لا شيء ينبئ بأثر الأفلام على النفوس أكثر من تلك اللحظة الدقيقة التي تلفح فيها "روتينية" العالم روحك وأنت تخطو خارج مبنى السينما. فإن استقبلت الكون كما تركته أو كما تخرج عادة من بيتك أو من العمل، وأنت لا تفكر في شيء غير ماديات الحياة اليومية أو عدت إلى اجترار الأفكار نفسها التي كانت تراودك قبل العرض، فاعلم أن ما شاهدته هو شيء ما غير السينما. أما إذا استقبلت العالم وكأنه لكمة خاطفة من يسرى ملاكم محترف، أو منبه قطار سريع شق طريقه وسط الضباب فلم تنتبه له إلا وهو على بعد أمتار معدودة منك، فإنك حتما كنت شاهدا حيا على معجزة إسمها السينما، تلوك فؤاد المرء بفكين من جمال وحكمة، ثم تلفظه إلى الوجود كائنا غير الذي كانه. في واحدة من ليالي نونبر 2008 الباردة، ترجّلت من "قاعة السفراء" بقصر المؤتمرات، حيث حضرت عرض "باري ليندون" (1975) لستانلي كوبريك، في إطار مهرجان مراكش الدولي للفيلم. تركت السيارة وهمت على وجهي في شوارع غيليز الخالية. قشعريرة الانتشاء لازالت تسري في أوصالي ودموع التطهير لم تجف عن خديّ بعد، وأنا أمشي عائما فوق الأشياء، كأني داخل فقاعة تعزلني عن العالم المحسوس. كنت منفصلا تماما عن محيطي، لكني في الآن ذاته، منغرسا في قلبه بحدة لم أعهدها من قبل، مدركا لأبعاد كانت خفية عني حتى تلك الساعة. لقد أعاد الفيلم صياغة علاقتي بالواقع وبنفسي. لطالما خبرت سحر السينما قبل تلك الليلة، لكني لم أكن أتخيل يوما أن بمقدورها أن تذهب إلى هذا العمق المهول في غياهب الروح البشرية كي تكشف "بعنف" عن الإنسان الكامن داخل كل واحد منا. السينما الحقة شبح يخرج من قمقمه مع إشعاع كل جوهرة فيلمية ليقض مضجع الأفكار المسبقة والمسلمات والقوالب الجاهزة والطابوهات، طيف يسكن نفس المرء على حين ظلام ولا يتركها ما دامت حية. يقول سيرج داني: " الفيلم هو منزل أو منظر طبيعي ننزلق داخله كي نتيه عن أنفسنا ثم نجدها، وقد انعتقنا من الفيلم، ونحن أحرار أن نعود إليه فيما بعد، مندهشين أن ثمة هناك سبل أخرى كي نلج إليه. هنا يكمن لغز ما هو عصي عن التفسير لكنه يبقي مع ذلك على شعلة الرغبة".