قليلون كانوا يراهنون على أن يعتلي ميرجان بوشعيا خشبة قاعة الوزراء بقصر المؤتمرات ويرفع النجمة الذهبية (الجائزة الكبرى) أثناء حفل الإعلان عن جوائز الدورة الخامسة عشرة لمهرجان مراكش الدولي للفيلم. عمل أوّل مدهش من هذا الشاب اللبناني ذي السّتة وعشرين ربيعاً، كتب نصّه بذكاء بالغ مما غطّى على هنّات الإخراج القليلة فيه، مثيرًا إعجاب لجنة التحكيم برئاسة فرنسيس فورد كوبولا. كيف لا وثيمتان عزيزتان على قلب المعلّم وحاضرتان في معظم أفلامه هما السياسة وعلاقتها الجدلية بالأخلاقيات («القيامة الآن» و»المحادثة») والعلاقات العائلية المضطربة في ظلّ تجاذب النفوذ (ثلاثية «العرَّاب» و»تيترو» و»رامبل فيش») تشكّلان عصب الحكي في «فيلم كتير كبير» !؟ ما المشترك بين عالم التجارة بالمخدّرات والسينما؟ كلاهما يحتاج للحظة ظلام أثناء مرحلة حاسمة هي مرور البضاعة على الماسح الضوئي بالنسبة للأول، ونقل علب الأشرطة نحو مختبر التحميض بالنسبة للثانية. عندما يكتشف زياد، زعيم عصابة ترويج المخدّرات، هذا المعطى صدفةَ، فهو لا يدرك بعد أن هذا ليس سوى بداية علاقة حافلة ستجمعه بالسينما الّتي كان يكاد لا يفقه فيها شيئاً يذكر، ستقوده إلى اختبار قدرتها على جذب أضواء الإعلام واستيعاب الواقع وعجنه وفق تصوّرٍ معيّن، يخلط الأوراق ويخلق جوّاً من الرّيبة والاضطراب، ييسّر له تحقيق أهدافِه. يُظهر الفيلم من خلال هذه الفكرة النيِّرة خطورة السبنما والفنِّ عموماً لمَّا يسقط رهينةً بين يديّ شخصٍ انتهازي يبحث بأيّ ثمن عن السّلطة. يقول كارلوس فوينتيس: « يبتكر التّخييل ما ينقص العالم، ولهذا فإنه يلعب، بشكل خفي ولكن جوهري، دورا سياسياً في الأساس «. هكذا، يجسّد «فيلم كتير كبير» الحلقة المفقودة لفهم الوضع الكارثيّ الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، وربّما العالم بأسره اليوم. أي أزمة الأخلاق والمعنى التي ضربت السياسة فأضحت لغة جافة بين أيدي سياسيين وصوليين. لغة ترتكز على الأرقام والأرباح وخطاب الاقتصاد، وفق فردانيّة مطلقة وقانون الرأسمالية المتوحشة، فيما اضمحلّ الالتزام بالأخلاقيات وحوار الأفكار. سينما داخل السينما منذ بداية الفيلم، ينطوي مشهد الإفصاح عن خدعة لجوء العصابة إلى استغلال فرن كواجهة تجارية، من أجل تسويق المخدّرات على ظهر علب البيتزا، على اتفاق ضمني بين المخرج والمشاهد، يصبح بعده كل شيء موضع شك وريبة. فلا غرابة في أن يتطور الحكي شيئا فشيئا نحو فيلم داخل الفيلم، استجلاباً لقدرة السينما الهائلة على مساءلة المظاهر وقلب التوقعات وضرب الكليشيهات. وهذا ما يتأتّى حين يتّفق زياد مع شربل، متعاطي مخدّراتِ يشتغل كمخرج مبتدئ، على إنجاز فيلم كمطيّة لتهريب شحنة كبيرة من الحبوب المخدّرة نحو الخارج داخل علب الأشرطة. يسقط اختيار شربل على الثيمة الكليشيه بامتياز كسيناريو للفيلم : « قصة حبّ تجمع فتاة مسيحية وشاب مسلم والمشاكل التي تواجههما داخل مجتمع موبوء بالانقسامات الطائفية». موضوع يعتمد على طرح مباشر ومستنزف تجاوزته تعقيدات الواقع بسنوات ضوئية. بالموازاة مع هذا الفيلم «الصّوري»، هناك فيلم أهم يجري وراء الكواليس هو لبّ حبكة «فيلم كتير كبير» يرصد صعود نفوذ زياد كناية عن سيرورة تكوّن السّاسة الفاسدين الذين كانوا ولا زالوا واحدا من أهم العوامل التي ساهمت في دمارالشرق الأوسط. سيرورة التكوّن بعد عملية اختصار الزمن في بداية الفيلم، نكتشف زياد وقد أمسك بزمام السلطة داخل عصابة تتكون من أخويه باللإضافة إلى أعضاء آخرين. وهذه مقدمة أساسية لرحلة طويلة، لا يتوانى فيها زياد على التنصّل من التزاماته بما فيها تلك التي أخذها مع إخوته، وارتكاب جريمة قتل مزدوجة (معطى مهم جدا في منظومة السرد لأنّ من يقتل يستطيع القيام بأي شيء). عند الشروع في إنجاز فيلم شربل، يكتشف زياد مع مرور أيام التصوير سحرالسينما وقدرتها الخارقة على خلط الأوراق، فيصبح بالتدرج مخرجا « اندرغروند» وفق سيناريو غير مكتوب، قوامه التفجيرات المفبركة واستغلال الفرقعات الإعلامية الناتجة عنها. سيناريو يسهرعلى تنفيذه بهاتف محمول في يد ونرجيلة في اليد الأخرى، في مشهد يكاد يلامس السريالية. استغلال زياد السينما بشكل انتهازي هو استشراف لاستعمال السياسة من أجل تحقيق مآرب شخصية في مستقبل مسيرته. وكأن الفيلم من هذا المنظور يشكّل محطة تدريب أو مسار تلقين سياسي «واعد» لا يُشقّ له غبار في علم الانتهاز والوصولية. سيناريو جهنمي واحدة من أوجه قوة حكي الفيلم هي ارتكازه على غنى المفارقات الناتجة عن الحدود الواهية بين الواقع والخيال والصورة المفبركة، على غرار مشهد الكاستينغ حيث يعجب شربل بصدق جو (أخ زياد) المفاجئ وهو يردّد ببرود جمل تغزّل في الممثلة (زوجة شربل) التي تجمعه بها علاقة حب سرّية وراء ظهر زوجها... ومشهد آخر يدخل أثناءه حصان أبيض بلاطو تصوير لقطة تجمع بين البطلين تحت الأمطار، فنستغرب لوهلة أولى لقدرة مخرج عديم الموهبة كشربل على الوصول إلى هذا المستوى من التعبير الشاعري، قبل أن نفاجأ به وهو يصرخ قاطعاً التصوير ومستنكراً دخول الحصان... أو ذلك المشهد البديع حين ينزع البطل «المسيحي» حجاب حبيبته «المسلمة» في الشارع، فينشب عراك مع المارة لا نعلم بعده حدود المكتوب في السيناريو والمستجَدّ غير المتوقع، ويحاول فريق التصوير إقناع المارة أن الأمر ليس «سوى» سينما، فيصرخ أحدهم « حتّى في فيلم ليس من حقه أن يفعل هذا ! «. هكذا يدعونا الفيلم لأن نكتشف واقع لبناني معقّد وغنيّ بالحقائق المتناقضة وأن نتملّك الأحلام والهواجس والانكسارات التي تتولّد عنها. المُخرج الثالث! يدفع بوشعيا إذن بالأفكار إلى أقصى الحدود، فلا تلبث المواقف أن تصل ذروتها حتّى تتبلورالمعاني العميقة في ذهن المشاهد. وسلاحه الفتّاك هنا هو المزيج الخلاق بين التراجيدي والكوميدي، الذي من دونه يستحيل القبض على تعقيد العالم الغريب الذي نعيش فيه اليوم. كل هذا وفق إيقاع مرتفع يشدّ اهتمام المُشاهد من بداية الفيلم إلى نهايته. إيقاع يعتمد كثيرا على الموسيقى التصويرية وفق توجّه لا يُغفل الغاية التجارية ولا يُخفيه المخرج، حيث يقول في حوار مع الزميل هوفيك حبشيان: « أردت، في مكان، خلق إيقاع خاص لبعض المشاهد. وأردت أيضا أن أقدّم فيلما لا أضطرّ فيه إلى المساومة، وفي الوقت عينه، أكون حقيقيا مع نفسي وواضحا بما أود أن أقوله، من غير أن يجعلني هذا أفقد الغاية التجارية منه «. ولعل اعتماد الفيلم على توابل تكفل له استهداف جمهور عريض هو الذي منحه، ربما بشكل غير مقصود، مرونة وديناميكية أتاحتا له التموضع على مفترق الطرق بين أنواع عديدة : فيلم الإجرام، الفيلم الكوميدي، الفيلم السياسي، الدراما الاجتماعية... مما رفع من قيمته الفنية. كما أن تقنية الفيلم داخل الفيلم، كما هو معلوم، تمكّن من أخذ مسافة من الموضوع المصوّر، وهي المسافة التي أفاد منها كثيرا بوشعيا من أجل تلافي السقوط في الطرح المباشر والتقريرية. لكن واحدة من هفوات الفيلم القليلة هي الإطناب في الحوار في بعض المشاهد من أجل شرح أشياء سنراها فيما بعد على الشاشة، على غرار اللقطة الطويلة التي تجمع زياد وشربل على طاولة الأكل في وسط الفيلم. في مشهد ختامي خلّاب –ذكّرنا بنهاية «هُم الكلاب» لهشام العسري–، يقف زياد أمام المرآة مردّدا عبارة من تلك التي تخطب ودّ الجماهير، وقد تغير شكله الخارجي إلى درجة أننا لا نتعرف عليه لوهلة أولى، قبل أن يدخل بخطوات ثابتة وابتسامة واثقة استوديو تصوير تلفزي، فيما ينبعث صوت المذيع من خارج الكادر معلناً عن نية ضيفه الترشّح للانتخابات البرلمانية. عندها ندرك أن الحملة سيتم بلا ريب تمويلها عبر تبييض أموال صفقة تهريب المخدّرات الناجحة التي قفز حكي الفيلم بذكاء عن مآلها. لقد خرج السياسيّ الفاسد أخيراً من «شرنقته»، فارداً جناحيه استعدادا للتحليق في سماء السّلطة والمال والجاه المُحصَّن.