في مشهد من فيلم The last Tango يظهر مارلون براندو مستلقيا على سريره ويحكي لماريا عن أشياء عن ماضيه. إنه براندو الذي فعل كل هذا. لقد قلت له «سوف تطرح عليك أسئلة، أجب عليها كيفما شئت». بدأ بوصف كل تلك الأشياء المزعجة، وأنا كمخرج، كنت مثل الجمهور - بعبارة أخرى، لم أتمكن من معرفة ما إذا كان يكذب أو يقول الحقيقة. ولكن هذا هو الهدف وراء الارتجال: محاولة ملامسة الحقيقة وإظهار أن شيئا جد حقيقي قد يكون مخفيا وراء قناع الشخصية برناردو برتلوتشي Bernardo Bertolucci هو شاعر، مخرج وسينارست إيطالي. يعتبر من بين أبرز المخرجين العالميين في النصف الأخير من القرن العشرين. ولد برتلوتشي سنة 1941 بمدينة بارما الإيطالية، وهو ابن الشاعر والناقد السينمائي أتيليو برتلوتشي الذي يعود له الفضل في توجيه ابنه الى مجال الشعر والسينما منذ سن جد مبكرة. حيث فاز برناردو في سن الثانية عشر فقط بجائزة وطنية للأدب « Viareggio prize » لأول ديوان شعري له « In cerca del Mistero »، كما بدأ بتصوير أفلام قصيرة باستعمال كاميرا 16 ملم في سن المراهقة. وفي سن العشرين، سوف يلتقي أثناء دراسته بجامعة روما بالمخرج الكبير بيار بازوليني الذي سيقترح عليه لاحقا العمل معه كمساعد في فيلم Accatoni وهي التجربة التي التي سيكون لها أثر عميق على المخرج الشاب آنذاك، و ستعطي الانطلاقة لمشوار مليء بالأفلام الناجحة. إن الدرس السينمائي الذي نقترحه على القارئ يشكل سلسلة من الدروس السينمائية التي قام بجمعها لوران تيرارد Laurent Tirard في كتابه Moviemaker's master class الصادر سنة 2004. لوران تيرارد هو مخرج، سيناريست وناقد سينمائي فرنسي. تابع دراساته السينمائية بجامعة نيويورك، وبعدها أصبح قارئا معتمدا للسيناريو لدى شركة Warner Bros. بدأ تيرارد مسيرته الفنية كصحفي لدى مجلة Studio Magazine حيث حاور لمدة سبع سنوات العديد من أكبر المخرجين مثل: مارت سكورسيزي، وودي ألن، سندي بولاك/ لارس فون تريي، فيم فندرز، جان لوك غودار.. لم اذهب إلى مدرسة للسينما. لقد كنت محظوظا بما فيه الكفاية للعمل في فترة شبابي كمساعد في أفلام بازولينيPasolini ، وهكذا تعلمت الإخراج. لعدة سنوات كنت جد فخور لغياب هذا التدريب النظري، ولكن مازلت أعتقد أن أفضل مدرسة هي موقع التصوير. ثم مرة أخرى أدرك أن هذه الفرصة لا تتوفر للجميع. هناك نقطة أخرى، حسب رأيي، لتعلم صناعة الأفلام، لا تحتاج فقط إلى صنع أفلام، ولكن تحتاج أيضا لمشاهدة أكبر عدد ممكن. هذان الاعتباران هما على القدر نفسه من الأهمية، ولهذا السبب الوحيد ربما سوف أنصح الطلاب من أجله ارتياد مدرسة للسينما اليوم. فهي فرصة لاكتشاف جميع أنواع الأفلام التي لن تستطيع مشاهدتها أبدا بدور العرض. ولكن إذا كان هناك شخص يريد أن يسألني أن أُدرس الإخراج، بصراحة سأكون في حيرة. لا أعتقد أنني سوف أعرف من أين أبدأ، سوف أكون ربما سعيدا فقط بعرض الأفلام. والفيلم الذي سوف أختاره دون الآخرين هو بالتأكيد La règle du jeu للمخرج الفرنسي جان رنوار Jean Renoir. سوف أظهر للطلاب كيف نجح رنوار في هذا الفيلم في بناء جسر بين الانطباعية impressionnisme التي هي فن والده، والسينما التي هي فنه الخاص. سأحاول أن أثبت كيف أن هذا الفيلم حقق الهدف الذي يجب على كل فيلم محاولة تحقيقه: نقلنا إلى مكان مختلف. أترك الباب مفتوحا لقد اتيحت لي الفرصة للقاء جون رنوار بلوس أنجلس في السبعينات. كان يناهز الثمانينات من عمره، وكان يستعمل كرسيا متحركا. تجاذبنا أطراف الحديث لمدة ساعة، ولقد كنت مندهشا من اكتشاف أن أفكاره حول السينما كانت نفسها الأفكار التي اعتقدنا أننا اكتشفناها مع الموجة الجديدة La nouvelle vague، باستثناء أنه كانت لديه هذه الأفكار قبل ثلاثين سنة. في مرحلة ما من لقائنا، قال لي شيئا كان له وقع عميق على نفسي والذي أعتبره أعظم درس تعلمته على الإطلاق حول الإخراج. قال لي « يجب عليك دائما أن تترك باب التصوير مفتوحا لأنه لن تعرف أبدا ما الذي يمكن أن يحدث. ما يعنيه بهذا، بطبيعة الحال، هو أنه يجب عليك أن تعرف كيف تترك مجالا للأشياء المخفية، الغير متوقعة والتلقائية لأن هذه الأشياء هي التي غالبا ما تخلق سحر السينما. في أفلامي أترك دائما الباب مفتوحا للسماح للحياة بالدخول لموقع التصوير. والمفارقة أنه لهذا السبب أشتغل بسيناريوهات مهيكلة. إذا كانت لدي وضعية جيدة للعمل، أشعر براحة أكثر حيال الارتجال. بالنسبة لي، الهدف من الأشياء الغير المتوقعة هو شكلها في وضعية، على المستوى النظري، كل شيء فيها مخطط له. على سبيل المثال، إذا قمت بتصوير مشهد خارجي في وضح النهار، ثم تحرك السحاب أمام الشمس في منتصف اللقطة، وبدأ الضوء بالتغير بطريقة غير متوقعة، أعتبر نفسي في الجنة حينئذ. خصوصا، إذا استغرقت اللقطة وقتا أطول بما فيه الكفاية ليتحرك السحاب وترجع الشمس للظهور مجددا. أشياء مثل هذه رائعة لأنها تمثل أقصى درجات الارتجال. ولكن «ترك الباب مفتوحا» لا يخص فقط العناصر الخارجة عن موقع التصوير. لقد كتبت الشعر قبل أن أبدأ بصناعة الأفلام. في البداية كنت أعتبر الكاميرا كنوع آخر من الأقلام التي كنت أستعمل لكتابة القصائد. في ذهني كنت الوحيد الذي صنع الفيلم. كنت مؤلف الفيلم بالمعنى الدقيق للكلمة. ثم مع مرور الوقت، أدركت أن المخرج يمكن أن يعبر عن أوهامه وخياله بطريقة أفضل إذا كان قادرا على تحفيز إبداع الجميع من حوله. الفيلم هو مثل الوعاء الذي يجب أن تنصهر بداخله مختلف مواهب الطاقم. فشريط تسجيل الفيلم هو أكثر حساسية مما يعتقد الناس، فهو لا يسجل فقط ما يجري أمام الكاميرا، ولكن كل شيء يدور حولها. أحاول أن أحلم بلقطاتي بما أنني لم أتعلم الإخراج بطريقة نظرية، فإن مصطلح «نحو» «grammar" الفيلم لا يعني لي أي شيء. إضافة إلى ذلك، حسب تفكيري، إذا كان هذا النحو موجودا، فهو موجود لنتحداه. بهذه الطريقة تتطور اللغة السينمائية. عندما صور Jean Luc Godard فيلمه «»حتى انقطاع النفس» «A bout de souffle»، كان نحوه الخاص هو « قوة القطع القافز» «Jump cut» والشيء المدهش هو أنه إذا ألقيت نظرة على أفلام جون فورد John Ford الأخيرة، «سبع نساء «Seven women»، ستلاحظ أن المخرج - واحد من أهم المخرجين التقليدين بهوليود- شاهد حتما « A bout de souffle» وبدأ باستخدام تقنية «jump cut"، الشيء الذي لا يمكن استيعابه عشر سنوات من قبل. لفترة طويلة وأنا أتعامل مع كل لقطة وكأنها اللقطة الأخيرة. كأن شخص ما سوف يأخذ مني الكاميرا بمجرد الانتهاء من التصوير بها. لهذا كان لدي شعور بأنني كنت أسرق كل لقطة، وفي هذه الحالة الذهنية من المستحيل التفكيرعلى ضوء «النحو» أوحتى المنطق. وحتى اليوم، لا أهيئ أي شيء مسبقا. في الواقع، أحاول أن أحلم أثناء نومي باللقطات التي سوف أصورها في اليوم التالي بموقع التصوير. مع القليل من الحظ أستطيع القيام بذلك. وإلا عند وصولي الى موقع التصوير، أطلب أن أترك لوحدي للحظة، أتجول حوالي موقع التصوير حاملا معي عدسة الكاميرا أنظر عبرها محاولا تخيل الشخصيات تتحرك وتردد حواراتها. الأمر يشبه تقريبا وكأن المشهد موجود هناك، غير مرئي وغير محسوس، وأنا أحاول البحث عنه و إعطاءه الحياة. بعد ذلك أجلب الكاميرا، أنادي على الممثلين و أحاول أن أرى إن كان ما تخيلته يمكن أن ينجح في الواقع. ما تبقى هو عملية صقل طويلة بين الكاميرا، الممثلين والضوء. لهذا، هذا نوع من عملية مستمرة التي أحاول من خلالها أن أتأكد أن كل لقطة تكون رافعة للقطة التالية. التواصل يحدث قبل الفيلم التواصل عامل حيوي لتسيير سلس لموقع التصوير. يجب بناء هذا التواصل قبل التصوير لأنه سوف يكون تقريبا قد فات الأوان داخل موقع التصوير. على سبيل المثال، عندما قررت تصوير فيلم Last Tango in Paris، أخدت Vittorio Storaro لرؤية معرض ل Francis Bacon بالقصر الكبير بباريس. أريته اللوحات، وشرحت له أنه هذا هو نوع الأشياء التي أريد أن أستخدمها كمصدر إلهام لي. إذا رأيت النسخة النهائية للفيلم، هناك أشكال برتقالية تظهر في الفيلم. فهي تأثير مباشر لفرانسيس بيكون. بعد ذلك أخذت Marlon Brando لرؤية نفس المعرض، وأريته نفس اللوحات التي تراها في بداية الفيلم أثناء ظهور العناوين. إنه بورتريه يبدو رمزيا figurative عندما تراه للمرة الأولى. لكن إذا أمعنت النظر فيه لبعض الوقت، سيفقد جانبه الطبيعي بشكل كامل وسيصبح تعبيرا لما يجري داخل العقل الباطن للرسام. قلت لمارلون « أرأيت هذه اللوحة؟ حسنا، أريد منك أن تعيد خلق نفس الألم الحاد». لقد كان هذا تقريبا التوجيه الوحيد -أو بالأحرى، التوجيه الأساسي- الذي أعطيته له في الفيلم. عادة ما أستخدم اللوحات على هذا الشكل لأنها تسمح لك بالتواصل بفعالية أكثر من مئات الكلمات. أنا مهووس بالكاميرا الكاميرا حاضرة جدا في أفلامي- في الواقع حاضرة أكثر من اللزوم أحيانا. لكن لا أستطيع السيطرة على هذا. أنا حقا مهووس بجسد الكاميرا، وفوق كل شيء، بعين الكاميرا. وهذا ما يحكم طريقة إخراجي، إلى درجة أن الكاميرا تتحرك معظم الوقت - وفي أفلامي الأخيرة تتحرك أكثر. تدخل وتخرج الكاميرا إلى المشهد كأنها شخصية غير مرئية في القصة. لا أستطيع مقاومة إغراء تحريك الكاميرا. وأعتقد أن هذا يأتي من الرغبة في الحصول على علاقة حسية مع الشخصيات، على أمل أن يتحول ذلك فيما بعد إلى علاقة حسية بين الشخصيات. وفي مرحلة تحليل نفسي لحياتي، كنت أعتقد أن «التعقب الداخلي» « tracking in» هو حركة الطفل الذي يجري في اتجاه أمه، في حين أن «التعقب الخارجي « tracking out» كان العكس، حركة الطفل محاولا الهروب. على أي حال، تبقى الكاميرا محور الاهتمام داخل موقع التصوير. لهذا السبب، أحتاج لبناء تواصل مسبق مع الممثلين والتقنيين من أجل تكريس جل وقتي داخل موقع التصوير لتحريك الكاميرا واختبار العدسات. نادرا ما أستخدم «الزوم» zoom». أنا لا أعرف لماذا، ولكن أجد أن هناك شيئا مزيفا في حركة الزوم. أتذكر في أحد الأيام في موقع تصوير فيلم The spider Stratagem، شعرت بحاجة لإستخدام «الزوم» من أجل التغيير. قضيت ساعة وأنا ألعب به، تقريبا إلى درجة الغثيان. قمت بإزالته وقلت إنني لا أريد أن أرى هذا النوع من العدسات مجددا. هذه الأيام، علاقتي أكثر تسامحا مع «الزوم». أستخدمه بطريقة بسيطة جدا، تقريبا بطريقة وظيفية. لكن لعدة سنوات، وأنا أنظر إليه كأداة للشيطان. اِبحث عن سر الممثل أعتقد أن السر للعمل بشكل جيد هو أن تعرف أولا كيف تختار الممثل أو الممثلة. وللنجاح في ذلك، عليك نسيان لثانية الشخصية التي في السيناريو ورؤية إذا كان الشخص الذي أمامك يثير اهتمامك أم لا. هذا جد مهم لأنه، أثناء التصوير، الفضول الذي تشعر به لهذا الممثل هو الذي سوف يقودك لاكتشاف الشخصية في القصة. أحيانا تختار ممثلا (أو ممثلة) لأنه يبدو مناسبا تماما للشخصية المكتوبة، ولكن تدرك في نهاية المطاف أن هذا ليس مثيرا جدا للاهتمام، أنه لا يوجد سر. و القوة الدافعة وراء أي فيلم، هي أولا وقبل كل شيء، الفضول: رغبة المخرج في اكتشاف سر كل شخصية. أما بالنسبة الى إدارة الممثل، أود أن أقول إنني أحاول دائما تطبيق قواعد سينما الواقع على عالم الخيال. على سبيل المثال، في مشهد من فيلم The last Tango يظهر مارلون براندو مستلقيا على سريره ويحكي لماريا عن أشياء عن ماضيه. إنه براندو الذي فعل كل هذا. لقد قلت له «سوف تطرح عليك أسئلة، أجب عليها كيفما شئت». بدأ بوصف كل تلك الأشياء المزعجة، وأنا كمخرج، كنت مثل الجمهور - بعبارة أخرى، لم أتمكن من معرفة ما إذا كان يكذب أو يقول الحقيقة. ولكن هذا هو الهدف وراء الارتجال: محاولة ملامسة الحقيقة وإظهار أن شيئا جد حقيقي قد يكون مخفيا وراء قناع الشخصية. في الواقع، هذا من بين الأشياء الأولى التي قلتها لبراندو. قلت له أريد أن ينزع عنه قناع ستوديو الممثل Actor Studio، أنني أريد أن أرى ما وراء هذا القناع. التقينا مرة أخرى بعد بضع سنوات، تجاذبنا أطراف الحديث، وبعد حين قال لي، مع ابتسامة ماكرة «إذا، أنت تعتقد حقا أنني أريتك شخصيتي الحقيقية في ذلك الفيلم؟» أنا لا أعرف إن كان قد فعل ذلك أم لا، ولكن هذا هو الشيء الرائع. ماهي السينما؟ على ما يبدو الفيلم هو عرض لفكرة على شكل مجموعة من الصور. ولكن، السينما كانت دائما بالنسبة لي طريقة لاكتشاف شيء شخصي أكثر وشيء أكثر تجريدا. في نهاية المطاف تبقي أفلامي مختلفة جدا عما تخيلته أصلا.. لذلك، إنها عملية تدريجية. غالبا ما أقارن الفيلم بسفينة القراصنة. من المستحيل معرفة أين ستحط السفينة إذا تركتها حرة لتتبع رياح الإبداع. خصوصا مع شخص مثلي، الذي يحب الإبحار في الاتجاه المعاكس. في الواقع، كان هناك وقت حين كنت أعتقد أن التناقض يشكل أساس كل شيء، أنه هو القوة الدافعة وراء كل فيلم. وهكذا أنجزت 1900 فيلم حول ولادة الاشتراكية الممولة بالدولارات الأمريكية. في هذا الفيلم خلطت بين ممثلين من هوليود و فلاحين من Po Valley الذين لم يسبق لهم رؤية كاميرا من قبل. لقد كان هذا مسليا جدا بالنسبة لي. عندما بدأت بصناعة الأفلام في الستينات، كان هناك شيء يسميه المخرجون بسؤال بازان «the Bazin question»: ما هي السينما؟ لقد كان نوعا من التساؤل الدائم الذي انتهى ليصبح فيما بعد موضوعا لكل فيلم. ثم بعد ذلك، توقفنا عن طرح هذا السؤال لأن الأشياء تغيرت. على أي، لدي شعور بأن السينما تمر حاليا بتغييرات كبيرة مما يفقدها الكثير من تفردها وأن سؤال بازان عاد للواجهة من جديد وأننا يجب أن نبدأ مرة أخرى في التساؤل حول ماهية السينما. أستاذ اللغة الإنجليزية وطالب باحث مهتم بعلاقة الأدب والسينما