هذا الدرس هو تركيبة لمقالتين كنت قد قرأتهما في مجلة «الاسبريس» الفرنسية. ونظرا لأهميتهما، فقد قمت بترجمتهما بتصرف، حتى أقرب القارىء العربي عموما والسينيفلي على وجه الخصوص من فلسفة الإخراج عند ايقونة السينما الأمريكية وودي آلن الإخراج ملكة وليس تقنية: لم تكن لدي قط الرغبة يوما ما في تدريس السينما، وعلاوة على ذلك لم يقترح علي أحد ذلك. حدث ذلك مرة حين طلب مني «سبايك لي» الذي ُيدرس بجامعة هافارد الحضور للتحدث إلى طلابه. قبلت الدعوة عن طيب خاطر، ولكن المشكلة بصراحة هي أني لم أكن أعرف ما الذي سأقوله لهم دون أن أحبطهم، لأن الإخراج في نظري كما هو الشأن بالنسبة للكتابة موهبة. إذا لم تكن موهوبا فلن تكون أفضل مخرج ولو درست حياتك كلها. وإذا كنت تملكها فإنك ستتعلم بسرعة كيف توظف بعض الأدوات التي أنت بحاجة إليها. وعلى أي حال فإن التمكن من المهارة التقنية ليس أهم عنصر في نجاح مؤلف ما، بل هناك بالأحرى عناصر أخرى كالتوازن النفسي والانضباط. وكثير من المؤلفين الموهوبين يتركون أنفسهم عرضة لتعصبهم وشكوكهم وانهيارهم أو يستسلمون للكسل. وهنا يكمن الخطر الحقيقي، إذ لا يمكن البدء في الكتابة أو الإخراج قبل السيطرة على هذه العناصر ودراستها. وللعودة إلى الدرس الذي طلبه مني سبايك لي، أتذكر أن الطلبة طرحوا علي العديد من الأسئلة من قبيل: «كيف عرفتم في فيلم « آني هال» أنه بإمكانكم التوجه إلى الجمهور وأنتم تنظرون إلى الكاميرا مباشرة». كل ما استطعت أن أقوله لهم هو أن غريزتي هي من أملت علي ذلك. وهذا هو الدرس الأساسي الذي استخلصته من كل ما تعلمته في مجال السينما. ليس الإخراج شيئا غامضا أو معقدا. يجب ألا يخيفنا وألا نجعل منه مسارا فكريا بشكل مفرط. يكفي أن تتبع غرائزك، ومن هنا إذا كانت لديك موهبة فإن الأمر سيهون عليك، و في حال عدم توفرها فسيكون ذلك بكل بساطة مستحيلا. إن المخرج يصنع فيلمه لنفسه أولا. أعتقد أن هناك صنفين من المخرجين مختلفين تماما: صنف يكتب سيناريوهاته بنفسه وصنف آخر ينجز أفلامه انطلاقا من سيناريو شخص آخر. ومع استثناءات قليلة جدا، لا يمكن الانتماء إلى الفئتين معا، على الأقل ليس بنفس النجاح. وعلى أي حال لا يجب أن يفهم من هذا أن صنفا أفضل من آخر أو أن مخرجا أكثر إثارة من آخر. بكل بساطة، إنهما صنفان مختلفان وأفلامهما كذلك. من الواضح أن المخرج حين يكون في الآن ذاته مؤلفا فإن أسلوبه يكون مميزا أو على الأقل أكثر اتساقا. يميل أن تكون له « انفعالات لا إرادية» خاصة في الإخراج، وينحاز عموما إلى نفس التيمات، ويجعل الجمهور عبر كل أفلامه في احتكاك مباشر مع شخصيته. في المقابل، فإن المخرج الذي يقتبس كل مرة من كاتب مختلف يستطيع أن يخرج أفلاما أكثر إبهارا من الناحية البصرية، وعادة ما يكون الأمر كذلك. ولكن هذه الافلام لا تمتلك القيمة الشخصية التي تتوفر عليها أفلام المؤلفين. أعتقد أن المخرج يصنع فيلمه لنفسه أولا، وعليه أن يتأكد من أن الفيلم فيلمه من البداية إلى النهاية، بالرغم من بعض الصعوبات التي يمكن أن تعترضه. يجب عليه أن يكون وأن يبقى سيدا مطلقا على فيلمه. فحين يتحول إلى خادم فإنه يخسر كل شيء. حين أقول يجب أن يكون الفيلم ملكا للمخرج فهذا ليس انتقاصا من الجمهور، ولكني أعتقد أنك حين تصنع فيلما يعجبك وتتقنه جيدا فإنه بدون شك سيعجب الجمهور أيضا، أو على الأقل جزءا من الجمهور. غير أنك ستبدو سخيفا إن كنت تحاول إرضاء الجمهور. وإذا كنت تبحث عن بذلك فمن الأفضل أن تترك الجمهور يأتي إلى الأستوديو وينجز الفيلم مكانك. حين أصل إلى مكان التصوير لا أعرف مسبقا كيف سأصور. كل مخرج له طريقته الخاصة في الاشتغال. أعرف أن العديد من المخرجين يصلون في الصباح إلى مكان التصوير وهم على دراية تامة بما سيصورنه. أحيانا يعرفون ذلك قبل بداية التصوير بأسابيع عدة، ويكونون قد تخيلوا كل شيء أو قاموا برسمه على شكل قصص مصورة، وبالتالي يعرفون بسرعة أين سيضعون الكاميرا وأي نوع من العدسات سيستعملون وكم من لقطة سيتطلبها كل مشهد. لا أحبذ هذه الطريقة تماما. حين أصل إلى بلاطو التصوير في الصباح، لا تكون لدي أدنى فكرة عن الطريقة التي سأصور بها الأشياء، بل لا أشغل تفكيري بذلك كثيرا. أحب أن أصل إلى مكان التصوير خال من كل حكم مسبق. علاوة على ذلك، أفضل في غالب الأحيان ألا أزور مسبقا الديكورات التي سأصور فيها. ولهذا عندما أصل إليها، أجد أن كل شيء جديد بالنسبة لي، وأتركني فورا أنساق مع ما أشعر به ومع انطباعاتي الآنية، قبل أن أتخذ قراري. أعترف أنها ليست طريقة مستحسنة في العمل، ولكنها تجعلني أشعر بنوع من الارتياح. أعرف أن قليلا من المنتجين المغامرين سيقبلون من المخرج الاشتغال بهذه الطريقة، ولذلك أشعر بأني محظوظ جدا. وبالعودة إلى الجانب التقني، فإني لا أنهج نفس الطريقة التي يشتغل بها معظم المخرجين. عموما هم يأتون أولا بالممثلين إلى بلاطو التصوير و يمرنونهم كثيرا واستنادا إلى ذلك يقررون التأطير المناسب. أما أنا فأضع الكاميرا أولا وأحدد الإطار المناسب ثم أطلب من الممثلين أن يأخذوا أماكنهم وأن يتحركوا وفق هذا الإطار. أقول لهم مثلا: كونوا هنا حين ستقولون كذا واذهبوا بعد ذلك إلى هناك. يمكنكم المكوث لهنيهة، ولكن أريدكم أن تكونوا هنا بعد أن تقولوا حواراتكم. يشبه هذا الإخراج قليلا الإخراج المسرحي، كما أن التأطير الذي حددته يشبه نوعا ما إطار الخشبة. وفي المقابل، أنا لا أحب كثيرا تقطيع المشهد إلى مجموعة من اللقطات. أحاول أن أصوره بأقل عدد ممكن من اللقطات، كما أني لا أصور أبدا نفس اللقطة من زاويتين مختلفتين. وعندما أنتقل من لقطة إلى أخرى، أبدأ اللقطة الثانية من حيث انتهت الأولى بالضبط. والسبب الأول هو أني كسول أو ربما متعال للقيام بذلك دون أحذ الاحتياطات. السبب الثاني هو أني لا أحب أن ُيعيد الممثلون تمثيل نفس المشهد عشرات المرات. هذه الطريقة تمكنهم، ليس فقط، من أن يبقوا عفويين ولكن أيضا أن يجربوا أشياء أخرى وأن يلعبوا نفس المشهد بنبرة مختلفة دون التخوف من الروابط «les raccords « أو الكيفية التي سيصوروا بها من زاوية أخرى. اللقطة المتتالية: أصور باللقطة المتتالية كلما سنحت لي الفرصة بذلك، كما هو الشأن هنا بالنسبة للمشاهد في شقة الزوج ناعومي واتس وجوش برولين. إنها أكثر إثارة من تراكم الحقول والحقول المضادة. الممثلون يفضلون ذلك لأنهم يؤدون أدوارهم و حواراتهم بدون توقف. غير أن هذا الأمر يتطلب الكثير من الممارسة. عند تصوير اللقطة المتتالية أوظف عموما اللقطات التي أصورها في المحاولة الثانية أو الثالثة، علما أني أعرف أن الأمور تبدأ في التحسن انطلاقا من المحاولة السادسة. كان الهدف من ذلك هو جعل شقة نعومي وجوش فيها حياة وليس جمودا. بطبيعة الحال، فإنه من المستحيل تعميم هذه الطريقة، ولكي ننجح في ذلك لا بد أن أن يتطلب الحدث حركة وأن يكون الممثلون في تحرك مستمر. تطلب منا تصوير بعض المشاهد الرجوع إلى الإخراج الكلاسيكي المتعارف عليه. مثلا، حين كان انطوني هوبكنس وجيما يتبادلان الحديث حول المائدة، كان لزاما علي أن أصور الأول ثم الثاني وأن أوضبهما بطريقة كلاسيكية. إن الحل في النهاية هم الممثلون، لأنه يجب عليهم أن يحتلوا الفضاء دون أن يفقدوا شخصياتهم في الطريق. ولهذا السبب أحدد مسبقا مكان الكاميرا قبل تحديد مكان الممثلين. إن الإطار هو من يملي علي الطريقة التي يجب اتباعها وليس العكس. إذا تركت الممثلين يقررون مكانك سيتيهون في كل الاتجاهات. وحين لا يحس بعضهم بالمكان الذي أحدده له، أحاول أن أجد معه حلا آخر. ولكن في غالب الأحيان يكون الممثلون جالسون في استيديو التصوير، يأكلون ويدخنون السجائر ثم يطلبون منك» ما الذي علينا فعله؟ وأقول لهم: مروا من هنا ثم توقفوا وقلوا حواركم. إنهم يقبلون ذلك بكل لطف. ليست إدارة الممثلين معقدة كثيرا (يضحك). أسلوب الإخراج في الفيلم الكوميدي: يفرض الضحك إخراجا «فضائيا». فالكوميديا جنس خاص لأنه يفرض أسلوبا إخراجيا صارما أكثر من أي جنس آخر. في الواقع هناك معطى أساسي لا محيد عنه في الكوميديا وهو الضحك. لا شيء يمكن أن يرفه عن المشاهد أكثر من الأشياء التي تضحكه. حين تحرك الكاميرا كثيرا وحين تقطع كثيرا خلال اللقطة المكبرة، فإنك تخاطر كل مرة بترك التأثير جانبا. الكوميديا لا تسمح حقا بإنجاز إبداع متخيل بل تفرض بالأحرى الواقع. الوضع المثالي هو أن يكون الإطار شاملا وتابثا، مثل إطارات شارلي شابلن وبوستر كيتون، حيث نرى بوضوح ما يقوم به الممثلون، ولذا يجب تجنب القطع كثيرا حتى لا ينكسر الإيقاع الذي يتأسس عليه كل شيء. إن الأمر مرتبض بالتفضية، ومن الواضح أنه أمر محبط على الأقل بالنسبة لي. ولهذا السبب أنجز أحيانا أفلاما درامية حتى أتمكن من أن أحرر كل رغبات الإخراج التي كبحتها الكوميديا. وبطبيعة الحال فكل مخرج يجد طريقته الخاصة في اللالتفاف على القواعد لأنها جامدة. بما أنني مثلا لا أحب أن أُقطع مشاهدي فإني ألجأ لاستعمال الزوم. هكذا يمكنني أثناء المهشد أن أقرب وجها للحصول على لقطة مكبرة أو الرجوع إلى الوراء للحصول على لقطة شاملة أو متوسطة إلخ... وبهذه الطريقة يمكنني أن أقوم بالتقطيع الفني مباشرة وليس أثناء المونطاج. يمكنني أيضا أن أختار تحريك الكاميرا إلى الأمام أو إلى الخلف بدلا من الزوم، ولكن كلا الأمرين يختلفان. لأنه بكل بساطة ليس هناك دائما فضاءا واسعا، ثم لأن حركة الزوم لها جانب وظيفي محض، في حين أن تحريك الكاميرا نفسها يمكن أن يضفي على اللقطة نوعا من التركيز وقيمة عاطفية إضافية، وهي أشياء غير مرغوب فيها دائما. أحيانا تقترب من شيء لتظهره فقط، ليس من أجل أن تظهره وأنت تصيح: «انظروا!» ولكن حركات الكاميرا تميل لخلق هذا التأثير تكسير القواعد: صحيح أن القواعد وضعت ليتم كسرها، ولكن من المهم جدا أن نعرف كم هي جامدة قواعد الكوميديا. أعتقد أنه من الضروري عدم التوقف عن التجريب. فقبل أن أخرج فيلم» Zelig» مثلا، لم أكن أظن أنه بإمكننا زرع الحياة في شخصية ما انطلاقا من صورها الفوتوغرافية، أو من خلال صورة وجيزة أخذت لها خلسة حيث نراها تخرج من السيارة أو تدخل إلى عمارة، أو أن نجعل قصتها تحكى من طرف شخص آخر. باختصار لم أكن أتوقع أبدا بأنه يمكنني إنجاز فيلم شخصي باستعمال شكل الفيلم الوثائقي. ومع ذلك نجحت في ذلك. لا أقول بأنه يجب علينا أن نكرر هذا باستمرار، وعلى كل حال فقد تأكد أن ذلك ممكنا، إنه حقا أمر مشجع. غير أن الطريقة التي صور بها فيلم «أزواج زوجات» هي عكس ما قلته تماما عن الأسلوب البصري للكوميديا. علاوة على ذلك، كثير من الناس انتقدوني لأني صورت هذا الفيلم بكاميرا محمولة على الكتف وبعصبية كبيرة مع ضبط الصورة بشكل عفوي و إعتماد القطع الحاد. وقد قيل بأن الأمر كان مبالغ فيه كثيرا، ولكني أعتقد بصراحة بأن هذا الفيلم هو الذي استعملت فيه حركات الكاميرا بطريقة ناجحة جدا، أو على الأقل بالطريقة الأنسب. ليست حركة الكاميرا بالنسبة لكثير من المخرجين سوى مجرد أداة تستعمل من أجل المتعة. إنها مثل لعبة تجعل الأشياء جميلة، ولكنها تفرض علينا أن نستعملها بحذر حتى لا نفسد اللذة التي تمنحها. شخصيا أخذت كل الوقت الكافي قبل أن أحرك الكاميرا. ويعود هذا إلى سببين، أولهما أني كنت في البداية أفتقد إلى الخبرة، وثانيهما أني اشتغلت فيما بعد مع غوردون ويليس وهو مدير تصوير استثنائي، وقع على فيلم "العراب" وأفلام أخرى. ومن خاصية هذا المصور السينمائي أنه يستطيع إضاءة المشاهد بطريقة نادرا ما تسمح لك بأدنى تحرك. لقد بدأت استعمل حركات الكاميرا بشكل خاص منذ أن اشتغلت مع كارلو دي بالما. وبدأ الأمر يتطور شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى ذروته في فيلم" أزواج وزوجات". ما يعجبني في هذا الفيلم، الذي أفتخر به كثيرا، هو أنه، لأول مرة، لم يعد الدافع من وراء حركات الكاميرا هو المتعة البصرية للمخرج ولكن القصة في حد ذاتها. لأن الحركات تعكس الحالة الفوضوية والهلامية للشخصيات، وتصبح أيضا جزءا لا يتجزأ من هذه الشخصيات. ممثلون في حركة: حين بدأت أمارس الإخراج لم أكن أعرف جيدا ما الذي أريده. كنت مهووسا بشيء واحد فقط هو أن تكون الدعابة التي كتبتها مضحكة. كان لقائي مع المصور السينمائي جوردون ويليس في فيلم «آني هول» حاسما. كشف لي عن كل الإمكانيات التي يمكن للكاميرا أن تقوم بها ، ونفس الشيء بالنسبة للإضاءة وحركات الممثلين. لقد تعاونا كثيرا لمدة عشر سنوات. طريقتنا في الإخراج تأسست على مبدأ بسيط : «حين يتحرك الممثلون تتبعهم الكاميرا» واستمر الأمر على هذا الحال إلى اليوم الذي كنت فيه مضطرا تغيير المصور، لأن جوردن أصبح منشغلا كثيرا. عوضته بكارلو دي بالما واكتشفنا معا أشياء جديدة مع الكاميرا. في هذه المرة لم تعد المسألة متعلقة بمرافقة الممثلين جسديا داخل الإطار ولكن حاولنا مصاحبتهما ذهنيا وترجمة لاوعييهم إلى صور. كل حركة بانورامية أو ترافلينغ كانت لها دلالة محددة وتحيلنا إلى سمات شخصية ما. في فيلم « أزواج وزوجات» كان إطاري هو مرجعي المطلق، وكان على الجميع أن يمتثل لذلك. شعرت بحرية مطلقة بحيث كان يمكنني أن أقطع وسط المشهد إن أردت ذلك. كانت كل حركة مفكر فيها مسبقا. عموما، أحب أن تكون الأشياء التي تتحرك داخل الإطار في دينامية وتحرك مستمر. أطلب من الممثلين أن يكونوا دائمي الحركة. وحين لا يكونون مقنعين أضطر لتكييف أسلوب إخراجي، مع أني أكره ذلك. ولهذا السبب أختار الممثلين الذين أكون مقتنعا بمهاراتهم. عادة ما يسألونني عن سري في إدارة الممثلين، وغالبا ما يعتقدون أني أمزح حين أقول لهم: يكفيك أن تختار أشخاصا موهوبين وأن تتركهم يشتغلون. أن تُوجه الممثل جيدا هي أن تتركه يقوم بعمله. بعض المخرجين يبالغون أحيانا في إدارة الممثل، وهذا الأخير يرغب في ذلك كثيرا، يحب الدخول في دوامة من النقاش حول دوره والحديث عن المسار الإبداعي للشخصية، وغالبا ما ينتهى به المطاف في أن يفقد طبيعته وعفويته. العثور على الكلمات المناسبة: حين أنتهي من كتابة السيناريو أعطيه لمديرتي المكلفة باختيار الممثلين (الكاستينغ) التي تقترح علي فيما بعد العديد من الإمكانيات لتوزيع الأدوار. وتبعا لما يتلاءم مع رأيي نشتغل عليه. يحدث أحيانا ألا أعرف الممثل الذي تحدثني عنه، وفي هذه الحالة ننظم لقاءات معه. هكذا تعرفت على لوسي بونش التي أدت دور الشابة صديقة وفاتنة أنتوني هوبكنز الذي أصيب بشيطان الظهيرة. كنا، أنا وزوجتي، مندهشين من ذكائها وطاقتها. كانت الفكرة في كل مرة هي العثور على الشخص الذي سيفهم بسرعة تعقيدات الدور دون أن أكون مضطرا لشرحه له. أشخاص مثل سكارليت جوهانسن وناعومي ووتس وجون برولين يقرؤون السيناريو ويقولون لي: حسنا لقد فهمنا يمكنك الاتصال بنا حين تكون جاهزا. ولهذا السبب أتركهم يكيفون الحوار حسب مزاجهم. لنأخذ موقفا بسيطا: رجل يطلب من زوجته الطلاق. أقول للمثل هذا هو الموقف: «رجل تاجر يريد مغادرة رفيقته، عليك الآن أن تجعل هذا المشهد حيا». منذ هذه اللحظة يجب على الممثل أن يعبر ويعيش كتاجر بغض النظر عما إذا كان سيحترم النص أم لا. ولو كان الرجل مثلا رساما لكانت طريقة تعبيره وتحركاته مختلفة تماما. إن عمل الممثل يفرض عليه التأقلم. أنطوني هوبكنز ولوسي بونش لا ُيمنعان في ارتجال أسطر بكاملها من الحوار. ولكن إذا ما تبين لهم بأن حواراتي متقنة لا أمانع كذلك أن يحتفظوا بها كما هي. عموما هم دائما راضون عن كتابتي (يضحك) إعادة النظر في العمل: أحب أن ُيمتعني ويفاجئني الأشخاص الذين أشتغل معهم. لنأخذ نعومي ووتس، إنها فتاة مثيرة وتعرف جيدا كيف تؤدي أدوارا كوميدية. لفترة طويلة كنت أرغب في الاشتغال معها، وقد اتيحت لي الفرصة منذ سنوات ولكننا لم نتمكن من ذلك. قبل أن نلتقي في بلاطو التصوير في فيلم :» Vous allez rencontrer un bel et sombre inconnu" لم نكن نعرف بعضنا البعض، وأثناء التصوير قصدتني بابتسامتها الجميلة وقالت لي: "سعيدة بمقابلتك". بدت مرتاحة إلى درجة أننا لم نحتج إلى جولات تأمل للتعاون معا. كان أول مشهد علينا تصويره هو المشهد الأخير من الفيلم و كان قويا ومكثفا. في هذا المشهد تطلب الشخصية النقود من أمها التي ترفض مساعدتها. فبدأت تبكي وتصرخ. لم أناقشها من قبل عن هذا الدور.لعبت فقط أمامي وصورتها بكاميرتي. يسهل جدا العمل مع ممثلة كبيرة مثلها. عندما أكتب السيناريو أحاول ألا أستحضر في ذاكرتي أي اسم معين. مع أن هذا حدث لي حين كتبت أدوارا لديان كايتون أو ميا فراو. وعلى كل حال فغالبا ما يخطر ببالي الممثلون الموتى فأقول: " اوه، همفري بوغارت كان يمكنه أن يكون مثاليا لهذا الدور" (يضحك). أكتب سيناريوهاتي لوحدي وأختبر فعالياتها على نفسي. أصبحت كسولا لاختبارها على المتعاونين معي. من الناحية المثالية، يجب علي أن لا أفعل ذلك، ولكني أصبحت عجوزا ولا أطيق أحدا أن يشكك في عملي. أجيب الذين يقولون لي بأن مشهدا ما غير موفق: " بما أني كتبته إذا فهو مضحك". حين لا يكون شيء ما في محله أثناء التصوير فإني أعيد كتابته بسرعة وأحاول تصحيحه. أحيانا يكون السيناريو نفسه موضع شك وفي حالات أخرى يكون التمثيل. أشعر في بعض الأحيان أني عاجز على جعل الأمور تسير بشكل سلس، وفي هذه الحالة أطلب من مساعدي أن يمر مباشرة إلى شيء آخر أو أن يوقف التصوير. لا يجب أن نفعل هذا دائما، لأن يوما من التصوير يكلف المال الكثير. أخطاء عاشق: كل أفلامي صورت في المدن الكبرى: روما ولندن وباريسونيويورك... بكل بساطة لا أحب القرى والمدن الصغرى. ربما يتغير رأيي يوما ما. تلهمني التكثلات الكبرى كثيرا، ففيها يمكن أن يقع أي شيء في أية لحظة. إنها محفزة على الإبداع. أنا حضري والمدينة شخصية أساسية في كل أعمالي. لا أحب أن أصورها بطريقة وثائقية. العديد من الناس يؤاخذونني كثيرا كوني أقدم صورة مثالية عن مدينة نيويورك، ولكن المسألة مرتبطة بالتخييل أو الفانتاسم. بعض السينمائيين كسبايك لي ومارتن سكورسيزي أعطوها صورة أكثر واقعية. حين يرى باريسي فيلمي المطول» منتصف الليل في باريس» سيجدني بدون شك رومانسيا إلى أقصى حد.ومع ذلك حين أفكر في هذه المدينة أفكر في الحب، وباختصار في مجموعة من الكليشيهات التي لا أرغب في قمعها. تجد في كل أفلامي مجموعة من الأخطاء، ولكنها أخطاء عاشق متحمس. في النهاية كل فيلم مطول هو مجرد تخمينات تقريبية أراها بشيء من خيبة أمل. ولهذا السبب أستمر دون كلل في إنجاز الأفلام. أخطاء يجب تجاوزها: تمة أخطاء عديدة يجب على المخرج أن يتفاداها. أول خطأ يتبادر إلى ذهني الآن، هو أن لا يفعل أي شيء لا يتطابق تماما مع رؤيته للفيلم. يحدث في الغالب أن يخطر ببالك، وأنت في قلب التصوير، فكرة بارعة أو شيء جريء ترغب في تجريبه. ولكن، إذا لم يكن لهذا الشيء مكانه في الفيلم، فيجب أن تتحلى بالصدق والنزاهة لتتخلص منه. لا يعني هذا أن تكون متصلبا أو محدودا، بل على العكس من ذلك. فالفيلم يشبه النبتة، فبعد أن نزرع البذرة تبدأ في النمو ثم تكبر. والمخرج عليه أن يكبر بنفس الوثيرة إذا أراد أن يصل إلى النهاية. يجب أن يكون مستعدا في كل لحظة لكل التغييرات والتعديلات التي يمكن أن تطرأ، وأن ينفتح على وجهات نظر خارجية. حين نكتب نكون وحيدين في غرفتنا صحبة قلم وقطع ورق. يمكننا التحكم في كل شيء وإتقانه. ولكن الأمر يختلف حين نكون في بلاطو التصوير. نستمر في إدارة الأشياء لكننا بحاجة إلى الآخرين لمساعدتنا. يجب فهم هذا وتقبله وتقديره. يجب أن تعمل في حدود الإمكانات التي تتوفر لديك. فالصرامة مكسب ولكن التعنت غالبا ما يكون خطأ. أعتقد أنه من الخطأ جدا الشروع في فيلم بسيناريو ضعيف أو غير جاهز ثم تقول: «لا بأس، سأحل المشكل أثناء الإخراج». أتبثت لي التجربة أنك بسيناريو جيد وإخراج سيء، يمكن أن تحصل على نتيجة نهائية مشرفة نوعا ما، ولكن العكس لن يحدث أبدا. والخطأ الأخير الذي أحذر منه كل مخرج مبتدأ هو أن يعتقد يوما ما أنه قد فهم كل شيء. أصنع أفلاما إلى غاية هذا اليوم، وأتفاجأ وأندهش من الطريقة التي يتفاعل بها الجمهور معها. حين أظن أنهم سيحبون شخصية ما، اكتشف أنها متهورة وبغيضة، ويفضلون الشخصية التي كنت بالكاد قد فكرت فيها. وحين أظن أنهم سيضحكون من دعابة معينة يضحكون في الواقع من دعابة أخرى أقل مستوى من الأخريات. هذا الأمر محبط قليلا، ولكنه من ناحية أخرى مغر ومضحك جدا، وهذا ما يجعل هذه المهنة ساحرة. لو كنت قد فهمت كل شيء فعلا لتوقفت عن الأخراج منذ زمن بعيد. باحث في الصورة وفن الفيديو