الضوء الآسر الذي يأتي من الخلف. الولع القديم بالقاعة المظلمة. غواية السينما التي جعلتنا شديدي الارتباط بالصور، وجعلتنا نحلم ونهزم الأشرار، كما ساعدتنا على مقاومة الضجر. في ذاكرة كل واحد منا فيلم شاهده وتأثر به، بل أصبح جزءاً رئيساً من كيانه الروحي والعاطفي. فيلم يقع خارج التقييم الفني، ولا يخضع إعجابنا به لأي منطق، لأن العلاقة معه مبنية على العاطفة أساسا.. في هذه السلسلة التي ننشرها، حكاية كاتب أو مثقف أو فنان مع الفيلم الذي كان له وقع عليه.. n الطاهر المحفوظي كغيري من اليافعين والشباب، تعرفت على السينما في القاعات في بداية الستينيات من القرن الماضي...كانت الأفلام أمريكية أو مصرية؛ ولم أنجذب ابدا للسينما الهندية، وكانت يومها جد رائجة.. في أواخر السبعينيات، التحقت بنادي العمل السينمائي؛ وهناك تعرفت على سينما المؤلف، وكذا على السينما السوفياتية والملتزمة. .. وخلال صبيحة يوم أحد، وبقاعة سينما الصحراء بالدارالبيضاء، شاهدنا شريط (كفر قاسم) تدور أحداثه أواسط الخمسينيات في قرية متواضعة بفلسطين المحتلة.. بالقرية مدرسة وجزار ومقهى ومسجد... والناس تمتهن الرعي والفلاحة، وكثير منهم يعمل كمياوم لدى الإسرائيليين في حقول البرتقال أو الخضروات.. كان المجتمع الفلسطيني ساعتها مثل كل الوطن العربي يعيش بداية دخول السيارة والمذياع، والنقاش السياسي الذي لا ينقطع وتشارك النسوة فيه أيضا .. في 23 يوليوز 1956 ؛ وكان السكان ينتظرون بفارغ الصبر خطاب جمال عبدالناصر. ألقى الزعيم المصري كلمة نارية وحماسية، هاجم فيها إسرائيل وأعلن فيها خصوصا تأميم قناة السويس...! استمع الرجال للخطاب في المقهى. أما النساء، فقد استمعن وتحمسن له في البيت... في القرية كان الشباب ناصريا أو شيوعيا...وكانوا ينتقدون السماسرة الذين يبيعون طحين الإعانة الأمريكية و الوساطة لشراء الأراضي واستغلال العمال... تبدأ الماساة حينما يخبر جيش الاحتلال المواطن مسعود بأنه ممنوع من حرث أرضه، ثم بعد مرور وقت قليل، سيتوصل برسالة تفيد بتأميم الأرض لأنه لم يحرثها ! في أحد الأيام، سرى خبر مجيء الإذاعة الإسرائيلية للقرية كالنار في الهشيم... اجتمع السكان، وتقدم مسعود، ليسلم على زوجته في لبنان أو الأردن أو سورية...! ثم تقدمت أم سعد لتخاطب في لوعة ابنها وتعاتبه لعدم اتصاله بها...ثم تنهار باكية... هي كانت تعلم أن سعد، المقاوم، قد استشهد. لكنها كانت توجه له التحية والسلام...وكان الكل ينهي كلمته باللازمة: نحن بخير طمنونا عنكم...! في29 شهر أكتوبر 1956 ، وعلى الساعة الرابعة والنصف، أعلن عن حظر التجول...من الخامسة مساء إلى السادسة صباحا. .. كان أزيد من أربعمائة نفر خارج القرية، وكان من المستحيل إخبارهم أو عودتهم قبل الوقت المحدد...! نصب أفراد من جيش الاحتلال حاجزا ثم أخدوا في قتل كل عائد لمسكنه، بدم بارد، بكل إصرار وترصد مبيت...لأن القرار اتخذته القيادة بوعي وتخطيط...كان الغرض منه الترويع والطرد والتهجير.. تجاوز عدد القتلى الخمسين، بينهم نساء.. اعتمد المخرج على قرية عادية، وقصة واقعية، لإظهار وحشية الاحتلال واستغلاله وحيله لنزع ملكية الأراضي، وفي الأخير قراره تخويف وتهجير السكان الأصليين. واكب الأحداث موال حزين، ثم بعض أغاني الفلكلور الشعبي الفلسطيني... ورغم أن العرف والقانون كان يحكم بثلاثين سنة سجنا على جريمة قتل، فإن الضباط القتلة تم الحكم عليهم بثلاث سنوات مع الاحتفاظ برتبهم وحقهم في العودة للجندية. .. إنها ديمقراطية إسرائيل ! وينتهي الشريط بنظرة متفائلة، حيث سيعمد أحدهم بزيادة التعريف لاسم مقهى محمود عودة ؛ لتصبح، مقهى العودة...!...مما سيعرضه للمساءلة، وإملاء شاب على صديق قصيدة محمود درويش: أنني مندوب جرح لا يساوم علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي ثم أمشي وأقاوم.