بعد أن تمكنت السينما العربية من تحقيق إشعاع عالمي واسع خاصة في السبعينات والثمانينات، فإن هذه الصناعة عرفت تراجعا في السنوات الأخيرة نتيجة تأثرها بالظروف الأمنية والسياسية لتحل محلها دواخل ثقافية أخرى غريبة في مضامينها عن العرب وهمومهم. ويبقى الحديث هنا عن الدراما التركية التي فرضت نفسها نتيجة تكيّفها الهلامي مع الواقع نتيجة لوقوف آلة ترويجية ضخمة خلفها. الرقم ليس عاديا، فقد سجل أحد المسلسلات التركية «نور» 85 مليون مشاهد عربي في الحلقة الأخيرة من السلسلة، ما يعكس انتباها استثنائيا لما يحويه هذا المسلسل من قضايا يطرسب حها، ولكن الأكثر جذبا للانتباه هو أن أبطال المسلسل يعدون نماذج بالنسبة إلى العرب في الجمال والسلوك الاجتماعي، الأمر الذي حفّز العديد من الباحثين والصحفيين وحتى رجال الدين للاهتمام بهذه الظاهرة والبحث عن مقاربات لفهمها، إذ لا تعد تلك المسلسلات سوى أبواب لإدخال ثقافة تركية ?معدّلة? على مقاس حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي عرف كيف يلج الوطن العربي من بوابة الفنون الدرامية. فمنذ البداية كانت السياسة التركية الخارجية، المنفتحة على العرب من قبل حزب العدالة والتنمية الحاكم، المنطق الحقيقي لهذه العلاقات، ذلك أن حزب أردوغان تمكن عبر آلة الدراما من تحقيق تغييرات في التمثلات الذهنية للمشاهد العربي إلى حد التأثير في سلوك البعض أو حتى العناوين الفنية لبعض أعمال العروض الشعبية داخل الدول العربية، وهذا ما يمثل رجة في تاريخ الفن والدراما العربيين، فقد بقي الوطن العربي يغذي نفسه بدراما صنعت من صلبه وتروّج داخل مجتمعاته. وتقول تقارير إن الأثر الاقتصادي لهذه المسلسلات يعد أثرا سلبيا نظرا لتمكنه من تعطيل دورة الإنتاج الدرامي العربي خارج مواسم الذروة (أساسا شهر رمضان). فقد تمكنت مسلسلات تركيا من غزو الفضائيات العربية التي تعتبر سوقا مربحة للإنتاج الدرامي، وبقيت العديد من الأعمال التي تتفوق على الإنتاج التركي في الإخراج والمضامين في الرفوف أو تحظى بمتابعة ثانوية. ويوفر الوطن العربي سوقا كبيرة للشركات، إذ يحوي 22 دولة ناطقة باللغة نفسها وهي حالة نادرة. فالعولمة المنبثقة عن تعدد وسائل الإعلام تستغل المساحات الثقافية المشتركة في الأسواق الكبرى لتحولها إلى قوى اقتصادية وسياسية غايتها في ذلك الربح المحقق لصالح الشركات العبر قطرية. وبالرغم من تباين العادات الاجتماعية والسلوكية بين ما تعرضه المسلسلات التركية والواقع العربي، وربما تناقض تلك العادات أحيانا مع طبيعة العادات العربية، فإن قوة الإنتاج الضخمة المؤسسة على دعم مادي مكنت من عبور هذا النوع الغريب من الدراما إلى كل الحدود، بل والثبات في مرتبة أعلى، تجاوزها لآلة الإنتاج العربي الذي يمر بفترة صعبة. وقد تمكنت الشركات التركية من استغلال هذا الظرف لتحقيق قدر أكبر من الربح والانتشار بصفة واسعة إلى حين عودة الإنتاج العربي لمكانه الطبيعي. وتكشف التعديلات التي طالت بعض القوانين المتعلقة بالعقارات وتسهيلات شرائها عن معرفة سياسيي تركيا بأن هذه الاستراتيجية الثقافية قد نجحت في استقطاب رؤوس الأموال إلى تركيا. وبعد هذا التطور في العلاقات، سمحت تركيا بتملّك الأجانب للعقارات، حيث ينص التشريع الحالي على أن المواطنين الأجانب بإمكانهم شراء العقارات في تركيا فقط إذا كان بلد المشتري يمنح الحقوق نفسها للمواطنين الأتراك، حسب مبدأ المعاملة بالمثل الذي سيتم تخفيفه أيضا والسماح إلى كل من يريد الاستثمار في تركيا بأن يتملك. وقد فتح القانون الجديد منذ أكثر من 3 أعوام الطريق أمام تدفق المزيد من الاستثمارات العربية، خاصة أولئك الذين يشترون عقارات سكنية للاستثمار السياحي في حدود 70 إلى 150 ألف دولار. وبعد صدور هذا القانون نجحت تركيا في جذب فرص استثمارية كبيرة من الأسواق العربية والروسية، فالعرب الأثرياء يمكن أن يدفعوا بشكل عام ما بين مليوني دولار إلى 30 مليون دولار ثمنا للمنازل الفاخرة الموجودة في المواقع الرئيسية بمدينة إسطنبول، بينما يمكن أن يدفع بقية العرب نحو 250 ألف دولار ثمن الشقق الموجودة في العمارات السكنية الواقعة وسط إسطنبول. بالإضافة إلى ذلك لا يمكن إنكار دور اللهجة السورية المألوفة في العالم العربي، واستبدال أسماء الشخصيات التركية بأسماء عربية مما سهّل وصول هذا المنتج لعدد أكبر من المشاهدين. والدليل على ذلك، هو النجاح الذي حقّقته المسلسلات التركية المدبلجة مقارنة بالمسلسلات المكسيكية التي اجتاحت القنوات العربية في تسعينات القرن الماضي مثل ?كاسندرا? و «روزاليند» وغيرهما. فالدبلجة العربية طغت على كل الاختلافات في التفاصيل وقرّبت المشاهد العربي من المسلسل التركي، الذي أصبح شبيها بأي مسلسل سوري من إنتاج عربي. رغم استحواذ الإسلاميين لأكثر من عقد من الزمن على السلطة في تركيا، إلا أن السلوك الاجتماعي للمواطنين الأتراك بقي على حاله، وهو سلوك مطبوع بموجة ليبرالية في اللباس والعادات والتقاليد وطبيعة العلاقات ودرجة التفتح. هذا الأمر طرح العديد من الأسئلة حول المفارقة بين طبيعة السلطة السياسية الإسلامية التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية المعروف بميوله الإخوانية، وبين طبيعة المجتمع الذي يمارس حياة أبعد ما تكون عن المحافظة. ورغم هذه الليبرالية الاجتماعية، تبقى المراتب الأولى في الانتخابات من نصيب الإسلاميين. وهذا يعكس في نظر مراقبين بداية تهديد للعلمانية التركية على المدى البعيد. فبعد عقود طويلة من البناء والتحديث وفق النموذج الأتاتوركي، بدأت العلمانية التركية تتآكل من داخلها بفعل التغلغل الإسلامي الحالم بالعودة إلى الوراء، وصولا إلى الحقبة التي كان فيها سلاطين الباب العالي متلهفين على الاستعمار، على المستوى السياسي وليس على مستوى الثقافة الشعبية. ففي أواخر القرن العشرين، أي سنة 1998 عادت الأحزاب الإسلامية بقوة إلى الساحة التركية مع حزب الفضيلة الذي تم حظره بحكم قضائي لتناقضه مع مبادئ دستور الدولة التركية. ولم يدم الأمر طويلا حتى تأسس حزب العدالة والتنمية من رحم حزب الفضيلة والذي تزعمه رجب طيب أردوغان وعدد آخر من الوجوه الإسلامية التي تسمى ?معتدلة?. ويعلق الكاتب اللبناني نصري الصايغ في هذا السياق قائلا ?بدأت الأنشطة الإسلامية بالسر في تركيا ونجحت بالتسلل أولا ثم بالفوز الديمقراطي ثانيا، فجاء رجب طيب أردوغان لينافس بإسلاميته وإخوانيته جمهورية أتاتورك العلمانية?. وهذا ما يعكس سلاسة في التسلل إلى المشهد السياسي دون المس من النفس السلوكي الشعبي العام. وأكد مراقبون أن هذه العودة الإسلامية في تركيا ونشاط الإسلام السياسي الذي وجد استجابات عديدة داخل المجتمع التركي ليس سوى مؤشر على بداية انحلال المشروع الأتاتوركي الذي انكشف أنه لم يصالح بين الفرد التركي ومهجته الدينية العابرة للقومية التركية، والدليل على ذلك أنه منذ صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في تركيا منذ ما يفوق العقد من الزمن لم ينزل عنها وبالانتخابات، وقد أثر هذا الصعود الإسلامي على الأقليات والطوائف التي مثلت لعقود جزءا من الهوية التركية بشكل عام، ?فقد قسم الإسلاميون المجتمع قسمة عميقة بين علوي وسني وكردي وعلماني وألغوا الكثير من الحريات الديمقراطية لمصلحة حلم إمبراطوري?، حسب قول نصري الصايغ. وتقول بعض القراءات إن الآلة الدعائية الأردوغانية كان لها مفعول ذكي أيضا في ?التلاعب? بالخطاب السياسي الموجه للمستهلك (الناخب). وقد لعبت هذه الدعاية على ثنائية ?المانوية? أي الأنا الخيّر المطلق والأب والضامن للتوسع والنمو والآخر الشيطاني المطلق الذي يسعى إلى الفوضى والدم والدمار. إذ لم يتحدث أحد عن أمور تخص البلديات، بل كان الموضوع الرئيسي بالنسبة إلى المعارضة هو قضايا الفساد والتسريبات الصوتية الخاصة. واستغلت الدعاية «الإسلامية» ذلك بذكاء ليظهر أردوغان بمظهر المظلوم وليضمن بذلك نقاط الضعف لدى المواطن التركي المعروف عنه تعاطفه الإنساني مع المظلوم، وهو ما استغله رئيس الحكومة خلال مجمل الانتخابات الماضية، تارة بتحديه للعسكر، وتارة أخرى في موضوع الحجاب وأخرى في حربه مع العلمانيين ?أعداء الإسلام والاستقرار السياسي والاقتصادي. وفي إطار استغلال الدين للدعاية، يقول الصايغ معلقا على الخطاب السياسي الإسلامي في تركيا «مجنون من يتصور أنه بإمكانه منافسة الله ومنافسة الدين، فالاتحاد السوفييتي أسقطته بولونيا بقيادة البابا في الفاتيكان». وتدفع جميع هذه التحليلات إلى استنتاج أن ?التراث? العلماني لتركيا لم يتغلغل بشكل تام داخل بنية العقل التركي، ولم تثبت مبادئ فصل الدين عن الدولة والنزوع العقلي التلقائي إلى رفض الخطاب الديني في سياقات سياسية وانتخابية. فالتجربة أثبتت أن الميولات الدينية في الاختيار السياسي لا تزال محددا في ممارسة السياسة في تركيا، على العكس من الغرض العلماني الذي لا تطرح فيه مضامين تتصل بالدين أو العقيدة بالقدر الذي تناقش فيه السياسة مجالات الحياة اليومية والدنيوية في إدارة الشأن العام، وفق التعريف الحديث للسياسة والحزب السياسي. وفي سياق البحث في أسباب اختيار حزب العدالة والتنمية الإسلامي، لفتت النسبة التي صوتت لحزب أردوغان انتباه العديد من الباحثين في المجال السوسيولوجي. إذ أنه بالرغم من تهم الفساد التي طالت أردوغان وعائلته والفضائح التي تعلقت بالممارسات التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية في السلطة، إلا أنهم آثروا ?مصالحهم الشخصية والمادية المباشرة على أن يصدقوا زيف الخطاب الديني المختلط بالسياسة?، وقد رجحت تلك النسبة من المنتخبين إنجازاتهم الذاتية على حساب العادات والتقاليد التركية التي ترفض الفساد بكل تفاصيله والتي تضمنتها التسجيلات الصوتية المسرّبة، على الرغم من أن استطلاعات الرأي أثبتت أن 72 بالمئة من المواطنين اعترفوا بوجود فساد وتورط أردوغان وعائلته فيه. كما أثبتت النتائج أيضا أن أحداث وتظاهرات تقسيم في يونيو الماضي لم تؤثر سلبا في شعبية رئيس الحكومة الذي وصف المتظاهرين بالإرهابيين والمخرّبين والشيوعيين وأعداء الأمة والدولة التركية.