ظهرت في بداية السبعينيات بالمغرب بعض التوجهات الباحثة عن القطيعة مع إعادة انتاج نفس خيارات السينما المهيمنة انذاك، الهندية منها والمصرية على الاخص. وكان لشريط حميد بناني «وشمة» سنة 1970 شرف تدشين هذا الاتجاه. هذا الشريط الذي ظل الى بداية التسعينيات مرجعية للحديث عن المواصفات الحقيقية للفيلم الوطني، الى درجة اعتباره البداية الفعلية للسينما المغربية وبه لم تنته من بدايتها. الا ان هذا الشريط لم يكن الا اختيارا واحدا من ضمن عدة اختيارات اخرى تسلحت كلها بتوتر المرحلة السياسي، وزخم الافكار المتداولة لحظتها الاصيل منها والمستورد. من ثمة بات واضحا وجود تفاوتات في فهم مستويات القطيعة لدى المخرجين السينمائيين المغاربة، حيث رهن بعضهم خياره ضمن نسق السينما الشرقية - السوفياتية والبولونية - اعتقادا منهم أنه الخيار النموذجي للسينمات الهامشية. وتجارب سهيل بنبركة في أشرطته الاولى «ألف يد ويد» و «عرس الدم» مثال على ذلك. اي مثال على التجارب الباحثة عن القطيعة والمغايرة. الا ان عنف هذه القطيعة لن يتوج الا في حدود سنة 1975 بشريط «الشركي» او الصمت العنيف» لمومن السميحي. هذا الشريط الذي زعزع ثوابت الكتابة السينمائية بالمغرب بكتابة غير مألوفة ولا مشابهة لاي كتابة اخرى، وهو ما سيستمر مع شريطه الطويل الثاني «44 او أسطورة الليل» ليصل ذروة اللامهادنة مع شريطه «قفطان الحب»، وذلك قبل ان تتفتت رؤيته - الاصيلة - التي حاولت ان تقيم توازنا بين التقليد والحداثة تحت اقدام ابي الهول حينما اخرج من مصر شريطه الاخير «سيدة القاهرة» ليصمت بعدها أو ينسحب. لا يقل عنف هذا الصمت عن عنف صمت «عائشة» بطلة «الشركي» ليتوافق المتخيل والواقع. وليجعلنا نتساءل اليوم عن انكسار حلم فيلسوف السينما المغربية وانهزام تجربة القطيعة. خصوصا وان كل القرائن كانت تفيد بزهد مومن السميحي في انشغالاته، وبوعيه بشروط تداول سينما بديلة في المجتمع المغربي او العربي عموما، قياسا الى قوله «ان العالم العربي يتميز بثنائية متناقضة من حيث كونه انتج وطور وعمق مفهوم الجمالية، في وقت لا يعلم فيه الا القليل عن فن السينما الذي لا يتقنه ولا يتذوقه». تختزل هذه القولة حدود النزال الذي اراد له مومن السميحي ان يكون محتدما بين سينما مثقفة وواقع مستلب بدءا من اول شريط قصير له «السي موح المنحوس» وقبل ان يكتب صك براءة السينما المصرية - على حد تعبير الناقد المصري مجدي الطيب - شريط «سيدة القاهرة» والذي يعتبر اخر درج في سلم النزال. ليعلن الهدنة او المهادنة مع نفسه ومع واقع التلقي المغربي ويلوذ بالصمت. بكل تأكيد لن نستطيع معرفة الاسباب والدوافع. ولكن بامكاننا تجميع بعض الخيوط التي قد تحيلنا الى فهم قطيعته مع السينما بعد ان فشل في الانتصار الى سينما القطيعة: الاسس الفكرية للقطيعة تعتبر التركيبة النفسية لمومن السميحي التركيبة النموذجية لاندماج التقليد والحداثة. ليعيش تكوينا مزدوجا - كتكامل لا كتناقض كما يقول - مابين طفولة داخل «المسيد» وفي ظل اسرة مكونة من رجالات دين، وشباب يكتشف فيه عالم الفلسفة بشعبة الفلسفة بالرباط. حتى حينما التحق بالسينما - فهولم يلجها - فكريا - من باب السينما. بل من توطئة نظرية تجد فروعها ممتدة مابين تأثره بالادب الجاهلي، وابن خلدون، زفزاف، شكري.. و آخرين. تلك هي الشهادة التي اقر بها في مقال عنونه ب: «السينما والورثة» وهي شهادة طبيعية بالنسبة لمثقف عاش في مدينة طنجة المفتوحة على الكونية. لكن رغبة الكلام والمساهمة في خلق «لذة النص» لم تكن سوى انعكاس لتأثر السميحي بفكر «رولان بارت» بدليل قوله «لن اتابع ميدان السينما لو لم اكن قد التقيت برولان لارت. لان الجو الذي كان طاغيا بالمعهد جو تقني، والجميل في ملازمتي لدروس رولان بارت هو العثور عى الكتابة» لقد بدا - في منجزاته الفيلمية - واضحا مقدار تأثره ببارت وقراءاته «لكلود ليفي ستراوس» وللدروس المباشرة ل: «جاك لاكان» لان كتابته الابداعية، ارتبطت بالمغامرة و «رفض المسلمات ولو كانت بديهية» على حد تعبيره. لقد حاول مومن السميحي من خلال هذا الهوس النظري العميق، الرقي بالسينما الى مستوى الاجابة عن الاسئلة النفسية والاجتماعية للقضايا التي يتناولها من منظور فلسفي بحت مما جعل تجربته تتقاطع مع بعض التجارب السينمائية في ايطاليا وفرنسا في الستينات، وتقترب ايضا من تجربة «شادي عبد السلام» بمصر من زاوية الاشتغال على سينما متقدمة على مستوى الشكل وبانشغالات سوسيو ثقافية، وهو ما اعتبره البعض فعلا سينمائيا نخبويا لا يراعي شروط التداول بالمغرب. مابين القطيعة والتحايل تعتبر تجربة «الشركي» مثيرة حقا، فبعودته لطنجة كمدينة مسكونة بالدولية فيما بين 1954 و 1956 اراد ادانة المجتمع الابيسي واضاءة احد الجوانب من مكونات المجتمع المغربي من زاوية الانغلاق على مفاهيم معينة وذلك من خلال تقديم المصير المأساوي لامرأة يائسة - عائشة - تلتجئ الى الشعوذة لتصعد نحو نهايتها التراجيدية - الموت. نسج مومن السميحي داخل هذا الشريط حبكة من نسيج متعدد من الخطابات والتاريخي، التحليلي، المقدس.. بحثا كما يقول عن «تطوير كلام جمعي، كلام يتفرع في كل المعاني والدلالات، كانعكاس للتمزق الحاصل في وعينا الحاضر» لكن المنزلق الواضح يكمن في هيمنة الخطاب الاطوبيوغرافي عن الكلام الجمعي. وهي الهيمنة التي ستبدو اقل حدة في شريطه الثاني «44 أو اسطورة الليل» حيث تيمة الثقافي والتاريخي تنتمي الى كرونولوجية تشكل سردا تاريخيا مفعما بطرح الاسئلة الانتربولوجية عن الثقافة والذات المغربية. لكن مع شريطه الثالث «قفطان الحب» 1986 سيعتقد البعض ان تضخم الانا عند مومن السميحي وصل الى مداه. انتقل مومن السميحي في شريط «قفطان الحب» من حدود الشهادات التاريخية المؤثثة باحتفالية صورية خاصة الى العمل والبحث في مجال التراث، خصوصا وهو راسخ الاعتقاد «بامتلاكنا لتراث صوري بالمعنى الكلاسيكي لكنه تراث غير مدروس» «وبانه لا يوجد مشكل في العلاقة مع الصورة لان في الثقافة العربية كانت هذ العلاقة موجودة سواء كانت مجسدة او تجريدية». جاء - اذن - شريط «قفطان الحب» ليزيل الغبار عن المتن الشفوي من خلال قصة لمحمد المرابط حولها الكاتب «بول بولز» الى قصة بعنوان «المرآة المكسرة». اتكأ الشريط في حبكته على حلم البطل الذي يعيش ازدواجية التمسك بالتقاليد والانفتاح على المعاصرة وذلك كذريعة للغوص في اعماق الازدواجية اللغوية والثقافية من خلال تيمة النرجسية كتيمة مركزية. تضمن هذا الشريط زخما من الرموز والاشارة صعبة التفكيك. و اختلط فيه الواقع بالخيال ليصفه البعض بالشريط «الماوراء طبيعي» وبدا ان النقد السينمائي العربي وقف قلقا ومتوترا ازاء الشريط. فقد تساءل الناقد المغربي خالد الخضري من «الحاجة لطرح وتقديم هذه المواضيع بالنظر لواقع السينما المغربية المعلوم» في حين علق الناقد «خميس الخياطي» عن الشريط في مقال عنوانه «قفطان الحب بين ثراء الصورة وغرابة المعنى» قائلا «انك بكل بساطة امام صور تتحرك دون ان ترسم في ذهنك احداثا متماسكة» اما الشاعر التونسي عبد الرحيم بوفتح فقد اعترف بكونه «:ان في وضعية صعبة وغير مريحة وهو يشاهد الشريط» اميل الى الاعتقاد ان مومن السميحي شعر بخيبة كبيرة من عنف النقد وبرودة الجمهور. كما احيل الاعتقاد الى أن ذلك كان هو السبب المباشر في نقل اشتغاله الى مصر ربما بحثا عن الاسواق العربية. او مر بها طمعا في قوة السينما المصرية ازاء الدفاع عن منتوجها. لم يكن هذا الانتقال حالة استثناء في السينما المغربية. لان هناك تجربة سابقة للمخرج المغربي عبد الله المصباحي» لكن الاستثناء هو تحول مومن السميحي من «رغبة التكلم عن مدينة طنجة كمسقط رأس جغرافي واسعمال عناصرة الثقافة الكونية كمسقط رأس كوني» الى «اعتبار ارتباط المبدع بمسقط رأسه عنصرا ثانويا» وان الضرورة تقتضي التحايل على الوضعيات مادية، سياسية كانت ام ثقافية». لكن هل نجح مومن السميحي بهذا اللون الجديد من القناعات ان يعيد لانتاجه هالة ما؟ والى اي حد فعلا - ساهم في اخراج السينما المغربية من قطريتها اعتمادا على مؤهلات عاصمة السينما العربية او قيصرها؟ تبدو اللقطة عاتمة الى حد ما. فحتى وان بدى مجاملا للسينما المصرية في خطوته الاولى من هناك بشريط «تقارير موجزة عن السينما المصرية» من اجل تقديم «صورة عن السينما المصرية مختلفة عن التمثلات التي هي عند الغرب او في المغرب»، الا ان الناقد المصري سمير فريد لم يتردد في وصف الشريط بالردئ. لم يكن حظ شريطه الثاني بالقاهرة «سيدة القاهرة» افضل من سابقه. فبالرغم من اعتماده على كاتب سيناريو محنك «بشير الديك» ونجوم كبار من مثل، يسرا، نبيل حلفاوي وجميل راتب. فقد سقط رهانه بل و «تحايله» بالاشتغال على فضاء القاهرة كفضاء سمعي مرئي للحكي عن وضعية عامة من خلال اطار تاريخي يواكب عدة محطات من تاريخ مصر علما بان الفيلم لم يكن تاريخيا بالمعنى الدقيق لان إطاره روائي خالص وليس واقعي. تجاهل النقد المصري هذا الشريط ولم يسمح له باحتلال مكانة ضمن الفيلمو غرافية المصرية. في حين أصابته غربة شديدة بالمغرب. ليتأكد مومن السميحي - قبل غيره - بان الواقع العربي لا يسمح بتلك الاحلام الجميلة من قبيل ان كل شريط عربي هو بالضرورة شريط محلي. في انتظار الرد هل كان مومن السميحي متمردا؟ هل دفعته النزعة المثقفية الى نرجسية زائدة قطعت الوصال بينه وبين الجمهور؟ ولماذا - وهو المتحكم في لغته السينمائية - لم يعد صباغة متطورة حسب ما تتطلبه شروط السوق دون ان يتحلى عن وعيه؟ نبحث عن الاجابة - الاجابات من مومن السميحي. قد نقتلها كتابة. لكن نحبذها شريطا سينمائيا. لاننا بكل تأكيد اصبحنا اكثر احتياجا لسينما مثقفة تعيد التوازن لافلام التبسيط والتسطيح. بل وتستفزنا بصريا وفكريا. وتدفعنا للبحث في المرجعيات اي تدفعنا للقراءة.