لفت نظري للأفكار الواردة في هذا النص، ما تناقلته وكالات الأنباء عن نتائج الاستفتاء التركي حول بعض التعديلات الدستورية، مقدمة إياها، وكأنها صراع بين «العلمانيين» من جهة، وبين أضدادهم بقيادة «الإسلاميين» في حزب العدالة والتنمية من جهة ثانية. يكفي أن يعتمد في صياغة الخبر، أن «العلمانيين» حصلوا على 42% من الأصوات، وأنهم بالتالي هزموا في هذا الاستفتاء، لكي نوحي للقارئ ضمنيا أن الذي هزم في الاستفتاء هو العلمانية، وأن الذي انتصر بهذا الشكل أو ذاك هو «المشروع الإسلامي» بقيادة حزب العدالة والتنمية. التسمية لوحدها في تلك الصياغات الخبرية كافية لتغليط القارئ غير المتبصر لوقائع الأمور ولما تحمله الأسماء من شحنات دلالية ... وخاصة في وطننا العربي الذي ما زالت مفاهيمه عن العلمانية جد غامضة، إن لم نقل عدائية وتكفيرية. والمفارقة التي تضعها أمامنا تلك الصياغات الخبرية، إن تخطينا الأسماء، ودخلنا صلب الموضوع هي التالي: أليس موقف حزب العدالة والتنمية هو الموقف العلماني الحق تأسيسا على أن لب التعديلات الدستورية المقترحة من قبله استهدفت بناء استقلالية القضاء وتحجيم سلطة الجيش ووصايته على الدولة وإسقاط ذرائعه الدستورية في القيام بانقلاباته المعهودة على الديمقراطية البرلمانية ... وبالتالي، أليس موقف من يسمون بالعلمانيين على النقيض من جوهر العلمانية لأنهم على النقيض من استكمال مقوماتها وبيئتها الديمقراطية العضوية والحاضنة؟ هكذا، وكأن المشهد التركي هو «علمانية بالمقلوب». ومع أن حزب العدالة والتنمية لا يحمل أصلا مشروعا إيديولوجيا أو سياسيا مضادا للعلمانية، ولا هو يعتبرها من المحرمات لفظا ومعنى كما في الفكر العربي الإسلامي السائد. المثال التركي ليس فريدا في هذا الشأن. فإن تقصدنا التعميم من منظور تاريخي على كل التجارب الأخرى منذ أن أضحت الحداثة قانونا كونيا، لتبين لنا وبالوقائع التاريخية، أن هناك ما يمكن اعتباره «علمانية موضوعية» جرت وتجري في كافة البلدان التي أخضعت لإملاءات الحداثة الكونية في ميادين مختلفة، تمهيدا لنضوج العلمانية الكامل في اللاحق، بحكم الضرورة التاريخية عينها، وحتى بالرغم من أن الفاعلين لم يكونوا من رافعي لواء العلمانية، أو حتى كانوا معادين لها، إن كان ذلك في الماضي البعيد والقريب أو الحاضر القائم والجاري. أليس هذا من «مكر التاريخ» كما نعرف ! وهذه المقولة، بالمناسبة (مكر التاريخ) ليست جملة بلاغية إنشائية، بل هي صورة من صور جدلية التاريخ، ما دام الإنسان لا يتحكم في كل نتائج أفعاله وفي كل مصائره في «مملكة الضرورة». كم يغريني في هذا الصدد المثال اللبناني الحي أمامنا، فالذي يبني الدولة العلمانية الديمقراطية القوية، ليسوا أولئك الذين يصدحون ليلا ونهارا ببعض قرائنها من جماعة «14 آذار»، وهم الذين يؤدلجون ل «لبنان أو لا» ول «حيادية لبنان في الصراع مع إسرائيل» ول «قوة لبنان في ضعفه» ...الخ بل هم «حزب الله»، الحزب الإسلامي المقاوم، وحلفاؤه. وذلك بحكم الضرورة التاريخية الجامعة في الشرط اللبناني (والعراقي أيضا) بين بناء الدولة العلمانية الديمقراطية القوية وبين التحرر الوطني والقومي. فالعلمانية في جميع الحالات ليست حصرا، وفقط، «فصل الدولة عن الدين، وفصل الدين عن الدولة». لأن التعريف، أي تعريف وكيفما كان موضوعه، هو دائما وأبدا، مجرد خلاصة عامة تجريدية، لا تستوفي كل السيرورة التاريخية الفعلية، ولا تعكس كل دينامياتها المتناقضة دوما وغير المكتملة أبدا. ما من كلمة في القاموس السياسي العربي والإسلامي بوجه خاص، أهينت وشوهت وذمت وحوربت حتى عادلت الكفر بالتمام والكمال، كما هوجمت كلمة العلمانية. ولربما كان هذا المناخ الفكري السياسي الإرهابي الموبوء إزاء هذا المصطلح، أحد الدوافع الذي جعل مفكرنا الكبير الراحل عابد الجابري، والذي لا نشك للحظة في تقدميته وحداثته وعلمانيته، يقوم «بمناورة فكرية» تحاشيا لصراع رآه مغلوطا ومدمرا حينما ادعى، أن العلمانية هي مطلب غربي استلزمته الصراعات بين الكنيسة والدولة في مرحلة تاريخية معينة .... ولأن الدين الإسلامي ليس به كنيسة، ولا صراعات من هذا القبيل، فإنه بالتالي يجوز التغاضي عن العلمانية (الشعار) والاستعاضة عنها بالديمقراطية القادرة على احتواء كل مضامينها... قد تكون هذه الخلاصة قابلة تجاوزا للتطبيق في بلد كالمغرب المتجانس دينيا ومذهبيا. لكنها خلاصة معيقة ومضرة في بلد إسلامي تعددي الطوائف والديانات، وهي الحالة العامة. أما من الناحية الفكرية فلا شك أن المقدمات المعتمدة، وجود الكنيسة وصراعاتها في الغرب، مقدمات تبسيطية واختزالية من وجهة نظر تاريخ الغرب نفسه، وهي كذلك من وجهة نظر تاريخ وواقع البلدان الإسلامية ودور الإيديولوجيا الدينية في دولها ومجتمعاتها المختلفة. فضلا عن أن الصراع القائم مع انبعاث السلفيات الأصولية الأشد رجعية في معظم البلدان الإسلامية بات يضع العلمانية في كل منها على جدول أعمالها حفاظا على المستقبل المدني لشعوبها. يأخذني هذا الموضوع المعقد والمتشعب إلى طلب التأمل العقلي التاريخي لما ورد في كتاب الدكتور عزيز العظمة المكثف والغني (العلمانية من منظور مختلف) حيث يقول في فقرة منه «نستنتج مما سبق، أن العلمانية ليست بالظاهرة التي يمكن توصيفها ببساطة وبيسر، بل هي جملة من التحولات التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والإيديولوجية، وأنها تندرج في أطر أوسع من تضاد الدين والدنيا، بل إنها تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة المختلفة. ونستنتج أيضا أن العلمانية ليست بالوصفة الجاهزة التي تطبق أو ترفض، فإن لها وجوها: وجها معرفيا، يتمثل في نفي الأسباب الخارجة عن الظواهر الطبيعية أو التاريخية، وفي تأكيد تحول التاريخ دون كلل، ووجها مؤسسيا يتمثل في اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل. ووجها سياسيا يتمثل في عزل الدين عن السياسة، ووجها أخلاقيا وقيميا يربط الأخلاق بالتاريخ والوازع بالضمير بدل الإلزام بالترهيب بعقاب الآخرة. ولكل من هذه أشكال «ومناسبات من وقائع التاريخ المحيطة بها ...). نترك موضوع العلمانية إذن معلقا عند هذا الحد من الشهادة السابقة، آخذين منها بوجه خاص منظورها التاريخاني الشمولي والكوني المتنوع المداخل والمسارات، ومع التركيز بالأولى والأحرى على الممارسات المجتمعية في كليتها وعلى ما يصير منها وقائع ملموسة على الأرض، أو قابلة لذلك، في اتجاه العلمنة أو في عكسها، ولنعد من جديد إلى مثالنا التركي مع بعض التعليقات الخاطفة والضرورية. وهكذا: أولا: بالرغم من أن العلمنة الأتاتوركية هي علمنة فوقية، لعبت فيها الدولة الدور الأكبر والرئيسي بالمقارنة مع ما كان لدى المجتمع من استعدادات ذاتية، فمع ذلك، لا يمكن أن نغيب العاملين التاليين، وإلا كانت الأتاتوركية قفزة فجائية عجائبية لا صلة لها بالواقائع التاريخية التركية. العامل الأول، الدور التحديثي النسبي الذي قامت به واضطرت إليه دولة التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر وفي كل المجالات التربوية والإدارية والتشريعية والعسكرية والاقتصادية... ورغم محدودية هذا الدور ومتناقضاته وفشلاته ضمن إيديولوجية إسلاموية تبريرية انتقائية، فقد هيأ التربة الاجتماعية والثقافية لبروز نخبة جديدة ستكون داعمة للقفزة الأتاتوركية اللاحقة، بينما ستعجز إصلاحات التنظيمات على تحقيق نفس النتائج في كل امتداداتها في الوطن العربي. ولعل من أسباب ذلك العامل الثاني، أي أن الأتاتوركية ظهرت كقوة محررة للوطن من الاحتلال ومحاولاته الاستعمارية والتفكيكية للكيان التركي، الشيء الذي أعطاها شرعية شعبية وتاريخية لولاها ما كانت لتعوض النقص الشديد في قدرات المجتمع التحديثية، والذي مكنها من القيام بتلك الإصلاحات العلمانية بتلك القوة والجرأة. بينما ضاعت الإصلاحية العربية في نفس المرحلة في رهانات واهمة إما على دعم القوى الاستعمارية في الحصول على الاستقلال أو على خلافة إسلامية جامعة غدت في الشروط الدولية المستجدة مجرد طوبى لا غير. لهذا العامل الثاني أهمية خاصة في النظر اليوم إلى ما يجري في العراق الشقيق، فكل الرهانات التي قامت على دمقرطة يأتي بها الاحتلال على أنقاض ما اعتبروه دولة الاستبداد انتهت إلى كارثة فادحة، كيانية وإنسانية واقتصادية وثقافية، وإلى دولة طوائف مفتوحة على حرب أهلية دائمة ... هكذا لا يمكن تاريخيا عزل الديمقراطية والعلمانية عن التحرر الوطني القومي. ثانيا: أرادت الأتاتوركية أن تبني نظاما علمانيا شموليا معاديا للدين ولكل ما يمت بصلة للبيئة الحضارية المشرقية لتركيا، عدا معاداته العنصرية العملية للأكراد والأرمن وللعرب في فترة انهيار الإمبراطورية. والحقيقية، أن تركيا الكمالية العلمانية وفق هذا التصور بقيت محصورة اجتماعيا وثقافيا في المدن الكبرى، كاسطنبول وأنقرة وأزمير، أما الباقي حيث كان الفلاحون وسكان القرى يشكلون ما يناهز 70 %، فالبلاد ظلت إلى مرحلة طويلة «مجمدة في سلفية اجتماعية ودينية صارمة»، واستمرت خلالها الأخويات الموروثة عن العهود السالفة الشكل الأقوى للتأطير الاجتماعي والثقافي (والسياسي) الأكثر فاعلية في العمق المجتمعي. وفي هذا الوضع التاريخي غير المتوازن وغير المستقر إلا بالسلطة القهرية، كان لابد وأن تعاني تركيا ذات العلمانية الفوقية القسرية من معضلات «الهوية» التي عجزت القومية التركية الطورانية عن استيعاب كل مكوناتها وأبعادها. وبدون عناء سيلاحظ القارئ لتطورات الصراع السياسي ?الاجتماعي- الثقافي في تركيا، أن خلاصها الديمقراطي الذي اختلط بالتسلط العسكري هو ذاته مسار تصالح تركيا مع ثقافة الشعب الدينية ومع انتمائه الحضاري الإسلامي. منذ أن دخلت تركيا نظام التعددية البرلمانية في 1950، شغل تاريخها السياسي في قسم كبير منه علاقات الشد والجذب بين الأحزاب العلمانية من جهة والأخويات الطرقية من جهة ثانية. فمن أجل كسب الأغلبية الانتخابية والاستقرار السياسي للدولة على المدى الطويل كانت الأحزاب العلمانية مضطرة لأن تقدم تنازلات وتقوم بترضيات لصالح علمانية لينة لا تعادي ثقافة الجماهير وبالتالي لا تعادي الدين في «التغاضي عن نشاط الأخويات التي كانت ممنوعة قانونيا، إدخال مواد دينية» في أطوار خاصة من التعليم، إقامة الآذان بالعربية، السماح بتعلم اللغة العربية، إنشاء معاهد لتكوين الآلاف من فقهاء الدين «المتنورين ...الخ) إلى أن تكونت في أحشاء هذا الواقع المجتمعي أحزاب سياسية حديثة ذات مرجعية إسلامية بدل التنظيمات الطرقية، وكان نموذجها الأفضل حزب العدالة والتنمية الحاكم اليوم. وسيكون من الإجحاف أن نعزو كل هذا التطور إلى «المساومات الاضطرارية» الانتخابية، أو إلى الصراع السياسي بوجه عام، ونغفل عن الوجه الآخر لهذا المسار الأكثر صلابة وموضوعية والمتمثل أساسا في ضروب التحديث الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أنجز في ظل هذه العلمنة القسرية، فشتان بين تركيا التقليدية المنهارة في بداية العشرينات وبين تركيا الحديثة اليوم. وما حزب العدالة والتنمية نفسه بمرجعيته الإسلامية المتفتحة على العلمانية وعلى الحداثة والديمقراطية إلا ثمرة من ثمار هذه التحولات العميقة التي أجريت على المجتمع التركي. العديد من المحللين يختزلون كل الإصلاحات القانونية المتتالية لحزب العدالة والتنمية إلى مجرد سعي تركيا إلى الانضمام للاتحاد الأوربي ومجاراة اشتراطاته ومعاييره. وهم لا يرون في الدأب الحثيث لحزب العدالة لاستعادة مكانة تركيا في محيطها العربي-الإسلامي إلا سلوكا مصلحيا برغماتيا، وحتى ورقة ضغط على الاتحاد الأوربي ... وفي الحالتين يبخسون دور العوامل الداخلية العميقة في هذا التطور وما أدت إليه من ارتباط صميمي بين النمو الديمقراطي من جهة، والتقدم في حل إشكالية الهوية وإيجاد التوازن الحضاري الثقافي الذي أخلت به العلمانية التغريبية القسرية من جهة ثانية. وفي ظني أن الغرب، إذا كان اليوم يشجع ويساند كل الإصلاحات الديمقراطية، بعدما كان هو الحاضن للحكم العسكري، فهو سيستمر على خشيته من وزن تركيا المسلمة في اتحاد أوروبي مسيحي الثقافة، وهو لن يقبل بالدور التركي الجديد في محيطه العربي- الإسلامي المناوئ لإسرائيل، حتى ولو طبقت تركيا كل الاشتراطات التي مازالت تعوق انضمامها إلى الاتحاد الأوربي. فكرتي الأساسية من تلك التلميحات في التجربة التركية، أن العلمانية ليست قرارا إراديا صرفا، بل هي أساسا سيرورة داخلية عضوية يتداخل فيها ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي. وكل تصور لا يأخذ في الاعتبار كلية هذه التداخلات، وبالأخص منها التراث الثقافي-الحضاري للمجتمع، وكل تصور يستخف به أو يكون على النقيض منه، فهو تصور ديكتاتوري شمولي بالضرورة، كيفما كانت مزاعمه الحداثية الديمقراطية الكاذبة. وفي بلدنا من الأمثلة الجهيرة في معاداتها واستخفافها بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي ما يغنيني عن التصريح بها. أضف إلى هذا، أن إشكالية العلمانية لدينا في تسعين بالمائة منها ليست في الدولة و»إمارة المؤمنين»، والتي تعلمنت في جل مؤسساتها وقوانينها، بل في ثقافة المجتمع التي ما زالت تستولد التقليدانية بوفرة ملحوظة. ثالثا: من الصعب هنا أن نرسم لوحة تقريبية ومقنعة عن تطور الصراع الاجتماعي في تركيا الحديثة. لكن وبدون مجازفة يمكن القول، أن حزب العدالة والتنمية يمثل أقساما عريضة من الطبقة الوسطى الحديثة التي تشكلت في أحضان النظام العلماني. وهي أقسام تميزت باستمرار ارتباطاتها الإديولوجية مع الموروث الثقافي المقموع في مجتمعها ومع جماهيره الواسعة. ليس مهما هذا التوصيف السوسيولوجي الشكلي، بل الأهم منه التشديد على الدور الدينامي الطموح لدى الطبقة الوسطى في المجتمع التركي وتطلعاتها القيادية له. في بلدنا أكثرنا الحديث عن الطبقة الوسطى من زاوية اقتصادية بحثة. وسواء أخذنا تعريفها بحسب موقعها في علاقات الإنتاج أو بحسب مؤشرات مداخيلها، فالأهم هو الدور السياسي والإيديولوجي الذي تعبر عنه هذه الطبقة، لكي يكتمل التعريف نفسه. في الأدبيات الاشتراكية الكلاسيكية كان التعبير عن هذه الجدلية ب»الطبقة في ذاتها» و»الطبقة لذاتها». ولهذا رأينا كارل ماركس في زمنه يصف طبقة «الفلاحين» الموجودة موضوعيا في كافة البلدان الأوربية ب «أكياس بطاطا» كناية على أنهم لم يتحولوا بعد إلى طبقة واعية لذاتها ولها دورها المستقل في الصراع الاجتماعي. أما طبقتنا الوسطى فقد كان لها دورها في الماضي، على قلتها كميا وضآلتها نوعيا. أما اليوم، فإن أقسامها ذات الميولات الحداثية بالضبط، رغم توسعها الكمي والكيفي، يجعلنا نطرح السؤال: ألم تتحول بعد طبقتنا الوسطى إلى «أكياس بطاطا» بحسب وصف كارل ماركس لطبقة الفلاحين في زمنه !! هذه إذن إحدى معضلات التقدم لدينا وأحد الفروقات بيننا وبين تركيا.