1 - هل كتابة الذات شيء ممكن؟ إذا سلمنا مبدئيا بأن الذات هوية مركبة من الأنا كذات واعية والأنا كموضوع للمعرفة ،فهل الكتابة وسيط لتجليتها أم لالتباسها؟ ثم هذا السؤال المركب ألا نكون قد أضعنا حقيقة الذات باكتشاف اللغة كأداة للكتابة على اعتبار أن اللغة التي أكتب بها هي من صنع الآخرين وبالتالي هي إرث لا أستطيع لا التخلي عنه ولا تعديله بشكل فردي لأن الأمر متروك لمجمعات البحث اللسانية وسنين للمراجعة والتعديل؟وهل الذات قادرة على جعل الكلمات وفية في نقل ما بأحشائنا أم هي مفردات مهنتها الخيانة؟وإذا سلمنا أن الذات هوية في طور التشكل ،ما حدود صياغة الماضي لحاضري علما أن الحاضر نفسه متحول بينما الكتابة تجمد صورة مقطعية للذات؟وبالعودة إلى أسطورة «أوديب»نظفر بسؤال عميق في هذا الأفق حيث يقدم الإنسان بمثابة لغز معجون بالزمان وذلك بطرح حارس «طيبة» /المدينة على الراغبين في دخولها سؤالا كالتالي:من هو الحيوان الذي يمشي على أربع صباحا وعلى اثنين ظهرا وعلى ثلاث ليلا؟ سؤال دال على أن الذات هوية متعدد بسبب انغماسها في نهر الزمن. . وهل معرفة الذات لا تتم إلا من الداخل وبواسطة الذات نفسها حيث قال سقراط ذات سياق»إعرف نفسك بنفسك»جمله مستهلة بفعل أمر يشترط القدرة الفعلية على معرفة الذات وهو ما يغيب عن الكثير منا... أمر يبرر عودة سقراط نفسه لقولة أثيرة لديه:»أعرف شيئا واحدا أنني لا أعرف شيئا.»إن إقراره بالجهل يجعل مهمة معرفة الذات مسألة شبه مستحيلة إلا إذا توسلنا المجاز والإبداع في حدود ضيقة.. يقول نتشه في هذا الباب.. «خلق الإنسان الفن كي لا تقتله الحقيقة،حقيقة الموت.» والكتابة الإبداعية هنا تقتضي الرمز والقناع والأسطورة والاستيهام والحلم وما شابه ذلك.. وسائط تبلاغية تتوفق أحيانا في إضاءة عتمات الذات الغامضة .. عتمة ضرورية لاستمرار الحياة إذ يستحيل تصور حياة واضحة تماما يعرف فيها الفرد متى سيموت وكيف ولماذا؟ الذات بالنتيجة ليس معطى جاهزا هي مهمة يلزمنا الانكباب عليها بإصرار مناضل متطرف ورغبة عاشق جريح.. 2 - رهانات السيرة الذاتية: إذا كان رهان كتابة السيرة الذاتية هو جعل الأنا محورا وهدفا للخطاب، فهل كتابة الذات بشكل موضوعي شيئ ممكن؟ وفي حالة تعذر ذلك هل يرجع الأمر للغة أم للتنشئة الاجتماعية أم للأنساق الثقافية العامة؟ علما أن السياق المسيحي مثلا له تقاليد في الإعتراف والبوح بشكل يومي، فعل يعتبر تمرينات متواصلة على قول الذات في الحياة.. وطقس يؤثر لا محال على مرايا كتابة الذات حيث تتميز السيرة الذات الغربية بنشرها للضعف الإنساني والنقص «اعترفات»جون جاك روسو و«يوميات لص» لجان جونية نموذجين يتفوقان على أيام طه حسين الواطئة السقف من حيث البوح... ترى لماذا هذا الخوف المبالغ فيه من مواجهة الذات في السياق العربي؟ هل هو أثر تاريخ القمع والشطط في استعمال السلطة وضيق هامش الحرية أم هي التنشئة الاجتماعية المؤسسة على الحجب والستر.. ومنزع الإخفاء والستر هذا كما يعتم الخطاب يحجب الجسد.ويمكن اعتبار انبناء المجتمع العربي على القبيلة/الجماعة أحد الأسباب لتعطيل منطق الفردانية كبوابة للاعتداد بالشخصية وهي إحدى ركائز المجتمع الحداثي التي غابت عنا. إن التصور العربي للكتابة عن الذات يسقط عنها النقص والضعف والقبح ويحتفظ بالنقاء والقوة والجمال الواهم وهذا ما يبرر كونها كتابة مسطحة وذات بعد واحد إذ يكفي مراجعة السير الفلسفية (رسالة الغفران للمعري و المنقذ من الضلال للغزالي مثلا)والسير السياسية (الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب)كي نقف على هذه الحقيقة. حقيقة حكي الذات باللون الأبيض.. واللون الواحد يعني في العمق الغياب والمحو والقفز على كل ما من شانه الإقلاق خلافا للسيرة الذاتية الغربية المكتوبة بكل الألوان. فسيرنا في الغالب يتخذ أصحابها صور مثالية ويلصقون النقائص بالأخريين إلا فيما ندر(الخبز الحافي لمحمد شكري وذكريات الحب والأدب لسهيل إدريس تمثلان الاستثناء..)وهكذا يصبح ما يعتبر صراحة واعترافا بالغرب لدينا خدشا للآداب وانتهاكا للأعراف وتطاولا على السلطة.. إن الوعي بعدم القدرة على قول كل شيء في سياقاتنا العربية /المغربية هو ما جعل مثلا عزيز بنبين يتحفظ عن كتابة سيرته السجنية وتركها لكاتب محترف مثل الطاهر بنجلون.. علما أن كتابة السيرة الذاتية لا تتحكم فيها العوامل الموضوعية فقط ولكن حتى ما هو ذاتي كالرقابة الذاتية والنسيان وعطل التذكر وما شابه ذلك. لكن مع ذلك تبقى قوة وفعالية السيرة الذاتية كامنة في جعلها تنتقل من حيزها الخاص لحياض القضايا العامة.. والعام له سلطة خفية توازي السلطة السياسية. تجربة تقدم النموذج وتقترح أشكال ردود الفعل ونمط الردود وجدواها بل وتأثيرها في الزمان والمكان والأفراد ومن ثمة اقتراحها لنماذج جاهزة للاقتداء والتحريض.. 3 - دوافع الكتابة عن الذات تتعدد دوافع الكتابة عن الذات حيث يشتبك فيها العاطفي بالوجودي.. فهناك لذة اقتسام الخاص مع الآخر ورغبة الانتساب للجماعة دفعا للعزلة الذهنية وتوقا لاستدعاء ما مضى وانقضى بهدف الانتصار على سطوة الزمن والبقاء في الذاكرة بحثا عن تكريس الذات وتحقيق الانتشار من خلال تقديم شهادة في حق ما هو عام وخاص من شرفة الذات. (1)إن كتابة السيرة الذاتية بقدر ما هي عودة لزمن الطفولة والسفر في الزمن بشكل معكوس، هي رغبة دفينة في استبعاد لحظة الموت مادامت الحياة في صيرورتها تعني التوجه للمستقبل الذي يعني بمعنى من المعاني الذهاب للمنية. الكتابة عن الذات فضلا عن كل هذا تلعب دور المرآة مانحة الكاتب فرصة تأمل ذاته كيف كانت وكيف أضحت.. فقط تجدر الإشارة هنا أن الكتابة عن الذات ليست حصرا على النثر كما ذهب إلى ذلك «فليب لوجون» ذات مرة بعد إضافة تعديلات لاحقة حيث قال»هي المحكي الاستذكاري النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص،عندما يركز على حياته الفردية وبالخصوص تاريخ شخصيته.»(2)الكتابة عن الذات تبدو كمياه جوفية قادرة على التسرب لأعماق الطبقات الرسوبية لكل الأجناس الأدبية أينما كانت بما في ذلك السينما والمسرح والشعر والنثر.. وهو التعريف الذي ورد بمعجم الآداب حيث جاء فيه»هي كل نص يبدي فيه الكاتب اهتماما بالتعبير عن حياته أو مشاعره كيفما كان شكل هذا النص»(3)وبعيدا عن التحديدات النهائية التي يحكمها منطق التجاوز دون أن تدري ذلك.. يمكننا القول أن الكتابة عن الذات بشكل ضمني تترجم فشل العودة المتعذرة في الواقع للذات في اللحظة الأولى لمجيئها للوجود. تأتي الكتابة عن الذات مقترحة نفسها كجسر لتحقيق هذه الرغبة إذ بواسطتها نتحرر من الواقع وتجعلنا أقوى من خطيته بفعل خلقها للمسافة بين المعيش والمكتوب على أن لا يفهم من الذاتية اقتصارها على استعمال ضمير المتكلم بقدر ما هي تحويل للذات من صيغة المفرد وجعلها مخاطبة ومخاطبة(بنصب الطاء وكسرها).. أقصد بذلك الحوارات الداخلية والتداعيات والاستهامات وما شابه ذلك.. 4 - روافد السيرة الذاتية تتعدد روافد السيرة الذاتية وتتنوع ويمكن الوقوف على بعضها على سبيل الاستئناس مثل الاعترافات والذكريات والمذكرات واليوميات والرسائل وما شابه ذلك.. (4)أما الاعترافات فتتصف بكونها تصريح بالمواقف العاطفية والنفسية.. اعترافات تشترط التكتم والسرية غير أن كتابتها تقوم بتسويقها على العموم أمر يمكن اعتباره عملية تطهير وعلاج للنفس المثخنة بالجراح كما يمكن اعتبارها نوعا من الاستعراء دون أدني تلميح بتبخيس هذا الفعل. فالعري هو الأصل في بعده المزدوج:كتابة ومعيشا.. فنحن نأتي للحياة عراة ونرحل عنها كذلك، وبين العري الأول والثاني لاشيء يقينا برودة العالم وجرح الموت مثلما تفعل بنا الكتابة. أما الذكريات فهي تلك الوقائع التي تستدعى مباشرة من الذاكرة دون الرجوع إلى وثائق معدة سلفا لإسناد فعل التذكر وهي تنصرف عموما للقضايا العامة من خلال استدعائها للشخصيات والأماكن وتتصف بالسهولة الأسلوبية بشكل يقربها من العفوية والتلقائية... والذكريات غير المذكرات التي تشترط الالتزام بالكتابة اليومية والمتابعة الدقيقة للوقائع والأحداث.. أما اليوميات فهي سجل للتجربة اليومية للكاتب سواء التي شاهدها أو رويت له.. نصوص مذيلة بتواريخ الأيام التي كتبت فيها وهي بخلاف الرسائل التي تكتب في فترات متباعدة ولا يربطها موضوع واحد... 5 - أسئلة الذات القلعة ترى ما معنى أن نكتب عن الذات بالذات ولأية غاية؟ هل بغاية اكتشافها أم لإثبات خصوصية هويتها؟وهل تكتب الذات لتتحرر أم لتحرر؟ترى هل الغاية تجاوز خواء الوجود والبحث عن معنى للحياة أم تفريغا للشر أم بحثا عن الحب؟وهل حقا عندما تكتب الذات عن نفسها تريد أن تتواصل فقط أم تريد أن تسود؟ والكتابة هنا تترجم ظمأ للسلطة. ألا تريد الذات بانكتابها جعلها مثالا يحتذى؟وهل الكتابة قناع آم استعراء بمعنى أننا نكتب لنتخفى أم لنتعرى؟وهل كتابة الذات موجهة للانا أم للآخر؟وكيف يحضر الآخر في غيابه؟ أعتقد أن الآخر ضروري لتواصل الذات مع نفسها ،إذ من خلاله يمكنها انتزاع الاعتراف بتميزها.. علما أن الأخر موجود في اللغة وفي الذاكرة وفي الإرث المشترك العام. غير أن الآخر يتحول أحيانا لتهديد حقيقي للذات من خلال مطالبتها بصورة غير الصورة التي نسجتها الذات عن نفسها.. وبالتالي يتحول لجسر إلى الانفصام الشخصي. يقول آرثر رامبو Arthur Rimbaud (1854/1891)أنا آخر»je est un autre»قولة بقدر ما تسقط الحدود بين الذات والآخر تجعل التمييز بينهما عسيرا لأننا في العمق بشكل من الأشكال من صنع الآخرين وبالتالي مقولة صفاء الذات مجرد وهم.. وفي هذا المستوى يصبح ضمير»هو»ليس ضميرا غائبا حسب التعريف النحوي البسيط. هو ضمير غائب حاضر.. عند هذا الحد يتضح أن التعريفات النحوية للضمائر في غاية السوء والفقر حيث أنها تصف مثلا «أنا»بضمير المتكلم.. آلا يكون هذا الضمير حاضرا حتى في حالة الصمت والحلم والهذيان.. إن ضمير المتكلم في غاية الغرابة كما يقول فرويد»الأنا ليس سيدا في بيته الخاص»لكن علينا أن لا نكرس ذلك ونجعله عبدا.. إن ذهاب وإياب الأنا بين ذاتها والآخر يمكن اعتباره فعل جدلي مؤسس للهوية أكثر منه عقبة، بل يمكن اعتباره منبعا لا متناهيا للإبداع.. إن تجاور الآخر والأنا في الذات كما تجاور الضوء والظل، الوضوح والعتمة.. فالظلال بقدر ما تمنح اللون عمقا تعطي اللوحة بعدا واقعيا.. تنبع إذن أشد الأسئلة تعقيدا عن الذات الكاتبة لحظة انكتابها من كونها ذاتا مضاعفة، فهي كاتبة ومكتوبة ،مفردة ومنتسبة لجماعة في ذات الآن. محكومة بالوعي واللاوعي،عقلانية وغرائزية،مقسومة على نفسها بين الماضي والحاضر. مثنى يجعل من الذات ما يشبه اللغز أو المتاهة إن لم نقل أفقا مجهولا مدعاة للاكتشاف. اكتشاف يقتضي تجديده في كل مرة لأن الذات في تحول مستمر. إنها معطى تاريخي بمعنى أنها مجموع ما اعترضها من خيبات وهزائم وانتصارات. ذات في سفر دائم نحو النضج والاكتمال، لكنها مع ذلك تمني النفس بعدم الوصول لنقطة النهاية لأنها بكل بساطة نقطة حتفها. علما أن نضج الذات النسبي يسهم فيه الآخر بنصيب وافر مادام وجود الذات لحظة الولادة وجود غفل من المعنى. والذات هنا(le moi)أوسع وأعمق من ضمير المتكلم أنا(Je)كضمير نحوي صرف. . وبهذه الخلفية نصبح غير ملزمين بتوظيف ضمير المتكلم للحديث عن الذات. فالذات مأهولة دائما بذوات مجاورة لدرجة يمكننا القول أحيانا «أنا العالم». إن الآخرين والأحداث والزمن تدخل في تكويننا الخاص.. لكن إذا كان الماضي يصنعنا فبالوعي والإرادة يمكننا أن نختار مآل الذات إذ أن من يحتكم للحتمية ويستبعد الحرية في صوغ الذات يبحث عمليا عن التبرير الكسول الذي يقول أن كل شيء تم تصميمه بعناية وما علينا سوى الاندفاع في الحياة كما لو كنا أشياء.. 6 - الكتابة عن الذات والسياق الثقافي بالعودة إلى السياق المسيحي وطقوس الاعتراف نصادف التصريح الديني الذي مهد للبوح الأدبي وان كانا مختلفين من حيث الهدف والصيغة وطبيعة التداول. فالاختلاف جلي من حيث الجهة المعترف لها بالخطايا(القس غير جمهور القراء)والمكان(الكنيسة مقابل الكتابة عن الذات في كل مكان) والثقة المتبادلة بين المعترف والقس وارتفاعها أحيانا بين كاتب السيرة الذاتية والقراء.. فضلا عن تباين الخلفيتين من حيث إدانة الذات من لدن الخطاء بخلاف افتخار المعترف بالذات في السيرة الذاتية. بل إن المذنب يعترف بغاية محو أخطائه بينما المعترف في السيرة الذاتية يكتب بهدف تخليد نفسه من خلال الأثر الكتابي. . نخلص إلى أن الاعتراف المسيحي ثم تحويره في عصر النهضة الأوربية بدخوله حيز الأدب ... في السياق العربي الإسلامي السياق مختلف تماما بسبب التنشئة الاجتماعية المؤسسة على السترة»إذا ابتليتم فاستثيروا»وأعود بالله من قولة «أنا» وهذه الإدانة للذات في بعدها الفرداني انعكست على الكتابة ومختلف الفنون الأخرى وهذا ما يفسر مثلا ندرة الرسائل الخاصة بسبب ضيق هامش الحرية في كل شيء بخلاف السياق الغربي حيث تجد نفسك مسحورا بمواصلة قراءة «اعترافات»روسو(ق18)التي توفقت في رسم الضعف البشري ونقصه ونوازع الإنسان الشريرة.. اعتراف يجعل من المجتمع كله طلاب معرفة الإنسان هذه القارة التي لازالت مجهولة عندنا..نخلص إلى أن كتابة السيرة الذاتية وأدب الاعتراف عد عند البعض ممارسة علاجية تبيح التخلص من القلق والتوتر وكأني بها نوعا من الاستحمام الرمزي.. وهناك من عدها وسيطا لتجديد الذات إذ مع كل اعتراف تولد الأنا من جديد والتغير كما التحول هما جوهر الكتابة.. بل هناك من راهن ليس فقط على تجدد الذات بل تجديد الآخر.. لكن نعود ونقول هل قول كل شيء أمر ممكن في واقعنا العربي/ المغربي؟وهل يسمح الرقيب السياسي والديني والجنسي بذلك؟وهل حقا أن أدب الاعتراف هو الممارسة الوحيد التي يصير فيها الكاتب طبيبا ومريضا في الآن نفسه بل ويمثل الدواء كذلك؟أليس مجرد انتقال الكاتب من الواقع للخطاب كفيل بصعوبة كينونة ذواتنا.. بمعنى ألا نكون قد أضعنا حقيقة الذات باكتشاف اللغة كوسيط لمعرفتها؟جملة من الأسئلة نتركها مفتوحة تماما كما هي جراح الحرية في واقعنا العربي... 7 - كتابة الذات والزمن إن الذات وهي تستحضر الماضي الخاص بها تكون في الغالب فريسة الحنين لما انتهى وانقضى.. أمر يشترط طرح السؤال التالي:هل ما تستدعيه هو الماضي كما كان ،أم الماضي كما رغبته؟ألا يصير الماضي عندما تصبح الذات أكثر نضجا مشروعا يقتضي معاودة صوغه من جديد وفق وعي وشرط وجودي مختلفين؟ علما أن الماضي ليس هو تلك الأشياء التي مضت فقط ولكنه صورة لما وقع لأن اللاوعي والزمن يتدخلان بنية تحويل ما وقع وفق أهواء الذات الراهنة مادام فعل تذكر الذات هو في العمق فعل إعادة تشكيليها من جديد لأنه ليس ثمة ضمانة لحيادها فهي في الغالب تعطي الذكريات معنى لم يكن لها في الأصل. وهنا يتضح الفرق مثلا بين المؤرخ والمتذكر.. فالثاني يجد حرية في تعديل ما وقع وهو يستدعيها بينما المؤرخ يجد نفسه ملزم بما هو موضوعي ومتفق عليه.. لكن هل ثمة حاجة للعودة إلى الماضي ونحن نكتب؟هل لأن الحاضر فج وضجر أم لأنه لا يلبي رغبات الذات بكل بساطة؟وإذا كان الماضي وقائع وأحداث حدثت فعلا فهل المستقبل صفحة بيضاء تماما أم أنها كتبت مسبقا وما علينا سوى مواصلة السير فقط؟بمعنى هل المستقبل شيء ننتظر حدوثه أم شيء نصنعه الآن؟صحيح أن التخطيط لما قد يقع مجد ومفيد للذات لكنه تخطيط سريع العطب جراء اصطدامه بإكراهات الواقع والحظوظ اللامتوقعة؟فبين القدرية وضدها ثمة تناء وتباعد في رؤية الأشياء.. حيث يقول التيار الثاني أننا حتى ولو كنا لسنا نحن من يضع نقطة النهاية لسفر الحياة، ففسحة المستقبل تعطي الذات إمكانية صناعة مصيرها وهذا ما يجعلها كون ملغز ومحير.. فهي تتطلع دوما لغد مختلف في ذات الآن التي لا تكف عن استدعاء الماضي مادام الفرد بدون ذاكرة يعد كائنا عاريا من العمق والتاريخ إن لم نقل أنه كائن في مهب الريح.. الحياة بدون ذاكرة تبدو لحظات مفصولة وبدون معنى.. بالتذكر يمكننا معاودة عيش ما كان.. الذاكرة هي التي تعطي صيرورة الذات معنى فقط لا يلزمنا العيش في سجن الذاكرة لأننا سننسى الهنا والآن.. مع وجوب التذكير أن الذاكرة لا تشتغل إلا وهي معجونة بالنسيان.. تبقى الذات في المحصلة نتاج ما هو ثابت وما هو متحول في الآن نفسه :الثابت هو تمثلها لفكرة الفناء وأن الكل ليسوا إلا عابرين مع اختلاف الذوات في تمثل المعنى والذوق والحقيقة وما شابه ذلك.. مفاهيم تتعقد أكثر عند انكتابها بمفردات تبدو كائنات مخاتلة تدفعنا أحيانا لقول ما لا نعتقد، كقولنا للبعض»آه لم تتغير»جملة زائفة ولا تعبر حقا عما نعتقده على اعتبار أن الذات سواء كوعي أو كجسد لا يمكنها أن تبقى خارج سيولة الزمن.. فكل الكائنات الحية محكومة بنظام واحد هو التحول والفناء ولا شيء يبقى بمنآى عن هذا النظام.. و إن كان هذا التحول يضعنا في موقف ملتبس .. فأحيانا نشعر بالحزن والفرح في نفس الآن لتحولات الجسد وكأننا شخنا قبل الأوان مثلا؟؟ الذات بالنتيجة هي تاريخ يتشكل بتجارب ينضاف بعضها للبعض.. ذاكرة تغتني بما مضى لكنه ماض مهدد بالنسيان والتلف كذلك.. الذات بتلويناتها المختلفة سواء أكانت على الورق أو في الحياة هي كينونة لا تكتمل أبدا لأنها بكل بساطة تتشكل مما تعيه وما لا تعييه.. إحالات: 1-Georges May. l autobiographie . ed. PUF. 1 éme éd. 1979. pp. 44/56. 2-Philipe Lejeune . le pacte autobiographique . poétique 56. 1983. p424. 3-Dictionnaire des littéraires. Larousse. 1987. T1. P125. 4- P. 79. Georges May. l autobiographie