واقعة باريس الجمعة الثالث عشر من نوفمبر 2015 هي الحادي عشر من سبتمبر 2001 الثانية، سواء من حيث تقنياتها التنظيمية أو تداعياتها الأمنية والسياسية وانعكاساتها في أوروبا والمنطقة العربية ذات الشأن في كل ما يحدث من هزة عالمية. مع الأخذ بالاعتبار أن المعطيات الاستراتيجية والسياسية في واشنطن عند حصول واقعة البرجيْن كانت محضّرة لعمل عسكري مباشر لإسقاط نظام صدام حسين استحضرته مجموعات اللوبي اليهودي في ذلك الوقت، وتم تنفيذه عام 2003. وهاجم الأميركان أفغانستان انتقاما من طالبان والقاعدة. واقعة باريس كشفت وبلورت مفهوميْن مختلفيْن في السياسة والأمن يتحققان اليوم على الساحة الأوروبية والمنطقة العربية: الأول ينسجم ويعكس الدعوات العنصرية في أميركا وأوروبا التي أطلقها مروّجو الصراع الحضاري رغم التخفيفات التي خرجت عن السياسة الأوباموية منذ العام 2008. وترى هذه الدعوات في العرب والمسلمين ?دمويين متطرفين أقل شأنا من البشرية المدنية، ولا بد من الحذر منهم، ووضعهم تحت دائرة الشك الدائم?، وغالبا ما تنتعش هذه التيارات العنصرية الضيّقة في مثل هذا المناخ الدموي كواقعة باريس في الثالث عشر من نوفمبر وقبلها واقعة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك. وتدفع باتجاهات التضييق على الحريات الدينية والعقائدية التي تتمتع بها أوروبا وأميركا. فيما تنتعش أيضا تلك المنظمات الإرهابية المستظلة زورا وبهتانا بالإسلام، والضحية الحقيقية هي شعوب المنطقة المتطلعة للخلاص من الدكتاتورية والاستبداد ونيل الحرية، وكذلك شعوب العالم الأوروبي المتشبّثة بقيم الحرية والاستقرار التي حصلت عليها بعد أن تخلّصت من هيمنة الكهنوت الديني وحققت ثورتيْها الصناعية والتكنولوجية. وكان من الطبيعي في الظرف الحالي أن تتعزز النظرة المتشددة في المؤسسات الأمنية والاستخبارية الأوروبية، وتبدو وكأنها ملبّية لرغبات المتطرفين داخل أوروبا وأميركا ضد المستوطنين العرب والمسلمين، فيما يكسب المتطرفون الإسلاميون الرهان لتعزيز العداء ضد الأوربيين والأميركيين، وهو عداء مفتعل وغير حقيقي، وموجّه إلى الأجيال العربية الراغبة في التطور والتفاعل مع العالم المتحضر، ممّا عرقل ويعرقل إمكانيات التفاعل مع معطيات التطور البشري وثورته التكنولوجية الهائلة. كما سيحقق رغبة هؤلاء الإرهابيين في إدامة صراعات وحروب المنطقة الطائفية، وتعزيز صفقات المقايضة غير الشريفة بين حرية المتطرفين الإرهابيين والحفاظ على كرسي الحاكم المستبد، فيما تتدفق أمواج الملايين من اللاجئين هاربة من الموت بوطنها في كل من سوريا والعراق إلى شتات العالم، وهما بلدان كانا مزارا للأمن والاستقرار والطمأنينة. لا شك أن الإجراءات الوقائية الحالية ضرورية ومهمة ومطلوبة في بلد مثل فرنسا التي تشكل مركزا عالميا لقيم الحرية والعدالة باعتبارها صاحبة الصدمة الجديدة، وكذلك بريطانيا بما تمتلكه من إرث طويل في حقوق الإنسان والقوانين المستندة على القيم الأخلاقية، وبقية بلدان أوروبا، لكن تلك الإجراءات لن تتمكن من القضاء على الجرائم المحتملة للإرهابيين الذين وصلوا إلى مراحل متقدمة في سرقة التكنولوجيا والأسلحة القذرة، ويبدو أن هناك تعاونا بين جهاز ?داعش? المتطور وبين مختلف مافيات التهريب العالمية، وكذلك المساعدات اللوجيستية في كل من سوريا والعراق. كما أن داعش أكبر من أن ينتهي بإعلانات محلية دعائية كتلك التي ينادي بها على سبيل المثال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ?إننا قررنا أن تنتهي داعش على أرضنا?. المفهوم الأوروبي الثاني تجاه أزمة الإرهاب العالمي يتعاطى أصحابه مع هذه المشكلة كجزء من تصنيف المواجهة الجدية ما بين قطبيْ الحضارة والحرية والتمدّن العالمي الذي تمثله الشعوب ونخبها من العلماء والمثقفين والأدباء والفنانين، وما بين التخلف والجهل والعنصرية والتطرف المستظلين أصحابه بالأديان والمذاهب والأيديولوجيات. وهذا الفريق الهمجي يجد ملاذاته في بيئات التخلف والجهل والدعوات الضيّقة وانعكاساتها لدى الأحزاب السياسية الطائفية التي نمت بسرعة في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط لأسباب استراتيجية ترتبط بمصالح الدول الكبرى ونهبها لثروات الشعوب. الصراع ما بين القطبين المتناقضين يجسّد قصة الحضارة الحقيقية الجديدة، لكنه من جانب آخر لم يتمكن من التحول إلى سياسات واضحة قادرة على تلبية الحاجات الإنسانية للشعوب في أميركا وأوروبا والمنطقة العربية وأفريقيا وآسيا الوسطى. وبسبب هذا الغموض وفقدان الخطط السياسية العالمية عبر منظمة الأممالمتحدة، وفشلها رغم مرور العشرات من السنين في تحديد مفهوم سياسي واضح للإرهاب، ممّا سمح باللعب بهذه القضية الإنسانية الخطيرة من قبل السياسيين المحليين، لتصبح غطاء للقمع والاضطهاد الطائفي والظلم والاستبداد والقتل والتدمير، وأداة حيوية من أدوات الحفاظ على كراسي حكم المستبدين مثلا في كل من سوريا والعراق كمركزين أصبحا قاعدة لأكبر جهاز إرهابي خطير على الإنسانية (داعش). هذه المعركة العالمية بين قوى الإرهاب والطغيان والاستبداد من جهة، وبين شعوب العالم المتحضر وشعوب المنطقة من جهة ثانية، لا بدّ أن تدار بشمولية وبعمق جديين. وينبغي التخلي عن سياسات المصالح الأنانية للدول الكبرى التي تستثمرها الأنظمة المستبدة الطائفية في المنطقة لمصالحها الخاصة، وأن يتم طرح الحلول العالمية المقترنة بإجراءات من مجلس الأمن الدولي كمؤسسة حامية للأمن العالمي. وأن يتم توصيف وعزل التطرف والإرهاب وكشف علاقات منظماته بصورة جدية. والمجتمع الدولي مطالب بفتح ملفات داعش ومخاطرها والأسباب السياسية الحقيقية وراء احتلالها لكل من سوريا والعراق، والوصول إلى الحلول الجدية المقترنة بقرارات دولية ملزمة، لا أن تنخدع الدول الكبرى بالدعايات الرخيصة لتلك الأنظمة بأنها ?تحارب الإرهاب?. وكجزء من مهمات إدارة هذه الحرب الكونية لا بد من الدخول المباشر في إجراءات عملية منظمة داخل بلدان أوروبا الغربية وأميركا تقوم بها هيئات تنفيذية مرتبطة بجهات محلية مسؤولة تشارك فيها نخب من العرب والمسلمين من بين المثقفين والإعلاميين، تهدف إلى تخليص الرأي العام الإسلامي من المفاهيم الملتبّسة حول الدين والدعوة الإسلامية، والعمل الاستثنائي على تنظيف المراكز الإسلامية (المساجد والحسينيات) من المشعوذين المدعين زورا بالدين وطردهم وغلق جميع المساجد والحسينيات التي تجلب الشبهات. والعربي أوالمسلم الأوروبي يمكن أن يدرأ الخطر عن نفسه وأهله ومجتمعه ويقيم عباداته في بيته، إذا كان المسجد أو الحسينية مكانا خطرا على الأمن، واستثمار الوسائل الإعلامية في الصحافة والقنوات الفضائية الناطقة بالعربية ومركزها في تلك البلدان، وكذلك منظمات المجتمع المدني العربية والإسلامية في تلك البلدان لفضح أغطية تلك الدعوات المتطرفة.