في ليلة ممطرة وباردة بشوارع مدريد، طرقات مزدحمة ، صخب ونشاط فرحا واستعدادا للاحتفال بأعياد الميلاد ،كنت أتجول وصديقة لي مقيمة هناك باسبانيا أثارني مشهد ، امرأة ذات قامة قصيرة ، نحيفة كأنها لم تتناول الزاد لأشهر ،تبدو ملامحها مغربية، تتمايل من إفراطها في الشرب وتتحدث بصوت مرتفع مع رجل اسباني، طويل وعريض المنكبين ،أنيق المظهر ،دو شعر ابيض، يبادلها أطراف الحديث باهتمام كبير، أثار استغرابي منظرهما ،وبينما أنا كذلك ادا بصديقتي تقول لي مارية تعالي لأعرفك بهده السيدة إنها خديجة المغربية ، اتجهنا صوبهما وتبادلنا السلام، أما خديجة فلم تبالي بوجودي ،استمرت في حديثها المتلعثم مع الرجل الاسباني واندمجت معهما صديقتي، أما أنا فابتعدت عنهم قليلا واخدت جانبا لشعوري بغربة وسطهم، حينما أنهت خديجة حوارها مع الرجل، نظرت إلي وضحكت بصوت عال وسالت صديقتي من هاته السيدة؟ أجابتها إنها صديقتي مارية من المغرب ، و اخدت تثرثر باللغة الاسبانية وسألتني ما عملك؟ قالت لها صديقتي هل تعرفين أن مارية مختصة في قضايا المرأة وتدافع عنها؟ فجأة انقلبت تقاسيم وجه خديجة ونزلت دموع غزيرة من عينيها وقالت لي وهي على وشك أن تقبل يدي ، اكتبي ،اكتبي ، اكتبي ، قولي لهم أن لا يشغلوا بناتهم صغارا في البيوت ، اكتبي قصتي لتكون عبرة لهم ، حقيقة حينها تملكني شعور ورغبة في معرفة قصة خديجة وطلبت منها أن تحكي لي قصتها ووعدتها بان اكتبها حينما أعود إلى المغرب. خديجة سيدة تبلغ من العمر 48 سنة ، لها قامة طفلة في العاشرة من عمرها ، من أسرة فقيرة ، أب يشتغل بعيدا ويبعث النقود لزوجته أم جشعة لا تستحق لقب أم ، تخلت عن ابنتها خديجة وهي طفلة تبلغ من العمر حينها ستة سنوات لأسرة ميسورة، مقابل 40 درهما في الشهر ، كانت خديجة تضع كرسي وتقف عليه لتتمكن من الوصول إلى حوض غسيل الأواني، أما الأم تأتي شهريا لتاخد الراتب دون أن تطلب رؤية ابنتها، وهكذا استمر حال خديجة من بيت لبيت ومن أسرة لأسرة، تحكي خديجة عن ممارسات تعرضت لها من قبل ربات و أرباب البيوت ، تقشعر لها الأبدان ويندى لها الجبين، لكن المعاناة الحقيقية هي حينما بدأت معالم الأنوثة تبرز على جسد خديجة، وشعور الأنثى بدا يطفو على الطفلة ، هنا بدأت معاناتها مع أرباب البيوت ، فمنهم من يطلب تدليك مفاصله، ومنهم من يريد أشياء لا يستطيع تلبيتها مع زوجته ، ومنهم الشاذ ومنهم و منهم و منهم.... خديجة لم تعرف أين ضاعت براءتها ، خديجة لم تعرف في أي بيت تركت عذريتها، خديجة ستفقد هويتها أيضا بزواجها من رجل هولندي ، صادفته في رحلتها بين البيوت والأسر ، تزوجها واخدها إلى هولندا لتعيش معه هناك ، رزقت منه بطفل يبلغ الآن 10 سنوات ، عاشت الاستقرار الذي حرمت منه طيلة حياتها ، لكن حظها الشؤم يأبى إلا أن يكون لها بالمرصاد ليصبح فارس الأحلام الذي انقدها مدمنا على الكوكايين فيفلس ويتيه ، ويترك خديجة ضائعة في هولندا مع طفل ، تأخذ طفلها وتذهب به إلى اسبانيا لتشتغل هناك ، لكن خديجة أصبحت تشتغل نهارا وتعاقر الخمر ليلا ، لا اعلم كيف صارت مدمنة على الشرب ، جل ما اعرفه أنها أصبحت بدون هوية تتحدث اللغة العربية والهولندية والفرنسية والاسبانية لكنها لا تتقن ولا واحدة من هاته اللغات. ترى مادا ستمنح خديجة لطفلها؟ علما بأنها توفر له ماديا كل شيء ،حيث تقول لا أريد أن يعيش أو يعاني ابني ما عشته وعانيته . أكيد ستمنحه المادة لكن أين هي الأم؟ أين المثل الأعلى ؟ أين القدوة؟ قد ضاعوا مع رحلة خديجة. خديجة لازالت تتصل بي وتسألني هل كتبت معاناتها وهل قلت للأسر لا تشغلوا بناتكم في البيوت صغارا. ترى هل استطيع أن ابعث لها ما كتبت ؟ لأنه ببساطة من يحكي عن نفسه ليس كمن يحكى له عنه. (*) رئيسة منتدى أسرة ورئيسة وحدة دراسات الأسرة والنوع الاجتماعي