منذ أن تحرقنا بربطة القراءة والكتابة، ومنذ أن ورطنا الزمن الجميل على إعادة إيقاع نشيد الاحتجاج بالأسئلة الحارقة. كان أحمد المديني من كتابي المفضلين متابعته، ليس لهوس تجريبي في الكتابة، بل لنصوصه القصصية والروائية المخلخلة لنظام الكتابة في هذا الذي نسميه زمنا جميلا. إن كتاباته تنزع دوما نحو التجديد بخليط كيميائي معجون بالعجيب و الغريب، وهو لذلك يبني نصوصه برؤية جمالية فارقة، وحيث تكون مؤانسة كتاباته مسيرا لإمتاع باذخ. فبين المؤانسة و الإمتاع تجربة طويلة من التوتر والتوجس والرهان على المختلف في الكتابة. صحيح أن المغاربة جحدون. إلا أن هذا الجحود الذي يظهر ويختفي في الساحة المغربية يطرح سؤالا عميقا، وهو لماذا لا نحتفي بكتابنا الكبار؟ سؤال حاد يصعب الإجابة عليه، ولأنه كذلك لنتركه إلى القادم من الأيام. ونحن نقرأ المجموعة القصصية الأخيرة لأحمد المديني الموسومة ب « طعم الكرز»، وهي مجموعة تمنح لقارئها النضج الفائق في كتابتها، ذلك أنها لا تسير وفق تجريبية فجة، و لا اللهاث خلف نصوص غربية أو عربية، ولا هو مسكون بتمرينات لغوية وكتابية جديدة، وإنما تضعنا هذه المجموعة أمام ذات الكاتب التي يسرد على قرائه عوالم تخييلية مختلفة، ذلك أنه موهوس بالمختلف. هذا المختلف الذي يعيشه بأناقة يستشكله في الحكاية، و يعجنه بالغرابة ليقدمه لنا مختلفا، كما لو كان يسقي حكاياه بمرق كفكاوي بديع. فقارؤه يتغير مذاق تلقيه بين نص وآخر . إن لم نقل داخل النص الواحد، حتى يخال له أنه أمام كاتب متعدد، أو بالأحرى أمام كاتب مفرد بصيغة الجمع. إن متابعتنا لقصص أحمد المديني تروم التعدد و الاختلاف، ولا تنزع نحو الوحدة و التطابق، الشيء الذي تكون فيه هذه النصوص خصبة تلزم أكثر من مقاربة لإعادة فلاحتها.» طعم الكرز» هو عنوان القصة الأخيرة في المجموعة التي تحمل الاسم نفسه. بين هذه القصة و عنوان المجموعة قصص أخرى تحتفي بالذات المنفتحة على العوالم الأخرى. هذا الانفتاح الذي يكون إلا في السفر و الترحال. ذلك السفر الذي يعطي للكينونة حضورها البريق في العالم. و هذا لا يتحصل إلا بلقاء الآخر. لا يفيد الترحال في الأمكنة البعيدة و القريبة تزجية الوقت. وإنما تعرية الذات قبالة آخرها. هذه الثنائية يشتغل بها الكاتب بطرائف مختلفة. بين الذات والأمكنة الأخرى، بين الذات والمرأة، بين الذات والخارج ( العموم)، بين الذات وآخره كما تقدمه المرأة، بين الذات وتحوله إلى جشع و بين-بين يطل علينا الكاتب/ السارد من شرفة شقته، ليقدم لنا رؤيته إلى العالم... لكن كيف نستطيع تفكيك هذه الثنائية في حيوات متعددة. لنتفحص الأمر انطلاقا من مكر الكاتب، ولننظر إلى الجملة الأخيرة في القصة الأولى « سطيحة راشيل، و أح...»، وهي:» « هل أنت راشيل ....؟ و هل أنت أح...» ص 6. فالسؤال يحيل على صدفة اللقاء، والمستفز في هذا النص هو عدم اكتمال الاسم الثاني. هل تركه السارد عنوة لتلبية فضول القارىء. أم أن السارد يرمي إلى عدم افتضاح الكاتب؟ كيفما تكون الإجابة سيان. إلا أن المهم في نظرنا هو ربط اللقاء بلعبه الغميضة على سطيحة بين الطفل أح..مع راشيل. حيث تكون الغميضة لعبة القبل البريئة أحيانا، والمحمولة على لا شعور السارد. في هذه القصة تحضن الطبيعة ثنائية الذات ( الطفل) والآخر ( الطفلة)، في شكل قط و قطة. بينما يحجب الرمز الثقافي القبلة بالممنوعات التي يسورها الأب الإسكافي، الأم الخياطة، الباب النصف المفتوح. السبت المقدس، الأب القاضي، والأم، وأشياء أخرى.إنها الفرامل التي تعطي للقبلة الحياء باحمرار الوجنتين. واضح إذن التجاور والتسامح بين المسلم و اليهودي في مغرب زمان. إلا أنه سرعان ما سيتبذل لقاءات الطفلين في السطيحة نتيجة رحيل راشيل وأسرتها إلى فلسطين، وبسرعة ينقلنا السارد إلى باريس، حيث تكون صدفة اللقاء لسعة كهربائية في جسد أح..، وهو نوع من عودته إلى فلسطين، تلك القبلة التي مازالت تضاعفها في الجسد. الكاتب ترك لقرائه تحرير القبلة من حيائها وبراءتها. في هذه اللعبة السحرية تنكشف الذات الساردة من خلال تعدد مواقفها. ثمة موقع يحلو له فيه الكشف، وهو الشرفة، ولأنها فضاء رؤيوي ينقل الخارج إلى الداخل والعكس صحيح تماما. إنها نظرة الذات إلى الآخر، وتتموضع في الأعلى، فهي محمولة على دلالات متعددة، لا يتعلق الأمر بالموقع الاجتماعي ( الفوق/ التحت)، بل تتعداه إلى نسخ الخارج على الورق، بمعنى أن الكاتب يسرد لنا تجربة الكتابة من هذه الثنائية الموحية على النظرة، والآن السارد موهوس بالتفاصيل الدقيقة لحيوات شخوصه، والأمكنة، فإن العين تكون مفتوحة ملتقطة الخارج كي تدخله في نص ممكن. القصة هي الملاذ الوحيد الذي يرتاح فيه الكاتب ويريح فيه توتراته و وساوسه ورغباته، وأسئلته... إلخ» هذا الصباح دائما، وهو الثلاثاء 23 نونبر 2010، الموافق ل 17 ذي الحجة 1431، عدت إلى الشرفة أريد أن أنظر إلى الخارج عساني أفهم، وقد ضاق بي الداخل، فاستقبلتني عاصفة تصفيق صاعدة من الحديقة، حيث احتشد نفر من الناس أعرفهم، بينهم جيران، ومليكة، وعيسى، وعمر الريفي، والحارس الأزرق، وحارسنا البرقاق، وأنا أيضا كنت معهم، وكانت ظهورنا جميعا مقوسة، وأقفاصنا الصدرية ضيقة وأنا بعد أن رددت لهم التحية، أحس بالاختناق، فأسرع إلى مكتبي، وأفتح حاسوبي، وأجلس لأكتب هذه القصة، لعل و عسى أن أفهم» ص 20 من قصة «أحدب الرباط». هكذا يحمل الداخل المعنى، لأنه مكان كتابة القصة، بينما يفترض الخارج اللامعنى، وعملية تحويل الثاني إلى الأول هو البنية العميقة في نصوص أحمد المديني. لا يظهر التحول من فضاء إلى آخر. بقدر ما يكون ملح هذه المجموعة. تحول الجسد من و إلى. تحول الأنا إلى الآخر. هذا التحول الكفكاوي الذي يبني به التخييل السردي عند كاتبنا هو ما يقدم لنا ثراء و غنى المجموعة القصصية. إنه يبدأ من البسيط إلى المعقد، من المفرد إلى الجمع، من الوحدة إلى التعدد، نستدل بذلك في تحول الطفل أح... إلى الشباب وتحوله إلى شبح في المطار الباريسي وتحوله إلى أحدب، وغير ذلك من التحولات التي تعطي للمسخ حدوده في الكتابة. تحول يقع بين الرائي والمرئي. حيث يرى السارد من نافذته في أحد الفنادق التونسية رجلين يمشيان على رأسيهما ( ص 30 ) من قصة « ضياع في تونس»، هذه القصة التي تحتفي بترحال الكاتب وسفره حتى لا يكبله الوسواس الخناس، وكأن الضياع انفتاح على المجهول، وإن كان سبب الزيارة هو المشاركة في ندوة بمدينة قابس التونسية وهو يعرف أن رحلته محمولة على نميمة المثقفين ومقالبهم وأصنافهم المتعددة، مثلما يحدس الخوف من المدن العربية الممسوسة بالاستخبارات البوليسية، لكن اختراقه لهواجسه تروم الخروج من دائرة الوسواس التي تسكنه. إنه يحول هذا إلى ضياع في الساحل القريب من الواحات والصحراء. هكذا يعلن السارد الافتتان بالسفر باعتباره ضياعا. إلا أنه يرى «...كلما كررت تجربة سأضيع كما في الماضي، لذلك أقول كفى، لذلك قررت من بين أمور أخرى، أن أتوقف عن السفر، ولو على سبيل التجربة» ص 29-30 . لا غرابة إذن أن يكون التحول موضوعة رئيسية في « طعم الكرز»، وهو لا يستقيم إلا في النظرة المصوبة نحو الذات وآخرها يتبدى ذلك بوضوح في الشرفة التي يطل منها السارد مراقبا وملاحظا تارة ومحللا تارة أخرى، والجميل في نص « أحدب الرباط» هو تكرار الجمل التي تفصل حالة بأخرى، وكأن الصباح الذي يعيد فيه النظر و الكتابة له ما يبرره في الزمن المغربي، فالصباح يهيئ القادم إليه بالطراوة والنظر السديد، لذا يكون فيه جسرا لعبور الآخر. إلا أن هذا الآخر يلتبس في وضوحه عبر تحلل حدبة الحارس، وبالمحصلة فالحكاية لا تعدو أن تكون موضوعا ملاحظا من الشرفة، بقدر ما أضحت الشرفة موضوعا للملاحظة. هكذا يقلب الكاتب ثنائية الأنا و الآخر، الرائي و المرئي عبر خلخلة نظام الحكاية، والأنكى من ذلك، فهذا النص و نصوص أخرى تحكي الجسد وتحولاته الواقعية والتخييلية. صحيح أن الكاتب يعرف جيدا أن التحولات الطارئة في راهننا العالمي لا تمس الاقتصاد و السياسة، وإنما تمس الجسد، وما يحمله من علامات ورموز، حيث تكون الرغبة في تحويله هي الناظم الرئيس لرؤية كاتبنا حسب ما أعتقد. في القصة نفسها يصف الكاتب الأحدب، كما لو كان يطارده، أو بالأحرى هو الشبح الذي أصبح نصبا تذكاريا. يقول في ص 19 « قررت هذا الصباح أن لا أكتفي بإطلالتي العابرة، بأن أتتبع حركاته وسكناته لعلني أفهم ما يبدد حيرتي». إنه يطارد الجسد بتحولاته في الزمن و المكان . إن موضوعة التحول، إذن، لا تفيد المعنى، إلا حين ربطها بالجسد، وهي موضوعة أخرى تفرض على قارئ المجموعة التأمل في تفاصيلها، والبحث عن الأحجبة التي تحجيها، ذلك أن كل جسد يرفعك لمشاكسته والتحرش به استعاريا. جسد راشيل في الدار الكبيرة، وباريس، وجسد الأحدب، وجسد السارد، بين أناقته، وشبحه وحدبته، وجسد المتظاهرين الذين يريدون إسقاط الفساد و النظام في الساحات العامة. إننا أمام جسد مزدوج ومركب في ص 32 من قصة « ضياع في تونس» ينخلع السارد من جسده مرتميا في كل ما يحركه من أهواء، وقلق، وإيمان، وعرق، ليعلن الانفصال و الاتصال معا، فالانفصال عن الجسد يرمي إلى الوصل مع آخره من حيث هو ذات قلقة لا يستهويها نظام الأشياء، و لا أشياء النظام. بهذا المعنى تستوقفنا قصة « الشعب يريد إسقاط .. بوطاقية»، والتي يعلن فيها تمزيق حجاب السارد و إعلان اسمه بوضوح. أحمد المديني هو سارد جميع القصص، بمعنى نحن أمام سيرة كاتب مهجوس بالصدفة كاختيار وجودي، ليس لأن النص الأول يعلن ال» أح...»، بقدر ما يصادف قراءه بتسمية أحمد المديني الواقف في الساحة العامة في مدينة الرباط قبالة شخص/ جسد محتج ضد النظام. شخص يشبه أحمد المديني ( ص 61). إن هذا الجسد المزدوج يقدم لنا بأشكال متعددة ومواقع مختلفة في باريس و الرباط و الدارالبيضاء، والأردن، وتونس، وهي المواقع التي تحيل على الترحال من و إلى وكأنه تعبير عن رحلة الجسد بين لحظة و أخرى. إنه يقدم لنا عالما تخييليا بكثير من الجمالية الفائقة وهذا ما يعطي لأحمد المديني القيمة المائزة في القصة المغربية والعربية معا. ثمة حادث شكل الإيقاع الموسيقي لنصوص « طعم الكرز»، وهو ما يدعوه الإعلام العالمي بالربيع العربي. فنشيد احتجاج الميادين العامة في مصر و تونس، والرباط علامة بارزة في هذه النصوص، ومعنى ذلك أنها كتبت في العقد الثاني من الألفية الثالثة، لكن المدهش في أحمد المديني هو تعامله مع الحدث بعيار جسده، وكأن الجسد هو بوصلة النشيد، فهو لا يتابعه كمخبر أعياه النظر، وإنما في قلب النظر إلى الفرجة بما هي طقس احتجاجي بديع. إن أحمد المديني بهذا المعنى يرى الاحتجاج من الداخل و الخارج. حيث يكون الواو مساحة تأويلية ونقدية يقيم فيها ويكتب عنها بنقد ساخر أحيانا وبمسخ تحويلي في أحايين كثيرة يخال لي أن ما كتبته ليس سوى نقط أقلام تفترض التأمل، لكن كيف يكون التأمل، والقارئ الذي يسكنني سكران بالاستعارات القريبة و البعيدة للجسد وأشياء أخرى، أتوقف قليلا كي أعيد النظر فيما قرأته و كتبته، فيما يوصلني إلى أحمد و ما يبعدني عن المديني. ثمة نقط حذف فارغة تضيء العتمة وتسبح في اللامعنى المندس في شرفة أحمد المديني. لنترك اللامعنى في شرفته، ولنقدم المعنى قهوة لقراء هذه المجموعة. * أحمد المديني، طعم الكرز، دار توبقال، الدارالبيضاء،2012.