هل يستطيع الشعر أن يؤرخ لمعالم توهج فضاء المدينة ؟ وهل تستطيع القصيدة أن تغطي الثغرات المكتنفة لسجل التاريخ ؟ وهل يؤسس القول الشعري لمعالم رصد تطور تاربخ الذهنيات في علاقته بنغيرات الواقع المادي ؟ وكيف يمكن للقصيدة أن تساهم في توفير جزء من المادة الخام للتوثيق لإبدالات التاريخ الثقافي والتراث الرمزي الدال على تساكن الفرد والجماعة مع عطاء الواقع المادي المباشر ؟ أسئلة متناسلة، تفرضها سياقات صدور ديوان « في مديح اللؤلؤة الزرقاء «، خلال مطلع السنة الجارية ( 2015 )، في ما مجموعه 128 من الصفحات ذات الحجم الصغير. فهذا العمل عبارة عن ترجمة راقية من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية لمجموعة من النصوص الشعرية أنجزها شعراء ينتمون لأجيال مختلفة غطت عقود القرن الماضي من بدايتها إلى نهايتها، التقت في الولع بفضاءات مدينة شفشاون وفي الافتتان بعوالمها العميقة وبنوسطالجياتها المتجددة. ويبدو أن هذا الديوان، الذي أشرف الأستاذان محمد أخريف وعبد السلام مصباح على ترجمة كل قصائده، قد استطاع أن يعيد تركيب العديد من التفاصيل اليومية والجزئيات الحميمية في أشكال تطويع الإنسان لخصوبة المكان، بحكم انتظامها في سياق الرؤى التفكيكية للشواهد المادية والرمزية وللوجوه وللألوان وللأشكال وللحركة داخل فضاء مدينة شفشاون. هي رؤى جمالية تحسن التقاط نقاط الحسن، المادي والرمزي، ثم إعادة صياغته في إطار جمالي يتجاوز اللحظة الآنية، ليكتب لعناصر تأملاته وتشريحاته كل صفات الخلود والبقاء. ولعل هذه الميزة تشكل مدخلا لاستثمار عطاء الكتابات الإبداعية التأملية في جهود كتابة التاريخ الثقافي المحلي، لاعتبارات متعددة أهمها قدرة المبدع / الشاعر في هذا المقام، على التقاط تفاصيل ونقاط ضوء لم تلتفت إليها عين المؤرخ المتخصص بحكم انتظامها خارج منطق كتابته التجميعية المنهجية الصارمة. ولقد انتبه الأستاذ رضوان السائحي إلى قيمة هذا المعطى، عندما قال في كلمته التقديمية للديوان : « تبرز علاقة الشاعر بالمدينة من خلال الترسبات المتراكمة لمرحلة معينة عاشها بين أزقتها وفضاءاتها المختلفة من بيت وكتاب ومدرسة وفضاءات اللعب ... كالطفولة أو الشباب أو بعضا من عمره. وقد استطاع داخل هذا الإطار أن يرصد التحولات التي طرأت على المدينة كفضاء واقعي وتخييلي في نفس اللحظة التي يجسدها النص الشعري الذي يغدو فيما بعد ذا قيمة معرفية تسهم في توثيق جزء من تاريخ هذه المدينة ... « ( ص. 8 ). يحتوي الديوان على ثلاث عشرة قصيدة لشعراء ينتمون لمجالات جغرافية مختلفة، توزعت بين أمريكا اللاتينية وأوربا والمغرب، التقت في هذا الحب الفطري لحاضرة شفشاون ولعوالمها الحميمية المنفلتة من الزمن والمكتسبة لشروط أنسنة الواقع المادي، يتعلق الأمر بكل من كارمن كوماتشو، وخاثينطو لوبيث غورخي، وخديجة شمس محمودة، وأنطونيو رودريغيث غوارديولا، وأنطونيو غالا، وأنخيلا فيغيرا، وفرانشيسكو سالغيرو، وألفريدو بوفانو، ومحمد المامون طه. لقد استطاع هذا العمل إثارة الانتباه لمعالم البهاء الحضاري داخل فضاء مدينة شفشاون، كما استطاع التقاط الكثير من مكونات التراث الرمزي، المادي والمجرد، ثم إعادة الاحتفاء به في إطار إنساني واسع. وفي ذلك إنصاف لذاكرة مدينة شفشاون ولنزوع التأصيل لقيمها الثقافية العميقة التي تطلب أمر صقلها وتخصيبها عقودا وقرونا زمنية طويلة، تلاقحت فيها حضارات شتى وارتوت عبرها تطلعات أصيلة نحو الانصهار في ملكوت الجمال وفي عوالمه الإبداعية والإنسانية الراقية. هي قصائد تحتفي بالوجود وبالمكان، لتعيد الاغتراف من عبق التاريخ وتحويله إلى مرتكز للتأمل وللتفكيك وللتوظيف. وفي كل هذه العناصر، تنهض مهام المؤرخ المتخصص في رصد إبدالات التاريخ الثقافي لكي يبلور عدته المنهجية لاستثمار مثل هذا النوع من الكتابات التي تساهم في التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في إطار الكتابات التاريخية الحدثية التخصصية الحصرية. وإذا أضفنا إلى ذلك روعة النرجمة العربية التي أنجزها الأستاذان أخريف ومصباح، أمكن القول إننا أمام إصدار متميز لا شك وأنه يقدم مادة دسمة لكل عشاق مدينة شفشاون ولكل المدمنين على الولع بأزقتها وبدروبها وبساحاتها وبجدرانها وبوجوهها وبكل ما خلفه تساكن الروح مع الطبيعة في هذه القطعة الأندلسية الفريدة التي تختزل صفات « أندلس الأعماق «، كتراث حضاري وكامتداد تاريخي وجغرافي لا شك وأنه يشكل عنصرا مميزا داخل تركيبة الهوية الثقافية المغربية الراهنة. ولإنهاء هذا التقديم المقتضب، نقترح الاستئناس ببعض مما ورد من نصوص بديوان « مديح اللؤلؤة الزرقاء «، ففي ذلك اختزال لمجمل الخصائص الجمالية والثقافية في نسق الكتابة المهيمنة على روح الديوان، حسب ما أوضحنا معالمه أعلاه. ففي قصيدة « روح الشاون «، تقول الشاعرة خديجة شمس محمودة: « أمشي بأزقتك المنعرجة بمنازل زرقاء وأبواب مقوسة، أنظر لمساعدين كرسوا تصورهم لسحرك الألفي. في ممراتك الضيقة المعدة ليبق الناس متقاربين، تنام أنوار القمر وشموس ذهبية. مانحة أجنحة لحلمي المدريدي المشاء « ( ص. 22 ). وفي قصيدة « مقهى المغاربة «، يقول الشاعر الأرجنتيني ألفريدو بوفانو : « في مقهى الشاون تركت الساعات تجري بين مغاربة صامتين يلعبون الشطرنج. من فونوغراف لا يصدق ينساب صوت امرأة تغني أغاني عربية على أنغام رباب حزين. من نوافذ ضيقة يدخل هواء جبلي فيمتزج عبيره برائحة الكيف والسعوط ... ... بين قمم الشاون ترفع إفريقيا مجدها. في روحي تبكي أودية لكن لا أعرف لم ... « ( ص ص. 90 – 94 )