لم أفاجأ قبل أيام وأنا أشاهد كيف انتفض وزير الصحة، منزعجا ومستاء، بل أشفقت عليه من نفسه، كيف لا وأنا «أعاين» كيف سارع البروفسور و»العميد» الحسين الوردي، لدحض أي تهمة قد تُلصق به، نتيجة لتصريح، قد يساء فهمه، فتتضرر بفعله علاقته مع زميله وزير الخارجية والتعاون، وهو الأمر الذي قد يترتب عنه تصدع بين أعضاء فريق بن كيران الحكومي، الذي يعاني في الأصل من هشاشة غير خافية على أحد، متشبثا ببراءته التامة، ومؤكدا بأنه لم يرم بلائمة تأخر هذه الوزارة في المصادقة على الاتفاقية الإطار بشأن مكافحة التبغ في مرمى مزوار! البروفسور الحسين الوردي الذي أصدرت وزارته بلاغا يثير الامتعاض، ويبعث على الأسى، الألم والأسف، بغاية تبرئة الذمة وإعلان حسن النية لا غير، عوض أن يكون إعلانا عن تحرك حكومي وشعبي، وبلاغا لدقّ ناقوس الخطر، والدعوة الفعلية للقطع مع التدخين في الأماكن العمومية، واتخاذ جملة من التدابير لصيانة حق دستوري يتمثل في الحق في الحياة. الوزير المحسوب على أهل مهنيي الصحة، الأدرى بطبيعة شعابنا التنفسية المختنقة، وبحجم العناء والألم في كل شهيق وزفير والمرارة لأجلهما المتكبدة، الوردي البروفسور العالم الواعي بتأثير التدخين، المباشر منه وغير الإرادي، المفروض قسرا على النساء والرجال، الرضع والأطفال، اليافعين، الشباب والشيب، في حافلات النقل العمومي، في المقاهي والمطاعم، في الفضاءات العامة و»المنتزهات»، في المدارس والجامعات ومختلف أنواع المؤسسات والإدارات، الذي ونتيجة له أصيب البعض بالربو، ونخر بفعله السرطان رئة آخرين، كثير منهم كان القبر مآلهم بعد معاناة، أنين وألم عضال، ورحلوا عن أسرهم ومحبيهم قبل الأوان؟ بلاغ الوردي الجامد اختار مهادنة زميله مزوار، ولم يكن حيّا ومتفاعلا، وكان من المحبط أن يتتبع الجميع كيف أنه خالف موعده مع التاريخ، وكيف جاء متخاذلا سمته الضعف، إذ أن إعلان حسن النوايا لم يسع لإيقاظ «ضمائر» أصابها التلف والخرف، ولم يكلف نفسه عناء حث مكونات حكومة بن كيران، التي هو عضو فيها، من أجل الدفع المستعجل لتدارك تأخر دام لحوالي 26 سنة، عن وضع المغرب لقانون حول مكافحة التدخين على الصعيد الإقليمي، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 4318 بتاريخ 2 غشت 1995برقم 15-91، والذي دخل حيز التطبيق بتاريخ 3 فبراير 1996، دون أن يصدر أي مرسوم تطبيقي من أجل تفعيله إلى غاية اليوم، شأنه في ذلك شأن الاتفاقية الإطار التي بدأ تنفيذها في 2005، والتي صادق عليها 180 بلدا، ضمنها دول منطقة شرق المتوسط، باستثناء المغرب، إضافة إلى الصومال؟ علما بأن الدراسات الوطنية بخصوص استهلاك التبغ في المغرب، أكدت أن نسبة المدخنين الذكور تصل إلى 31 في المئة، مقابل 2.3 في المئة في صفوف النساء، وبأن نسبة التدخين عند الأطفال المتمدرسين، الذين يتراوح سنهم ما بين 13 و15 سنة، تصل ٳلى 10% عند الذكور، و7%عند الإناث، هذه الآفة غير الصحية التي تتسبب في 8 في المئة من الوفيات العامة في المغرب، و75 في المئة من وفيات سرطان الرئة، إلى جانب 10 في المئة من وفيات أمراض الجهاز التنفسي، وهي المعدلات التي تفوق نسبيا مثيلاتها المسجّلة بمنطقة شرق المتوسط! التدخين الفعلي/العمدي واللااختياري هما معا تسببا في إصابة أجيال من المواطنين بسرطان الرئة الذي أضحى يكتشف عند المرضى/المدخنين في سن 32 سنة وليس 55 سنة ، كما كان الأمر في السابق، أخذا بعين الاعتبار أن 95 في المئة من المرضى المصابين بهذا الورم الخبيث بمصلحة أمراض الجهاز التنفسي بالمستشفى الجامعي بالدارالبيضاء هم من المدخنين، لأن التدخين يساهم في انتشار الداء وأمراض أخرى، بسبب المواد السامة الموجودة في التبغ، والتي يصل عددها إلى 4 آلاف مادة سامة، منها المواد المهيّجة أو ما يعرف بالفرنسية ب « irritants «، التي تتسبب في تدمير وسائل الدفاع التي خلقت معنا في الجسم، لتحمينا من الجزيئات والميكروبات التي تصل إلى القصبات الهوائية، ومن بينها الشعيرات التي توجد في القصبات الهوائية، وتؤدي إلى التهاب مزمن وتعفنات متكررة ومزمنة، التي تتسبب في قصور في التنفس، إلى جانب المواد المسرطنة، وثاني أوكسيد الكربون، الغاز السام، والنيكوتين الذي يسبب الإدمان، وغيرها. هذه الأمراض التي ترخي بثقلها المادي والمعنوي على المريض ومحيطه وعلى المجتمع ككل، بالنظر إلى أن فاتورة العلاج هي مكلّفة، ومع ذلك يظل دخان السجائر يتسلل إلى أنوف المواطنين، كبارا وصغارا، إناثا وذكورا، «أصحاء» ومعتلّين، كرها وقسرا، وبالرغم عن أنوف الجميع. مدخنون يستغلون الفراغ القانوني، ولا يثنيهم بالمقابل وازع أخلاقي، وضمير إنساني، في المستشفيات نفسها، وبمؤسسات العمل الخاصة وفي الإدارات العمومية، بداخل حافلة للنقل العمومي، وعلى متن سيارة أجرة، في الأسواق، و»الحدائق» وفضاءات ألعاب الأطفال، وفي كل مكان، مدخنون يقترفون جرائم التسبب في الأذى المادي والمعنوي، عن سبق إصرار وترصّد، دونما حساب أو عقاب! إنه الواقع الملوث الذي نعيش فيه جميعا، أو بمعنى أصح نموت وسط دخانه يوما عن يوم، فنحتضر بشكل جماعي ونحن تحت رحمة بعض منعدمي الضمير الذين ينفثون سموم سجائرهم أمام فلذات أكبادهم الرضع، فبالأحرى أمام غيرهم ممن تربطهم بهم علاقات الجوار والعمل و»الانتماء» لهذا الوطن، نستنشق كل هذه السموم من السجائر، والنرجيلة، ولفافات الشيرا، وغيرها من أشكال التدخين المشروع تحت أعين حكومتنا «الحريصة» و»الضامنة» لأمننا الصحي وسلامتنا وسلامة بيئتنا، التي انتفض وزير الصحة فيها، وأصدر بلاغا، ليس لحمايتنا نحن شعب هذا الوطن الذين نتوق لنسمة هواء خالية من النيكوتين، ومن بيننا أقارب له، ولكي تحسم الحكومة في التشريع الواقي لصحتنا جميعا، الذي من شأنه أن يعزز ويتماشى مع المجهودات التي تبذلها مؤسسة للاسلمى للوقاية وعلاج السرطان، المادية والمعنوية، لتقليص نسب الإصابة بالسرطانات ومن بينها سرطان الرئة الذي يتسبب فيه التدخين، لكن يبدو على أن هذا التوجه وخارطة الطريق الأميرية المسطرة في هذا الصدد، هي بعيدة كل البعد عن أجندة الحكومة التي لها نظرتها و»أولوياتها» المغايرة في مجال الصحة العامة؟