صورة الجزائر منذ استقلالها سنة 1962 تبدو وكأنها جزء من مؤسستها العسكرية.. بلد لم يخرج من الثكنات العسكرية طيلة نصف قرن، ولم يسلك طريقا سوى ما رسمته هذه المؤسسة، و لم يختر رئيسا بكل حرية إلا ما صنعه جنرالاتها ونصبوه في قصر المرادية المتواجد بمرتفعات العاصمة . رسالة أسطورة المخابرات العسكرية الجزائرية الجنرال محمد مدين الملقب ب»توفيق» التي نشرها قبل أيام في صحف الجزائر تعد صفحة من هذا التاريخ المثقل بالبزات العسكرية ، بل هي رسالة تؤشر لمرحلة جديدة منطلقها مابعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وآفاقها مفتوحة على صراعات في جزائر، اعتادت تصادم أجنحتها بعنف وبدموية أحيانا. جاءت رسالة الجينرال مدين بعد اعتقال ومحاكمة أحد مرؤسيه الجنرال حسان، عبر فيه عن ذهوله»،جرّاء الحكم الذي صدر عن المحكمة العسكرية لوهران «، التي أدانته بخمس سنوات حبسا نافذا، واعتبر أن العملية التي أُدين بسببها بتهمة "الإخلال بالتعليمات العامة"، بأنّه»عالج هذا الملف (ملف الأسلحة المصادرة من جماعات مسلحة) باحترام المعايير وبتقديم التقارير في الوقت المناسب...»وأنه «كَرَّس نفسَه بشكل كامل من أجل هذه المهمّة، وقاد عمليات عديدة ساهمت في ضمان أمن المواطنين ومؤسّسات الجمهورية، بحيث لا يمكن التشكيك في إخلاصه وصدقه في تأدية عمله. إنّه ينتمي إلى تلك الفئة من الإطارات القادرة على تقديم الإضافة المتفوِّقة للمؤسّسات التي يخدمونها «. واعتبر توفيق أن « الأمر المستعجَل اليوم يَكْمُن في رفع الظلم الذي طال ضابطا خَدَم البلد بِشَغَفٍ، واسترجاع شرف الرجال الذين عملوا مثله بإخلاص تامّ من أجل الدفاع عن الجزائر». في الأسبوع الأخير من غشت الماضي، اعتقل العسكر الجينرال حسان ، واسمه الحقيقي عبد القادر آيت وعراب، وكان المسؤول الأول عن مديرية مكافحة الإرهاب بدائرة الاستعلام و الأمن تحت قيادة الجينرال توفيق، قبل أن يحيله الرئيس بوتفليقة على التقاعد أواخر عام 2013، رفقة قيادات أمنية رفيعة في المخابرات و الجيش، كما أشرف ميدانيا على العملية الأمنية بتيڤنتورين، في يناير 2013. ووجهت إليه تهم عدة من بينها « تشكيل عصابة أشرار مسلحة، والتصريح الكاذب بخصوص مخزون السلاح الذي بحوزته». صراعات العسكر وعسكرة الصراعات ارتدت الثورة الجزائرية منذ الاستقلال الزي العسكري، ووضعت على صدر عدد من رموز حركة تحررها نياشين برتب مختلفة . وخولت هذه العسكرة امتيازات لطبقة النياشين والأوسمة وأساسا للأطر التي سبق لها الاشتغال في الجيش الفرنسي في جميع مناحي الحياة ببلد اصطلح على تسميته «بلد المليون شهيد». ولم تخل مؤسسة من مؤسسات الدولة إلا وكان للجيش موقع قدم بها . في الحزب الوحيد آنذاك جبهة التحرير الوطني، تم تخصيص حصة بلجنته المركزية ومكتبه السياسي للعسكر إلى بداية 1989. وفي المؤسسة التشريعية كانت لهم مقاعد . وفي الحقل الاقتصادي، اشتهرت الجزائر بمنحها للقادة العسكريين النافذين رخص الاستيراد والتصديرأو انخراطهم فيما أطلق عليهم اسم «تجار الشنطة» الذين يهربون السلع من الموانئ والمطارات بتواطؤ مع الجمارك. في الولاية الرئاسية للرئيس الراحل أحمد بنبلة، كانت عين الجيش بالرغم من كل هذه الهيمنة على مقعد الرئاسة . وبالفعل تأتى ذلك للعقيد هواري بومدين في 19 يونيو 1965 . و كان يشغل وزيرا للدفاع ، إذ أزعجه أن تبقى هذه المؤسسة لاترتدي البزة العسكرية بالرغم من أن بنبلة أحد أعمدة الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. كان وصول بومدين إلى الرئاسة تعبيرا عن مرحلة جديدة من صراعات الأجنحة .لذلك شكل الرصاص اللغة التي يتم التحاور بها والطريق الوحيد لإسكات صوت المعارضين لنظام الحكم .فطيلة عقد ونصف من نظام البومدينية كان لاصوت يعلو فوق صوت المؤسسة العسكرية التي جعلت الحزب الوحيد والنقابة الوحيدة ووسائل الإعلام وبقية المؤسسات تحت هيمنتها المطلقة. لكن ما أن فارق الهواري بومدين الحياة في 27 دجنبر 1978 حتى قادت أكثر من شخصية عسكرية أو تختبئ وراء مدني جناحا عبرت من خلاله عن أنها أهل لقصر المرادية. ومن أبرز المتصارعين عبد العزيز بوتفليقة ومحمد صالح اليحياوي وقصدي مرباح الذي أعلن أن هناك توصية من الراحل تسندإليه المنصب . وأمضى رابح بيطاط ال 45 يوما الدستورية كرئيس مؤقت للجزائر باعتباره كان يشغل منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) يراقب هذه الصراعات المتأججة ويده على قلبه مخافة من انزلاق البلاد إلى مواجهات مسلحة . لم تجد الأجنحة المتصارعة من صيغة إلا التوافق حول عسكري يحفظ مصالحهم وامتيازاتهم هو الشادلي بنجديد الذي جيء به من أحد مصالح وزارة الدفاع ليتم تزكيته رئيسا في فبراير 1979 . وطيلة السنوات الإحدى عشرة من تقلده هذا المنصب، عبرت الأجنحة العسكرية عن حماية مصالحها أو عن صراعاتها من خلال ثلاث محطات كبرى،أريقت فيها دماء وحصدت أرواح وملئت سجون. أول هذه المحطة، ما أصبح يعرف بالربيع الأمازيغي الذي عرفته منطقة القبايل في مارس 1980 إذ نزل العسكر بكل ثقله لقمع انتفاضة رأى فيها تهديدا لنفوذه ودعما لقوى سياسية مدنية تطالب بالتعددية . ثاني المحطات أحداث أكتوبر 1988 التي عبر فيها الشارع الجزائري عن رفضه لهذه الهيمنة المطلقة للمؤسسة العسكرية التي تجثم على صدره وتمنعه من تأسيس أحزاب وجمعيات وعقد تجمعات وإصدار جرائد ... عشية هذه الأحداث، تم اغتيال أحد القادة السياسيين وهو المحامي علي مسيلي ولم يسمح لأي مرشح مستقل بالترشح إلى البرلمان ماعدا الأشخاص ال295 الذين انتقاهم الجيش باسم الحزب الوحيد . واقتصاديا، لم تعرف المواد الأساسية ارتفاعا في أسعارها بل ندرتها أيضا،بالرغم من أن البلاد تتوفر على مداخيل من تصدير البترول والغاز تدر ملايير الدولارات . وفي وضع يتربع على برميل بارود، كان لابد من انفجار شعبي، استغلته أجنحة السلطة لتصفية حسابات بينها . وبالفعل نزلت الدبابات إلى العاصمة وإلى أكثر من مدينة، نجم عن ذلك، مقتل المئات من المتظاهرين. وكي تستمر المؤسسة العسكرية في الهيمنة، كان لابد من التضحية بأحد قادتها،جاء إلى رئاسة الأمن العسكري في بدية الثمانينيات ورقي قبل اندلاع الأحداث بسنتين إلى رتبة جنرال هو لكحل عياط إلى جانب المسؤول الحزبي الشريف مساعدية، المحطة الثالثة المفصلية في تاريخ الجزائر، هي إقدام الجينرالات على إقالة الرئيس الشادلي بنجديد، عقب نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية، التي بوأت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في دجنبر 1991 صدارة مطلقة للمشهد السياسي.جاء الجينرال خالد نزار وقتها إلى قصر المرادية يحمل في جيبه استقالة بنجديد ليوقعها هذا الأخير في 10يناير 1992 ويترك للعسكر تدبير المرحلة الجديدة التي فتحت على أكثر من عقد من الاغتيالات الفردية والجماعية، طالت المثقفين والفنانين والسياسيين وقرى بأكملها، فاق عدد ضحاياها ال 200 ألف شخص ومفقوديها مايقارب ال 8000 لم يعرف مصيرهم إلى اليوم. واتضح أنه لم تكن الجماعات المسلحة –وحدها- التي اقترفت هذه الجرائم، بل كان للعسكر يد في العديد منها، وهو ماكشفت عنه كتابات وشهادات حتى من داخل المؤسسة العسكرية. وبالرغم من حجم الضحايا، لم تتخل أجنحة العسكر عن صراعاتها السياسية أحيانا والدموية أحايين كثيرة، لم تتوافق على رئيس يقود الجزائر بعد الشادلي بنجديد . وبرز الصراع عندما تم في يونيو 1992اغتيال الرئيس محمد بوضياف الذي استقدموه من منفاه بالمغرب الذي قضى به 30 سنة . وتأجج هذا الصراع أثناء إسناد الرئاسة إلى الجينرال لامين زروال الذي لم يطق تغول رموز المؤسسة العسكرية وقدم استقالته (أو إستقالوه كما عبر الجزائريون عن ذلك من خلال دمجهم لكلمتي أقالوه وهي الحقيقة واستقال وهو الإدعاء) في شتنبر 1998 . لتفتح هذه المؤسسة مطبخها وتصنع رئيسا جديدا للبلاد كانت عينه على الرئاسة بعد وفاة الهواري بومدين وهو عبد العزيز بوتفليقة. بوتفليقة : تصفية الحسابات بأثر رجعي « لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس» . جملة قالها عبد العزيز بوتفليقة وهو يطبخ على نار هادئة في مطبخ المؤسسة العسكرية لتسند إليه رئاسة الجزائر. وكرر بوتفليقة الجملة في حملته الانتخابية الشكلية في ربيع 1999 بعد أن انسحب جميع المرشحين بسبب الدعم الواضح والمكشوف للجيش له.كان بوتفليقة يعرف أن ثقل هذه المؤسسة وتشعبها في مناحي الحياة قد تجعله رهينة أو مجرد موظف لديها ينفذ قراراتها . احتوت لائحة المستهدفين على خمسة عشر جينرالا لم يفلح في ولايته الأولى(1999 – 2004) على زحزحة سوى أحد أبرزهم الذي كان الشخصية القوية وهو الجينرال محمد العماري الذي عارض ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية ثانية. لكن الإطاحة بهؤلاء الخمسة عشر وغيرهم تم في الولايات الرئاسية التالية إلى اليوم. ويبدو أن بوتفليقة استطاع أن يغير موازين القوى في المؤسسة العسكرية ويعيد انتشار الأجنحة المتصارعة إما بإغراءات وظيفية أو إعفاءات متلاحقة أو تهميش متعمد . وبدا وكأن الرئيس يصفي حسابات قديمة مع شخصيات طبعت تاريخ البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي . لقد أحال على التقاعد الفريق محمد مدني (توفيق) واللواء جمال كحال مجذوب وأحمد ملياني والفريق أحمد بوسطيلة قائد أركان الدرك وقبلهم اللواء شريف فوضيل والعربي بلخير الذي عينه سفيرا بالرباط سنة 2005 إلى حين وفاته سنة 2010. ومحمد قنايزية الذي كان نائبا لوزير الدفاع وإسماعيل العماري أحد أقوياء جهاز المخابرات وأحد أبرز مهندسي الاتفاق مع «الجيش الاسلامي للإنقاذ» عام 1999 والذي توفي سنة 2007... وحتى المتقاعدين لاحقهم نظام بوتفليقة. فبالإضافة إلى اعتقال اللواء حسان، هناك حسين بن حديد الذي وصف في حوار إذاعي في شتنبر الماضي سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، ب"المختل عقليا". وقال إن"سعيد بوتفليقة هو الحاكم الفعلي للجزائر ويخطط لتولى منصب الرئيس في مكان أخيه". وأنه كان وراء تنحي مسؤول الاستخبارات الجزائرية الجنرال توفيق مدين "بهدف فتح الطريق أمامه لتولي منصب رئيس الجزائر خلفا لأخيه عبد العزيز بوتفليقة". واتُهم بن حديد وفقاً لقاضي التحقيق العسكري، ب»إفشاء أسرار عسكرية، اطّلع عليها خلال فترة عمله في المؤسسة العسكرية». ويعتقد بعض المراقبين أن «أبرز أسباب اعتقال بن حديد، لم يكن بسبب مهاجمته بوتفليقة وشقيقه وقائد أركان الجيش، بقدر ما كان بسبب إعلانه استعداده تقديم شهادته حول ماعرفته البلاد خلال مايصطلح عليه بالعشرية السوداء في التسعينيات، والتي أدى فيها الجنرالات دوراً رئيسياً، بعد إقدامهم على دفع الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة في يناير 1992». ودون شك، فإن هذه الحرب التي شنها النظام الجزائري ضد رموز مؤسسته العسكرية ماهو في نظر المتتبعين إلا محاولة لتعبيد الطريق للرئيس المقبل . وهي امتداد لصراع الأجنحة كل يسعى للتمكن من موازين القوى وامتلاك سلطات القرار . وبموازاة هذه الحرب، برزت كتابات هي بدورها تصفية حسابات بالرغم من أنها احتوت على معطيات بشأن حقبة التسعينيات. ومن أبرز هذه الكتب : كتاب سنوات الدم للعقيد محمد سمراوي الذي سبق له أن تولى منصب مساعد مسؤول مديرية أجهزة مكافحة التجسس إسماعيل العماري من 1991 إلى 1992 قبل أن يعين مسؤولا للأمن العسكري في ألمانيا، إذ حصل على اللجوء السياسي بعد انفصاله عن الجيش في العام 1996. ويتضمن الكتاب اتهامات مباشرة للمؤسسة العسكرية بتورطها في التصفيات والاغتيالات الجماعية لتنظيم «الجماعة الإسلامية المسلحة» والذي ينتمي أمراؤه إلى الأمن العسكري. كتاب الحرب القذرة لحبيب سويدية الذي اضطر إلى مغادرة الجزائر وسعى لللجوء إلى فرنسا بعدما سجن في بلاده. ونشر كتابه كما قال بعد»شعوره بالندم ومحاولة هدم جدار الصمت الذي يحيط بجرائم الجيش، يروي مشاهداته ومشاركاته الشخصية في «القوات الخاصة» التي كانت مهماتها «قذرة» كما يقول. فبعد انضمام سويدية إلى هذه القوات، شهد بأم عينيه صنوف الرعب والعذاب، كما وقف على مشهد ذبح الجنود المتخفين على هيئة إرهابيين لمدنيين في قراهم، وإلقاء القبض على مشتبه به وإعدامه دون الاكتراث بمحاكمته. وآخر الكتب «جزائر الجنرلات» لإلياس العريبي الذي قال فيه إنه «لا يريد أن يبقى ساكتا» ، ويريد أن يكشف الغطاء عن «القتلة الحقيقيين» الذين أسسوا الحركات المسلحة في الجزائر تحت صيغة إسلامية لأجل إبادة الجزائريين ولأجل الإبقاء على الفوضى الكبيرة في البلاد كي لا يساءلوا عن شيء ولا يغادروا مناصبهم إلا بموجب التقاعد وليس التنحي الذي يعني فتح ملفات خطيرة أولها الملف الأمني وثانيها ملف الفساد والنهب واغتيال الديمقراطية الفتية في البلاد.. هو إذن تاريخ حافل من الصراعات وتصفية الحسابات بوسائل شتى وبأثر رجعي أحيانا . ومن أبرز عناوينه التي لايجب أن تنسى المحطات الانقلابية : أزاح بومدين الرئيس بنبلة وسجنه . وتمت إقالة الشادلي واغتيال بوضياف وغادر زروال المرادية مرغما .أما بوتفليقة الذي نصبه العسكر فقد انقلب على الدستور، كي يتربع على كرسي الرئاسة أربع ولايات بالرغم من تدهور وضعه الصحي .