هناك اختلال ما في هذا العالم .. اختلال لا يتجرأ على تناوله ومعالجته سوى قلة من الشعراء من أمثال اللبنانية زينة عازار التي عاجت على الكتابة من التشكيل .. عبر باكورتها الموسومة ب « غيمة للتوازن» الصادرة عن دار مخطوطات بالأراضي المنخفضة .. يتكون الديوان من ثلاثة وخمسين نصا شعريا ، لم تعنونها الشاعرة عمدا وعن سبق إصرار وهي المصرحة « لن يُعطى هذا العالم اسما لئلا يموت في اللحظة / القادمة / يجب أن تكون الأشياء هكذا / مجهولة / كي تبقى جميلة و بعيدة عن المتناول تؤسس الشاعرة في منجزها لقول شعري يتجاوز المتاح مما يضعنا نحن القراء أحيانا أمام قصائد / شذرات تشكيلية تمارس فيها لعبة الظهور والاختفاء تمتح من التشكيل في لعبها على الضوء و العتمة .. هي نصوص شعرية بتمويهات دلالية موغلة في الإيحائية .. منذ البدء ، تعلن الشاعرة أن ما سيأتي مجرد كلام سيتلاشى ، و كل هذا البوح الرقيق والمحرق في نفس الآن مجرد حلم لا يساوي شيئا أمام المعاناة الوجودية للإنسان سوف يُكتب كلام هنا / في وقت دائم التأخر / ثم يذوي مع كل نفس في العالم /مجرد امّحاء لما كان يجب أن يحدث / لكنه لم يحدث .. ( ص 9) ومنذ البدء نعلن نحن أيضا بنوع من المجازفة غير المتحفظة أن تجربة عازار مساءلة شعرية لواقع فعلي تعيد إنتاجه بطريقة تشكيلية ، عازار في خياراتها الفنية معجما وتركيبا ومجازا لا تكتب الشعر ، فلنصوصها حضور خاص ، تبدو وكأنها تحول الحياة إلى قصيدة بحثا عن توازن روحي كي لا يختل العالم ، تشكلها عبر تصورها للوجود ، مادام الشعر لا قواعد تقيده ماعدا الصورة الفنية والإيقاع المساير لأوزان الأحاسيس و الرؤيا الوجودية ، وهي ما يمنح قصيدة النثر عندها تأشيرة وجودها الإستيتيكي ولأن الشاعرة ترفض واقع الحياة المادية الصارخة ، واقعا فُقدت فيه قيم الجمال في ظل حياة هشة، فهي ترى أننا في حاجة دائمة إلى شيء عارض ، شيء ما يخلخل السكون والاستكانة .. أ لسنا في في حاجة دائمة لغيمة كلما أحسسنا بانخناق الحياة في رتابتها؟ أوأحسسنا بالقهر أمام هذا الجبار المسمى الزمن؟ إن الشاعرة بهذا تتناص معارضة بيت تميم بن مقبل : ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه و هو ملموم إن تيمة الزمن حاضرة بقوة في أغلب نصوص الديوان .. كما هو حضور الموت و تيمات صغرى تتقاطع مع كبرى في ثنائيات متقابلة رئيسة ، مع ثنائيات ثانوية (الثبات و الحركة المرتبطان بالحياة و الموت أو اللذة والموت ). . إن الشاعرة تسابق الزمن / كأن الفقد كثير و الأيام معدودة / 46 الشاعرة زينة عازار في تشكيلها لعوالمها تعرف كيف تقيم التواشجات بين الإنسان و عناصر صغيرة قد تبدو كأكسسوارات لا قيمة لها ولا يمنحها الإنسان أدنى اعتبار، بينما تضعها الشاعرة بتأملها و مغازلتها المريرة أحيانا في بؤرة الصورة الشعرية . تشعرنا وهي تشارك الأشياء وجودها أن لها نظرة مغايرة لهذه الأشياء ، فتقدمها لنا في حزنها البهي . قد تبدو نصوص عازار موغلة في الذاتية ومنذورة لخوف شخصي / أجل أخاف الليل / لكن في تركيزها على ضمير المتكلم ، تتماهى أنا الشاعرة مع أنا القارئ ، و المفارقة الأكبر حيث يبلغ التماهي ذروته حين تستخدم ضمير المخاطب ، وتجعل القارئ يلتقط معها التفاصيل الصغيرة ويلامس بأصابعها المتخشبة أشياءها الخاصة ، يوصد معها الأبواب ويقلب الصفحات .. نصوص الديوان احتفاء بالحياة مع نقيضها ويتجلى ذلك في اعتمادها تلك الثنائيات المتقابلة ، اللذة الممزوجة بالألم . ألم الغياب و المسافة و قهر الزمن .. لهذا فنحن في حاجة لغيمة للتوازن .. الحب قاتل بثباته ، ويكون الحب مجرد ذكرى بعد الرحيل .. والرحيل هنا يأخذ وجهين : رحيل مذموم ورحيل مشتهى ، وكلاهما حاضر بحضور الزمن النفسي ، ذاك الذي يسرع إذ نريده أن يتوقف ، وقد يكون واقفا لا يتحرك ، تشمئز من ثباته الذات، مما يثير فينا الملل فتهفو النفس للفعل و الحركة . إنه رفض لواقع ثابت ساكن ، جامد وبارد .. وهو بهذا سيكون رديفا للموت . هذا النوع من الزمن تأبى الخنوع له ، ليس خوفا من الموت بل توقا للفرح . هذه التقابلات تمنحها الشاعرة إيقاعا ينبني على تكرار الأوزان الصرفية في انسجام مع تكرار البنى التركيبية، مما يعطي لمنجزها احتمالية المعنى ، دلالة ممكنة مستشفة من تراكيب تقتضي قواعد لغوية مفروضة، ما بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية علما أن ارتباط الاسم بالثبات و الفعل بالحركة حاضر في نصوص الديوان سواء كان بقصد أو عن غير قصد .. أما الآخر بالنسبة للشاعرة العالم كله خارج الذات فيبدو غريبا عنها أو هي الغريبة عنه .. فقط ذلك الذي في الحلم قد تنصهر معه ، ذلك الممكن أو المحتمل فقط ، تلك الروح المفقودة ، البعيدة وغير الموجودة واقعيا ، هي وحدها يمكن أن يجعلها تحس بالامتلاء ، لكنه إحساس ظرفي مؤقت كغيمة صيف ، لحظة عابرة لالتقاط الأنفاس .. / كما أن البقاء / لحظة/ المكان الوحيد حيث يمكننا التوقف/ لالتقاط أنفاسنا على هذا السرير / نعانق السيل / (ن 18). قد يبدو شعر عازار شفافا حد الغموض ، فهي تخلق عوالمها و تصنع شخوصها وتمنحها الحياة تجاوزا لخيبات الإنسانية و ماديتها الصارخة ، لا يتعبها ما يتعب الآخرين .. معاناتها في ذكرى ، في مكان تقصيه المسافة ، في الفقد .. / في الجيب ما يتعبني أيها الإله الأوحد/ انزعه عني / ليست غربتي ها هنا / هو الوشاح و اكتمال الأماكن التي سكنتني / (نص 46) كل هذا ضمن إشارات موجزة تترك للمتلقي إمكانية ملأ البياضات و الربط بين عناصر تنبني على الثورية عبر مقدمة أولى فقفز على الثانية ثم نتيجة : / في ذاكرة الخشب / قصة قديمة / منسية تحت كرسي / قديم أيضا / لكل إنسان شجرة مشابهة / (نص 9) الكتابة عند عازار غريبة غرابة الذات في وسط ترفضه، مما يجعلها دائمة الاستشراف لحلم ممكن في ظل ملل يجثم على الصدر ، و يثقل هموم الروح في منفاها .. إن هذه الغرابة هي ما يمنح منجزها تلك اللذة الدائمة الانكشاف .. فنصوصها لا تُقرأ دفعة واحدة بل تُتلمّظ لتُستساغ ، فشعرها مسكون بالإيحاءات ورؤاها مسكونة بعوالم مفتوحة متسعة الآفاق تتشكل في أزمنة مطلقة ، تنطلق من الآني و الظرفي .. في ومضة ذكرى ، أو في التقاط لحظة عابرة أو أشياء صغيرة مهملة لتمنحها بعدا مجرّيا (نسبة إلى المجرة) ، لتصير في عوالمها صغيرة صغر الكرة الأرضية في درب من دروب الكون الرحب. تجعلك تحس بضآلة الفرد وانسحاقه وعجزه أمام الدهر والألم و الموت والرتابة و الفقد والمسافة .. في ظل خيبات الإنسانية المتواصلة ، وفي انتظار أشياء تأتي دائما بطيئة ومتأخرة / اترك لي أيها الموت كلمة/ 48 . إن الشاعرة زينة عازار لا تكتب، إنها تنكتب ، أو على حد تعبيرها تتمدد ، وهنا أيضا تكمن جمالية تجربتها الأقرب للتصور الغربي للشعر الحر المعاصر .