منذ المشهد الأول، يتبدى لنا مليك وصديقه في حالة انتظار، خلفهما سور، تبتعد الكاميرا عن طريق زوم إلى الوراء ليدخل أب المسجون إلى المشهد، ليبقى الصديقان في الخلف بنوع من الإحساس بالإحراج. يخرج السجين وخلفه الباب الكبير للسجن، لا أفق سوى قطعة صغيرة من السماء بلون داكن. لحظة حاسمة في منظومة الفيلم لأن فوزي بنسعيدي يشتغل بعمق لأجل إنجاز مشاهده، وقد تبدى ذلك من أول أفلامه القصيرة. تجربته في المسرح وانخراطه العميق في مجرى القراءة جعلا منه مخرجا لا يحب التكرار والملل. في بحث مستمر لتجديد مبدع في أفلامه. يأخذ وقته الكافي لبناء فيلمه. إذ يمكن أن تمر سنوات عديدة قبل أن يطلع علينا بعمل آخر. «موت للبيع» يضعنا في المشهد الأولي أمام عدة أسئلة حول الشباب والأفق المسدود ومؤسسة العقاب والأب الذي يحضن ابنا يفضل أن يظل محتفظا بحقائبه حتى لا يبادل أباه نفس الاحتضان. تركيبة لها صداها وترددها داخل الفيلم. هذا الأخير الذي يفضل أن يقدم لنا حكاية مركبة في عالم معقد. المكان هو مدينة تطوان، الشمال المغربي، ثلاثة أصدقاء يجمعهم التيه في مدينة لا ترحم. بعد هذا المشهد يتحرك الشبان وتتحرك الكاميرا بتقنية الترافلينغ، الذي سيطغى على الفيلم. لأننا أمام شخوص شبابية تتحرك كثيرا داخل فضاء هذه المدينة بحثا عن المتعة المستحيلة. يركضون، يشربون وفي الليل يفترقون في الساحة هذا الفضاء الذي لا يمتلكه أحد. يضعون ثلاث قنينات بعدما أفرغت في جوفهم. تأخذ اللقطة من فوق بعدما اختفى الشبان الثلاثة، نسمع أصواتهم خارج الإطار ينهالون بالحجارة على القنينات اللاتي تستسلمن للرجم والكسر. منذ البدء يتحدد مصير الشبان بشكل استعاري، كما لو أن المخرج يحضرنا لطقس النهاية. في رحم الحياة هناك الموت. والموت ليس بضاعة تباع. يأتي فيلم موت للبيع كثالث شريط مطول للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي، ليؤكد أن أعماله تنتمي لسينما المؤلف. لا يختار عناوينه جزافا. هناك دائما نوع من التريث والتفكير الطويل قبل تعميد أفلامه. الموت موجود داخل الفيلم كبضاعة رخيصة ومشهد العصابة التي ترمي جثة رجل من فوق الحافة على شكل أفلام المافيا يلخص نوعا ما هذا الاختيار. خاصة وأن فعل الرمي يأخذ من بعيد كي يجنب المتفرج الاقحام الكبير له في اللقطات المقربة. رغم أن المخرج يصنف في إحدى المقابلات الصحفية فيلمه في إطار الفيلم الأسود. إلا أنه ينجز فيلما يستلهم بشكل إبداعي بعض خصوصيات هذا الفيلم. فوزي بنسعيدي لا يؤمن من خلال تجربته بنقاء النوع. مشهد آخر يلخص الوضع الرمزي للشخصيات الثلاث حينما وضع المخرج ماليك وسفيان خلف القضبان وهما يتحاوران مع علال الذي كان يقوم بحركات رياضية فوق القضبان دون الانفلات منها. لقطة ثابتة لشخصيات تتكلم وتتحرك لكن القضبان تظل راسخة في مخيلة المتلقي. المخرج لا يحاور متلقيا بسيطا، إنه يقدم الاشارات وعلى المتفرج النبيه أن يتبع الأثر. لكن كيف يعرفنا بالشخصيات الثلاث؟ لا يحتاج المخرج للتفصيل. حينما يعود مليك إلى منزله، تأخذه الكاميرا وهو يصعد عبر درج خارج المنزل، حينما يتساوى مشهد صعوده مع الطابق الذي سيتواجد فيه زوج أمه وعمه في الآن نفسه داخل الصالون. يتصاعد صوت العم باللعنات ليستمر في الصعود والكاميرا كذلك حتى يستقر في حجرته الوحيدة في السطح. لا يحتاج المخرج لأكثر من هذا المشهد المركب. كي نعرف وضع مليك الأسروي. صعود الكاميرا لا يعني التعالي بل السقوط في وضع عزلة وتهميش. هذه اللقطة تذكرنا بنافدة على الساحة لهيتشكوك كما لو كان هناك تلصص ما من شخص بالضرورة لن يكون سوى المخرج والذي إن قمنا بمقاربة له في إطار السردولوجيا أو علم السرديات فإنه السارد العالم بكل شيء. إنه المؤلف. ومن الناحية الحكائية والتي تعتمد على الصورة يجب الإشارة إلى أن أسلوب فوزي بنسعيدي يعتمد على الاقتصاد الحواري والصوري. فالمشهد الواحد قد يتحول إلى متوالية من اللقطات يحتل فيها البانوراميك مكانة خاصة تسمح لدخول شخصيات في نفس المشهد دون الارتهان للتقطيع المشهدي مما يعطي نوع من الانسيابية في الحكي. هذا ما يجعل أفلام هذا المخرج، رغم تعدد الحكايات، تحمل خيطا ناظما يجعل من الحكي لعبة سهلة. أما علال فنتعرف على وضعه داخل لقطة تكررت لمرات عديدة حيث الأب مستسلم فوق كرسيه بعدما شرب قنينات الجعة. هكذا يعيش لوحده مع أبيه المنطفئ. أما سفيان، فتتبعه الكاميرا إلى أن يدخل الى ملجأ ربما للأيتام حيث فوضى الشبان والمراهقين تملأ الفضاء، ليلتحق بسريره في قلب الضجيج كما لو انجرف داخل عالم لا ينتمي له. في لحظة رومانسية مثل الحلم يجد مليك نفسه منقادا إلى فتاة جميلة، مشهد خروجه من المقهى حاملا قنينة كوكاكولا، مشهد أشبه بوصلة تجارية. يقف بجانبها. ابتسامة وكلمة وشرائط تتصاعد من الأسفل قام برميها أطفال صغار، مشهد شاعري جعل من الفتاة التي تسمى دنيا تسمح له باقتسام ذلك المشروب، لقطة رومانسية تحيلنا على مشهد آخر في السينما، مشهد الغروب قرب قنطرة مانهاتن في فيلم وودي ألن. مشهد شاعري أصبح من اللقطات الموغلة في تاريخ السينما. لحظة حب بين عاشقين. لكن المخرج يباغتنا بعد ذلك لنكتشف أن هذا المشهد الرومانسي كان تحت نظرة علال وصديقه سفيان. وذلك عبر لقطة جمالية تدل على إبداعية هذا المخرج، إذ بتقنية زوم إلى الوراء يتم تأطير اللقطة بإطار نافذة المقهى، خلفها كان يجلس علال وصديقه. فكما أن الوصلات الإشهارية تنهار أمام الواقع يلتحق الاثنان بصديقهما ويعكران عليه صفاء تلك اللحظة. هذا اللقاء مع دنيا هو ما سيجعل الفيلم يقوم بانعطافة درامية إن لم نقل أن المتن الحكائي وصل الى مرحلة العقدة. تأتي الحملة ضد المخدرات، والتي يقودها مفتش سكير يسمى دباز. اسم على مسمى. يختفي علال بعيدا. مليك يقع في شرك هذا المفتش بعدما وشى بعمه الذي اعتبره سببا في وفاة أخته التي عادت منهارة من تجربة حب مع رجل متزوج. للذكر لقد اختار لها المخرج اسم عواطف إذ رغم أنها شخصية ثانوية فقد كان حضورها طاغيا، عطوفة على أخيها مليك، تعمل في الخياطة وتحب رجلا متزوجا. سيطلب المفتش من مليك أن يلعب دور مخبر، بعدما أخرج صديقته دنيا من السجن وتدخل لهما للإقامة بفندق رخيص مع بعض الهبات المالية. وضع أشبه بالسجن. أما سفيان فبعدما عمد إلى سرقة حقيبة تلميذة سيتم محاصرته بزملائها ليعذبوه في الغابة، لم يخلصه سوى وجود مجموعة من الشباب المتدينين والذين عالجوه وملأوا رأسه بأفكار جاهزة ودفعوه للتجارة بالأشرطة الصوتية الدينية أمام المساجد. المصائر تباعدت لكن عودة علال بفكرة الخلاص عبر سرقة اليهودي بائع المجوهرات ستوحد الأصدقاء الثلاثة. رغم كل محاولات أصدقاء مليك لإبعاده عن دنيا، فان ذلك عجل بسقوطه في حبال المفتش الذي صعد من تهديداته. في مشهد ليلي في السطح وقد أخذ اليأس من مليك مأخده الرهيب. ترتفع الكاميرا التي كانت في مستوى مليك ودنيا، يتقلص الإطار وتتصاعد الموسيقى ومليك يخبط رأسه مع الحائط. مشهد يأخذنا توا إلى الخيانة والتي ستؤدي في الأخير إلى الموت. خيانة مليك وخيانة دنيا، هاته تخرج من النفق حاملة مجوهرات الخلاص. في هذا الفيلم أخذ المخرج بعض المسافة. رغم أن «موت للبيع» يطرح وضع شبان في ضياع مريع داخل مدينة صعبة؛ فإن التناول السينمائي ينحى إلى الجمالية بل هناك شعرية تنساب من بين ثنايا اللقطات. رغم أن الفيلم حركي إلا أن الايقاع الذي اختاره المخرج أضفى نوعا من التأمل في اللحظات التي كان يمنحها للأصدقاء الثلاثة أمام شساعة شاطئ البحر. كما أن الاستعارات كان لها أثرها الكبير في جعل هذا الفيلم يكتسي طابعا آخر بعيدا عن الفيلم الأسود. نذكر على سبيل المثال مشهد الغابة بالليل والشجرة التي تحترق وسفيان عار تماما يمضي ويقف أمامها بعدما حسم في قتل التاجر اليهودي بدل سرقته فقط. مشهد جارف وملغز، يجعل المتفرج في حالة هلع. لأن القتل الذي سيأتي بعد ذلك لن يكون في نفس فظاعة حرق شجرة وارفة والعري الانساني كما لو أن البذاءة عادت والانسان قد تخلى عن تحضره. نوع من الهمجية المصورة بشكل شاعري وابداعي. يبقى فيلم موت للبيع من بين الأفلام التي تؤثت فيلموغرافيا السينما المغربية وتترك أثرا من أجل الاستمرار في أنجاز أفلام تسائل الانسان.