مازال للبحر كتابه، و مازال الكاتب عبد السلام الجباري يقاوم أمواج أصيلة الرتيبة بخيالاته، وكتاباته المقلقة بالماء والضجر. ما فتئ الكاتب المغربي يبعد القلم من أصابعه حين ينخره المكان والزمان، وما فتئ كذلك يغير أوراقه وقلمه إلى جهة أخرى في جغرافيا الكتابة، لكن عبد السلام الجباري يقوض تلك الفرضيتين، ويعلن الكتابة طيفا أزرق دون البوح بذلك.وكأنه شاهد على ومض ينفلت من الفلسفة ليستقر في الأدب عنوة أو طوعا، وبينهما يستر طيات حكاياه بالماء وأشياء أخرى. تبدو هذه الطيات في الاستهلال المعين بوضوح في أقوال فريد الدين،و العطار، و نيتشه، وسارتر. إذا نظرنا إلى الثلاثة الأولين، فإننا سنتحصل على هروب المعنى من التراب إلى البحر. فالأقوال تلك تركب مخاطرة البحر. لا لتقول المعنى. بل لتقوضه وتدفعه إلى تخوم اللامعنى. ولعل عنوان المجموعة القصصية دال على هذا الذي انفلت من كتابه وقارئه. عنوان يحيل على الشغب والاحتياج والتفويض والعبث واللاجدوى. ولأنه كذلك فهو الدليل على تشبث الكاتب بالسؤال الفلسفي. ليس لكونه مارس تدريس الفلسفة منذ تخرجه إلى حدود تقاعده، وإنما فيما تهبه الفلسفة من أفق مفتوح على الخيال والكتابة وأشياء أخرى. لا نريد هنا ربط مهنة الكاتب بكتابته، ولا حتى رتق الفلسفة بالأدب، بقدر ما يدفعنا عنوان المجموعة الموسوم ب « وداعا شوبنهور» إلى مساءلته عبر الوقوف على كلمة الوداع، بما هي كلمة تحيل على الرحيل. لكن هل شوبنهاور فيلسوف يفترض وداعه. ما دام هذا الأخير يسخر من الإتيكيت وما يصاحبها من علامات خلقية وسلوكية؟ هذا أمر ممكن. بينما هناك فرضية أخرى تفيد المصاحبة والغياب بمعنى أن الكاتب أعيته مصاحبة هذا الرجل المزعج في كل شيء، ويريد الوداع بطريقة تليق بالمغربي. أو بالأحرى هي الضيافة التي تستدعي هذا الشكل السلوكي العام، لنترك هذا جانبا ولنتأمل علاقة العنوان باستهلال المجموعة القصصية ثمة خيط شفاف يضيء بحر الكتابة. مثلما يغلف سماءها. هذا هو أفق انتظار الكاتب. أفق يقبض المعنى ليحرقه في الأخير. وكأنه الشاشة التي تزوبع الدليل وترميه بعيدا عن شوبنهاور. ربما هي الأندلس أو موانئ الشيخ العجوز في مرسيليا هي رحلة يكون فيها شوبنهاور مهماز الحكاية . أو على الأقل المختطف من بروسيا العظيمة أو هو بالأحرى شوبنهاور آخر غير مكتوب في تاريخ الفلسفة. لسنا هنا في تدقيق الحالة المدنية لشخصية تحيلنا على العبث والتقويض والإزعاج. وإنما قبالة اعتباطية الاسم حتى وإن كانت التسمية دليلا على المجهول. يؤكد السارد في هذه القصة ذلك حين يقول « تأويل غير واضح، لمواقف غير واضحة إما العودة إلى النبع، أو الضياع والانصياع لأضواء الغرب. أضواء تخلب الأفئدة والأبصار وتوسع الهوة» ص 20. تقدم لنا هذه الفقرة من قصة « وداعا شوبنهاور» التباسا مثمرا. الأول منه يقيد اعتباطية العنوان. مثلما يندفع نحو تطابق غامض مع النص الحكائي. فالحكاية تسرد لنا شخصية «جميل» الراغب في الإقامة ببلاد بروسيا العظيمة. هنا يفتح السارد بوابة المفارقات، بين الشمس والمجهول، بين الدفء والضياع، بين الجسد والموسيقى. وفي صيغة بين- بين تحضر الهوة السحيقة لتعلن المجهول المحرق، لا للبحث عنه، وإنما في الخضوع لفتنة الآخر. هذا الآخر الذي يطل منه شوبنهاور، كما أنه يغلق النوافذ علية ( أي السارد) ليضعه بين – بين. بين المنزلقات المتعددة والموانئ المحروسة، والآخر الذي يسكنه. الكاتب إذن يسخر من قرائه حين وضع شوبنهاور علامة الوداع، وهي سخرية من هذا الذي يكون بين- بين. فهو يقول التسمية و يهرب المعنى إلى المجهول. أو على الأقل في تلك الهوة التي تحجب الهوية. ثمة نزوع حاد للكاتب نحو استضافة مركبة لكتاب وفنانين وفلاسفة، ذلك أنه في كل نص من نصوصه تكون الاستضافة ممكنة. إلا أنها في الغالب الأعم- تكون مدفوعة بأمر الكاتب، باعتباره مدرسا للفلسفة. قد تكون هذه الأسماء من التيفاشي، نيتشه، فاجنز، أحمد المجاطي، نزار قباني، أقليدس، فرويد، كانط، ديوجين، سقراط، أفلاطون، ارسطو، باشلار، زكرياء إبراهيم، ليفي ستراوس، سيربانطين، فرانز كافكا، إيليدويو أليكارشانيس، كارل ياسبرز، عبد الرحيم مودن، سارتر، كامي، كولن ولسون، بتهوفن، تيكوفسكي، فارسيالوكا، الماغوط... هذا دون الحديث عن أسماء تحملها بعض عناوين قصص المجموعة ك « وداعا شوبنهاور» و « أوهام سيربانطيس القزحية» و ATONIO VIVA LDI « و « كارل ياسبرز».... وداخل هذه النصوص يستدعي الكاتب أسماء أخرى، كما لو كان مثليا بالأسماء. هذه اللعبة التي تروم البعد الآخر للكاتب. أعني بذلك انفضاح اهتمامه بهذه الأسماء دون غيرها، وثانيا تمحي الأسماء في العناوين، ولا تظهر إلا في سياق خارج تداولها. لنركز النظر على عناوين القصص الحاملة الأسماء. فباستثناء نص حول سيربانطيس. فإن النصوص الأخرى تكون أسماؤها جسورا لسيرة السارد.ذلك أن حضور VIVA LDI سيتم في حانة إيطالية تحتفي بهذا الموسيقار في لحظة من لحظاتها. بمعنى أن العنوان صادم حين قراءة النص القصصي. الكاتب إذن له نية مبيتة لإزعاج قارئه. وكأنه يرغب في تصدع متلقيه. تصدع يتم بمقتضاه تظهير المعنى عبر ملاعبة نقيضه. في نص كارل ياسبرز يتعرى السارد كلية قبالة مراياه. ليعلن الدرس الفلسفي. وكأن هذا الإعلان الموجود في آخر النص ذلك على ذلك. يقول السارد « لقد عيناكم بثانوية عبد المومن... المرجو الإلتحاق فورا؟ فجاءت الأسئلة والأجوبة. أليست الفلسفة، هي عبارة عن أسئلة وأجوبة كما قال كارل ياسبرز « ص 87. أية علاقة تجمع كارل ياسبرز بالحكاية. هنا يتأكد تسلل أستاذ الفلسفة إلى الحكاية معلنا تدريسها، وامتهانها. هكذا يتسلل المدرس في النصوص القصصية لعبد السلام الجباري. وقد نقول- بقليل من المكر- إن المدرس يفرمل السرد، ولا يدعه يسبح في تخومه التخييلية. إن الأمر لا يقتصر على هذه النصوص، بل نجدها في جميع النصوص تقريبا. وكأن هذه النصوص ترتدي كسوة مدرس الفلسفة في بيان التمايزات والمفارقات، وبوصلة الحكايا بالأسئلة والنقد وغيرها من خصائص التفكير الفلسفي. لنقرأ في صفحة 122 « ما علاقة المطر بالجمال؟ لا شأن لي بالمطر الآن، شأني أن أجيب عن السؤال الذي كاد أن يدمرني وأنا أعبر أزقة المدينة... ما هو الجمال...؟ « لا مراء إذن في أن تكون ضيافة الأسماء مربكة، فالإرباك لا يتسم بدعوة الأسماء دون غيرها، وإنما الالتباس الحاصل بين الكاتب والمدرس حتى يخال متلقى هذه النصوص أن الكاتب يسرد علينا الحكايا كما لو كان يقوم بتدريس مادة الفلسفة في الأقسام الثانوية. إنها موضوعة رئيسة في هذه المجموعة. لقد حاولنا ملامسة بعضها . بينما الآن سنحاول النظر إلى موضوعة أخرى مطروحة في النصوص جميعها. إنها موضوعة الألم، فالألم الذي يسرده السارد في تجلياته المتعددة ذو بعد مزدوج داخلي وخارجي، فهو من حيث كونه داخليا. فهذا يعني أن الكاتب يرغب في إشاعة ألمه و تعميمه « هو الألم مرة أخرى يصعد إلى الرأس. ألم قديم، جديد، عضوي، نفسي، اجتماعي، إنه الألم ولا شيء غيره» ص 101. هكذا يمتهن السارد آلامه مثلما يود الكاتب الحوار مع صاحب « الفرح ليس مهنتي « للماغوط. يستدرج الكاتب موضوعة امتهان الألم أفقا للكتابة، أو بالأحرى كيفية تلقي العنوان/ عنوان القصة، محاولا الوقوف على السرقة الأدبية ومبرراتها المتعددة. إن دعوته الماغوط تروم اقتسام الألم. كما ترمي إلى تظهير الألم مكونا نفسيا، واجتماعيا، وهو بذلك يرغب في كتابة الألم. إنها كتابة البوح، والوجع، والأزمة، وغيرها كثير. وكأنها مرآة كاتبها. إذ لا يمكن أن نتصور كتابة بدون آلامها. إذا كان الأمر كذلك. فلماذا يبرزها بوضوح؟ ليس بوسعنا مقاربة ذلك سيكولوجيا ولا حتى البحث عن مواطن الوجع الذي يسرده السارد في مدينته الصغيرة، وفي أوربا، والدار البيضاء... ذلك أن التسلل إلى تلك الهوة السحيقة التي تحدثنا عنها سابقا الدالة على الهوية، ولا حاجة إلى إعادة تفكيك الألم مهنتي، بقدرما يدفعنا هذا الامتهان إلى النظر في البعد الآخر منه، وهو البعد الخارجي الذي يعطي الألم المعنى، كما يكشفه بوضوح في نص « إياك أن تنسي لورا». يقول السارد « فإن لورا سعيدة بحياتها هناك، أما نحن هنا، فأشقياء و أي محاولة لتجاوز هذا الشقاء الذي تحول إلى إحباط. مآلها الفشل» ص 17. إن ثنائية السعادة والشقاء حبلى بألم كاتبها، فالشقاء توطن عالمه الداخلي والخارجي، إلى حدود التعايش الموجع والمحبط. بينما تكون أروبا مسكن السعادة والجمال. نحن إذن أمام ثنائية الشرق والغرب في تجلياتها المتعددة. حيث يكون الغرب بالنسبة إلى الشرق التعيس والمحبط دليل السعادة والحرية. إن نصوص المجموعة طافحة بهذه المقارنة العامة بين أنا الكاتب والآخر الغرب، وكأن هذا الأخير يحرر المحظوظ من الأول لرؤية الجمال، والنظام وهي الصورة التي ما فتئ المغربي العادي تداولها. مادام هذا الأخير يعيش القهر، والقمع، والكآبة، والإحباط، وهي كلها موارد نكوصية تتشعبط المستحيل رغبة في الوصول إلى الفردوس المفقود/ الأندلس. بين لعبة الأسماء وكتابة الألم شريط من الحكايا التي تعلن المعنى وتدفنه في الهوة السحيقة، والتي تفصل الأنا بالآخر. إن قصص عبد السلام الجباري تعلن الشهادة على زمننا المرعب والكئيب. شهادة تعري المفارقات وترسم الألم لتضع الأمل مرآة في بروسيا، وإيطاليا، والأندلس، ومرسيليا، وباريس. إنه قلب الكلمة ( الألم) ليس لتاريخها. بل في تفتيت حروفها على ممتهنيها. ولأن الكاتب / الشاهد تعاقد مهنيا، فإنه امتهن الألم كي يحرر ذاته من كليشهات المؤقت المغربي. عبد السلام جباري، وداعا شوبنهاور، سليكي أخوين، 2015