Secteur Privé dans la Gouvernance Economique et la lutte contre la Pauvreté en Afrique. Tanger, Maroc, 24-27 Mai 2004 (http://unpan1.un.org/intradoc/groups/public/documents/CAFRAD/UNPAN016617.pdf). 15 L?étude est intitulée »L›engagement bénévole et volontaire des jeunes et l›action associative au Maroc«. Voir Le Matin (journal quotidien marocain) du 31/12/2010. 16 انظر الموقع التالي : http://www.euromedplatform.org . ومن المفيد الإشارة إلى أن المغرب يترأس الأرضية غير الحكومية الأورومتوسطية. 17 انظر : ظهير شريف رقم 18-06-1 الصادر في 15 محرم 1427(14 فبراير 2006) بتنفيذ القانون رقم 36-04 المتعلق بالأحزاب السياسية المغربية أو النسخة التي صادق عليها البرلمان http://www.pogar.org/publications/other/laws/ppl-laws/mppl-mrc-05-a.pdf 18 أنشأت هذه اللجنة في 27 أبريل 2001 بأمر ملكي بصفته صادرا عن أمير المؤمنين، وتكونت من 15 شخصية بينهم ثلاث نساء ينتمين إلى أحزاب يسارية، وعهد إليها بمراجعة المدونة وإعمال الاجتهاد في نصوصها بما يماشي العصر دون إخلال بتوابث الدين. في البداية منحت اللجنة مهلة سنة واحدة لإكمال مهمتها ووضع مشروعها الأخير، لكنها تأخرت في إنهاء أشغالها بسبب الخلافات الداخلية التي لم يعرف منها كبير شيء نظرا للسرية التي ضربت على لقاءاتها ومنع أعضائها من الإدلاء بأي تصريحات للصحافة. وبعد عامين من العمل المتواصل واللقاءات مع التنظيمات النسائية والأحزاب والاستماع إلى اقتراحات ومطالب مختلف الأطراف التي بلغ عددها العشرين، انتهت إلى وضع تقريرين مختلفين بحسب الخلافات التي تسود داخلها، وقدم رئيسها إدريس الضحاك التقريرين للملك في يناير 2003، وبشكل مفاجئ أقال الملك رئيسها وعين مكانه محمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك يوم 22 من نفس الشهر، وقيل إن السبب وراء ذلك كان هو عدم قدرة رئيسها الأول على توحيد أعضائها حول مشروع واحد، بحيث يبدو المشروع وكأنه وليد إجماع أو شبهه، لا أن يكرس الانقسام الذي قد يكون مبررا للرافضين له وتزكية لتشكيكهم في اللجنة. ولم تسلم بعد تعيين رئيس جديد لها من الانتقادات والتشويش على أعمالها، فخلفية بوستة السياسية وتلمذته على العلامة الراحل علال الفاسي مؤسس حزب الإستقلال في الأربعينيات من القرن الماضي جعلته موضع انتقاد شديد. في نهاية شهر سبتمبر 2003 أنهت اللجنة أعمالها وقدمت مشروعها إلى الملك لتنتهي بذلك مهمتها. وفي خطاب الملك أمام البرلمان في 10 أكتوبر تطرق العاهل المغربي إلى أهم بنود قانون الأسرة الجديد والذي اعتبر ثورة إصلاحية. 19 «أشغال حلقة المواطنة» تحت إشراف عبد الفتاح الزين (المسؤول عن حلقة المواطنة). نشر المعهد الجامعي للبحث العلمي بتعاون مع المؤسسة الألمانية فريدريش إيبرت، 2007. 20 www.transparencymaroc.ma 21 وهي «الهيئة المركز للوقاية من الرشوة». التي أحدثت في إطار تطبيق مقتضيات هذه المادة تم بمقتضى المرسوم رقم 1228-05-2 بتاريخ 13 مارس 2007. انظر موقعها على الإنترنيت عبر الرابط التالي : http://www.icpc.ma/articles%20depresse%20ar.html 22 www.amnestymaroc.org 23 http://www.fidh.org/-Maroc- 24 http://www.ier.ma/article.php3?id_article=270 25 تأسس المركز بفعل مجهود فعاليات أكاديمية وحقوقية وسياسية. واتخذ مبادرات مهمة بالرغم من حداثة إنشائه. للمزيد من المعلومات، راجع موقعه الإلكتروني بالعربية والفرنسة والإسبانية http://www.memoirecommune.org . 26 http://www.ccdh.org.ma 27 Alain Touraine .- Le retour de l?acteur Essai sociologique. Fayard, Paris, 1993. 28 Michel Maffesoli .- Le Temps des tribus, le déclin de l?individualisme dans les sociétés de masse. La Table Ronde, Paris 2000. 29 انظر عددا من الكتابات، وعلى سبيل المثال : - Robert Charvin .- Vers la post-démocratie ? notre présent et notre avenir. Préface Jacques Michel .Temps des cerises, Pantin (Seine-Saint-Denis), 2006. - Emmanuel Todd .- Après la démocratie. Editions Gallimard, Paris, 2008. 30 Ali Benhaddou .- Les élites du royaume, Enquête sur l?organisation du pouvoir au Maroc. Editions L?Harmattan, Paris, 1997. 31 Développement démocratique et action associative au Maroc Eléments d›analyse et axes d?intervention. Sous la direction de Droits et Démocratie et Espace Associatif ? Mohamed Sghir Janjar, Rabia Naciri et Mohamed Mouaquit, Rabat, 2004. 32 Mokhtar Mohatar Marzok .- La contestation au Maroc à l?épreuve du politique : Le cas du Rif, 1980-2008, Paris, Editions Bouchene (Coll. » Intérieur du Maghreb «), 2010. 33 Michel mafessoli .- De la ?Postmédiévalité? à la Postmodernité. In http://www.michelmaffesoli.org 34 لا نقصد هنا السياسي كموضوع ولكن السياسي كممارسة أي «رجل السياسة». 35 لا نعني بالسياسوية politisme فقط الممارسة الشكلية للعبة السياسية ولكن أيضا إعطاء القوة المطلقة للفاعل السياسي على الواقع، وهو ما يجعلنا نُأوِّل الواقع كنتيجة لإرادتهم. بينما نقيض السياسوية يفرض علينا البقاء منتبهين إلى كيف تتمفصل الظواهر السياسية مع الوقائع الاقتصادية. --------------- ------------------------------------------------------------ --------------- ------------------------------------------------------------ 1