تفاعل، بالقاهرة، المشهد الثقافي والفني والإعلامي المصري بقوة مع فاجعة رحيل الناقد السينمائي والأديب المغربي، الصديق مصطفى المسناوي، صباح يوم الثلاثاء الماضي، إثر أزمة قلبية حادة. إذ ما أن قمت بتعميم الخبر على عدد من المصادر الفنية والإعلامية، هنا بالقاهرة، لأن قدري شاء أن أكون الوحيد من ضيوف المهرجان السينمائي الدولي للسينما بالعاصمة المصرية، في دورته 37، الذي كان معه لحظة مصارعته للموت ووفاته رحمه لله، وقد كانت لحظة رهيبة. ما أن تم تعميم الخبر حتى تقاطر على فندق ماريوت الزمالك وعلى المستشفى الامريكي، حيث نقلت جتثه إليه رحمه لله، بتعاون مع إدارة الفندق، العشرات من إدارة المهرجان تتقدمهم رئيسته السيدة ماجدة واصف، ومبعوث خاص من وزير الثقافة المصرية، هو الأستاذ خالد عبد الجليل مستشاره في الشؤون السينمائية، حاملا رسالة نعي موقعة من وزير الثقافة المصرية الأستاذ حلمي النمنم. كما أصدرت نقابة الفنانين المصرية بلاغا تأبينيا وكذا نقابة نقاد السينما المصرية وإدارة مهرجاني الإسكندرية والأقصر للسينما. مثلما حضر شخصيا إلى الفندق مدير قناة النيل المصرية أحمد شرف، الذي ظل يبكي بحرقة رفقة الأستاذ خالد عبد الجليل، فيما انهار تماما، غير قادر على الوقوف، منخرطا في لحظة بكاء طويلة، صديقنا المشترك أنا والأخ المسناوي، المخرج المصري الكبير مجدي أحمد علي. مثلما تقرر تنظيم حفل تكريمي خاص بالراحل بقاعة مسرح الحضارة ضمن دار الأوبرا بالقاهرة أمس الخميس، حضره سفير المغرب الأستاذ محمد سعد العلمي، وفعاليات عدة مصرية وعربية. مثلما بلغتني رسالة تعزية من الأصدقاء بإدارة مهرجان دبي السينمائي لنقلها لعائلته رحمه الله، وأصدرت إدارة مهرجان قرطاج السينمائي الذي سيفتتح نهاية هذا الأسبوع بتونس، بلاغ نعي جد مؤثر، مخبرا أن إدارة المهرجان قد قررت تخصيص يوم تكريمي لأخينا الراحل مصطفى المسناوي رحمه الله. إلى جانب كل هذا الحضور المصري، التضامني الوازن، حضر طاقم كبير من ديبلوماسيي السفارة المغربية، منذ اللحظات الأولى، بعد أن اتصلت بالصديق، الديبلوماسي المغربي المحترم، عبد الصمد منقاشي، الذي حضر رفقة عدد من أطر السفارة، حيث بقي معي طيلة اليوم، في عمل إداري وتنظيمي جبار ومتعب جدا، اثنان منهما إلى جانب الأستاذ منقاشي، هما الإطار المحترم الوزير المفوض بالسفارة، الأستاذ عبد المجيد الركراكي وزميله الدقيق جدا في إنجاز مهامه، محمد ميزري، هما من تكفلا بكل الإجراءات لتسهيل نقل الجثمان إلى المغرب (علما أن الصديق منقاشي المنحدر من وزان، صديق حميم لعائلة حمضي الإتحادية الشهيرة بتلك المدينة. فيما أخبرني الأستاذ الركراكي أنه صديق للأخ جمال أغماني الذي درس معه منذ مرحلة الإبتدائي ثم الإعدادي والثانوي). مثلما حضر عدد من الزملاء الصحفيين المصريين، كان دور اثنين منهما حاسما ومؤثرا، هما الزميلان أحمد فايق صاحب أنجح برنامجين تلفزيونين اليوم بمصر هما برنامج "صاحبة السعادة" الذي ينجزه رفقة الفنانة إسعاد يونس، وبرنامج "مصر تستطيع" الذي يقدم من خلاله حلقات عن مختلف عقول مصر المهاجرة عبر العالم، وهو برنامج جد موفق، فكرة وإنجازا. ثم الزميل مصطفى الكيلاني، المستشار بوزارة الثقافة المصرية. فيما تكفل الزميل المغربي أحمد الدافري، بتنسيق كل الإتصالات الإعلامية وتسلم حقيبة الصديق الراحل مصطفى المسناوي، بعد أن أنجز محضر رسمي بحضور الشرطة المصرية، لجرد كل متعلقاته، تم التوقيع عليه من قبلي بصفتي كنت آخر من بقي مع الراحل وكذا مسؤول تنفيذي بفندق ماريوت والديبلوماسي المغربي عبد المجيد الركراكي. وبسبب تداعيات مساطر إدارية بطيئة، كان يوم الثلاثاء يوما طويلا جدا لإنهاء إجراءات استصدار شهادة وفاة طبية رسمية وتصريح طبي يسمح بنقل الجثمان بعد وضعه في صندوق إلى المطار، وهنا لعب الديبلوماسي المغربي الركراكي دورا محوريا كبيرا إلى جانب طاقمه العامل معه، بالتوازي مع تدخلات حاسمة للزميل أحمد فايق بالتنسيق مع مستشار وزير الثقافة المصري، الأستاذ خالد عبد الجليل. وبعد أن تمكن الجميع من نقل الجثمان إلى المطار في منتصف ليلة الثلاثاء/ الأربعاء، بغاية نقله عبر رحلة الخطوط الملكية المغربية في السادسة صباحا، وإنهاء كل الإجراءات القانونية والأمنية مع إدارة الجمارك المصرية وإدارة مطار القاهرة الدولي، تدخلت مصالح أمن الدولة المصرية لتطلب عدم بعث الجثمان حتى تسمح هي بذلك، بسبب تداعيات صدور البلاغ الرسمي للدولة الروسية الذي أكد أن عملا إرهابيا من خلال قنبلة تزن كيلوغراما من مادة متفجرة، هو السبب في تفجير طائرة الركاب الروس فوق سيناء مؤخرا. فكان أن تم إنزال الجثمان لإعادة إجراءات الشحن تحت مراقبة أمن الدولة المصرية، الذي باشر إجراءات أمنية جد مشددة وغير مسبوقة بكل مطارات مصر. فتم تأجيل ترحيل الصندوق ل 24 ساعة. وأنا أستعيد تفاصيل ما جرى في رمشة عين مع صديقي وأخي المسناوي، أجد جديا أن بعض الكتابة صراخ. وأن بعض ذلك الصراخ محاولة للتخلص من الألم. لا أريد أن أكتب هنا عن سيرة قصة علاقتي بأخي وصديقي مصطفى المسناوي التي تمتد على 27 سنة، بل أريد فقط، أن أحكي عن آخر لحظاتي معه هو الذي توفي بين يدي. كنا وصلنا القاهرة معا، رفقة الصديق والزميل أحمد الدافري وأيضا الصديقين شعيب حليفي وإدريس علوش اللذين كانا في الطريق إلى لقاء أكاديمي بمكتبة الإسكندرية، ليلة الأحد في التاسعة ليلا بالتوقيت المحلي، وبلغنا فندق ماريوت الزمالك في الحادية عشرة ليلا، وكالعادة بيننا أنا وإياه، بمجرد أن وضعنا حقائبنا نزلنا نجوس في ليل قاهرة المعز. أخدتنا الطريق إلى ساحة طلعت حرب، كما تعودنا معا دوما، وولجنا إلى ناد للصحفيين والكتاب والفنانين المصريين، علنا نجد صحبة من صداقاتنا المصرية. كان الوقت متأخرا، والقاهرة على غير عادتها فارغة تماما. لكن فجأة ودخل الصديق إبراهيم داوود، مدير تحرير القسم الثقافي والفكري بيومية الأهرام المصرية، وطال بنا المقام حتى الواحدة ليلا. تواعدنا على زيارته بمكتبه بالأهرام وأيضا لنلتقي الشاعر عبد المعطي حجازي زوال الثلاثاء. خرجنا أنا ومصطفى وقلت له أن نقطع المسافة من ساحة طلعت حرب حتى الزمالك مشيا على الأقدام. كانت الشوارع فارغة تماما، عبرنا من جهة ميدان التحرير وصعدنا من جهة ماسبيرو (مقر التلفزيون المصري والإذاعات المصرية) ثم مقر وزارة الخارجية. كان مطر خفيف يسقط، ومررنا طيلة الطريق من جهة كورنيش وادي النيل. وكل الطريق كالعادة ضحك وقفشات ونقاش سياسي حول مصر وحول المغرب وحول الجزائر. في الغد كان اللقاء مع الصحب من كل العالم العربي بمقر دار الأوبرا المصرية بالهناجر، مع الأصدقاء الفلسطيني رياض أبو عواد، الصحفي الفني والثقافي بمكتب وكالة الأنباء الفرنسية بالقاهرة، والناقد اللبناني الحجة إبراهيم العريس من يومية «الحياة» اللندنية، ثم صديقنا العراقي انتشال التميمي، الناقد السينمائي والمسؤول ضمن مشروع سند لدعم السينما بأبوظبي، وصديق عراقي آخر نلتقيه لأول آت من لندن. في المساء، كان اللقاء مع الصديقين المصريين مصطفى الكيلاني وأحمد فايق. فهما من أكثر أصدقائنا الحميمين بالقاهرة، وكلاهما من خيرة الجيل الجديد من الصحفيين المصريين. كالعادة، كلم أخونا فايق زوجته الجزائرية وقال لها أن لا تنتظره لأنه مع مصطفى ولحسن، وأخدنا رفقة صديقه الحميم الحسين بسيارته إلى منطقة المهندسين لتناول العشاء في مطعم لبناني جميل إسمه «كاراكاس». كانت ليلة ثانية ممتعة، ضحكنا فيها حتى دمعت أعيننا، وتناقشتنا سينما وسياسة وصحافة وعدنا في منتصف الليل إلى الفندق. كان الصديق المخرج المصري الكبير أحمد مجدي علي، قد حجزنا في اتصال هاتفي للعشاء معه الثلاثاء، بينما كان لنا موعد لقاء مع صديق مغربي كبير، مسؤول ديبلوماسي بسفارة المغرب بالقاهرة هو الرجل الفاضل الخلوق عبد الصمد المنقاشي، صباح الثلاثاء. في ذلك الثلاثاء، رن هاتف غرفتي بفندق ماريوت في السادسة والنصف صباحا. كان صوت مصطفى متعبا، وقال لي إنه يشعر بمغص شديد في بطنه. توجهت إليه في غرفته، وقلت له أن نطلب طبيب الفندق، فأخبرني أنه طلبه هو أيضا. كان يدرع الغرفة جيئة وذهابا من شدة الألم. قال لي «ربما أثقلت في الأكل البارحة». قلت له قد لا تكون المعدة، بل ربما القلب، فهل تناولت أدويتك اليومية المعتادة، أجابني أنها تناولها قبل نومه. كان الألم يزداد، حين وصل الطبيب الذي سأله ما أكله، لكنني أخبرته أنه مريض بالقلب وسبق أن أجرى عملية جراحية منذ سنتين وشكي يذهب في اتجاه آخر، وألححت عليه في طلب سيارة إسعاف لنقله إلى أقرب مستشفى. اتصل بمساعد له وطلب منه إحضارة آلة رسم القلب وأن يتصل بسيارة إسعاف مستشفى الصفاء. بعد 10 دقائق خرجت ورقة تخطيط القلب تؤكد أنها أزمة قلبية حادة. كان حينها مصطفى قد بدأ يستشعر ألما في صدره ويعرق. مددناه على السرير ليرتاح وطلب في أن نسرع بنقله لأقرب مستشفى وليس بالضرورة مستشفى الصفاء، فكان القرار أن نأخده للمستشفى الأمريكي قرب نادي الأهلي بالزمالك لقربه من الفندق. بدأ حينها يتألم وينطق بالشهادتين، مازحته أن زمن الشهادة لا يزال بعيدا. لم يجبني بل واصل نطق الشهادتين، أدركت أن ألمه فضيع. نزلت بسرعة إلى بهو الفندق أستعجل وصول سيارة الإسعاف، وصعدت مع الطبيب الثاني الذي حضر وممرضين وجمهرة من مسؤولي الفندق. حين وصلنا الغرفة كان قد بدأ يدخل في غيبوبة، حملوه بسرعة إلى سيارة الإسعاف، وركبت معه. توقف عن نطق الشهادتين ودخل في شبه غيبوبة مع بضع حشرجات صغيرة. كنت أصرخ في سائق السيارة أن يسرع أكثر. في منتصف الطريق قال لي الطبيب المرافق لقد انتقل صديقك إلى رحمة الله. صمتت. فقط صمتت، وبقيت أردد بعد لحظة ذهول «لا حول ولا قوة إلا بالله»، منذ أقل من ساعة كنا نتكلم معا والآن هو صامت إلى الأبد. أدخلناه ثلاجة المستشفى، واتصلت أولا بابنه أنس في أبوظبي، وكان أول من اتصلت به لأخبره حتى لا تتلقى العائلة صدمة الخبر عبر وسائل الإعلام أو المواقع الإلكترونية. ولأنه، أيضا، لم تكن لي القدرة للإتصال بزوجته الأستاذة ليلى جمال لأخبرها، فما الذي سأقوله لها وأنا أعرف عمق العلاقة التي بينهما كرفاق حياة. كان أنس صلبا، فعلا رجل من ظهر رجل. ثم اتصلت بمصادري بالسفارة المغربية، ثم أخبرت صديقنا مصطفى الكيلاني الذي طلبت منه إخبار إدارة المهرجان. هل مات مصطفى المسناوي؟. ما أمكر الحياة وما أخبث الموت. منذ 48 ساعة لم أنم. منذ 48 ساعة وأنا تائه روحيا. هل حقا مات مصطفى بين يدي؟ ما هذا المزاح السمج للموت؟. هل سأعود لوحدي في الطائرة؟. كم أنسى أن أجمل الفرسان ذاك الذي يسقط في ساحة معركة فروسيته. مصطفى فارس مغربي في الفكر والأدب وفن السينما، ومكر القدر شاء أن يسقط في محفل كبير للسينما بالقاهرة.