تسمح لنا الذكرى 40 للمسيرة الخضراء (سميت خضراء كناية عن سلميتها)، لاستكمال المغرب لاستعادة أراضيه المحتلة، بصحرائه الغربية، من ضمن الأراضي التي توزعتها قوى استعمارية أروبية متعددة، منذ 1900. تسمح لنا، هذه الذكرى، باستعادة بعض من تفاصيل القصة التاريخية، التي تندرج ضمنها قضية الصحراء الغربية بإقليميها الكبيرين «الساقية الحمراء وريو دي أورو (أي وادي الذهب)». وهي القصة التي تتداخل فيها عناصر محلية ودولية مرتبطة بنهاية القرن 19 وبداية القرن 20، حكمتها صراعات جيوستراتيجية بين القوى الإستعمارية الأروبية الكبرى، خاصة إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا وإسبانيا (1) لا يمكن أبدا فصل قضية "الصحراء الغربية" عن السياق العام، الذي ارتبط بملف "القضية المغربية" كما تدخلت فيه القوى الدولية العظمى في القرن 19، منذ مؤتمر مدريد سنة 1880، الذي كان أول الطريق لإعادة هيكلة شكل علاقات القوى الأروبية الكبرى والولاياتالمتحدة الأمريكية مع الدولة المغربية، عبر بوابة "الحماية القنصلية"، التي فرخت فيروس "المحميين" بالمغرب وتقويض سيادة السلطة بالمغرب. لكن، قبل تفصيل القول في ذلك، لابد من استعادة بعض من تفاصيل قصة "المسيرة الخضراء"، التي لابد من تسجيل أنها كانت فكرة مبدعة، في شكلها وفي طريقة تنفيذها، ضمن سياقها التاريخي لعالم بداية السبعينات، بحكم حجم وقيمة أوراق الضغط (غير المساعدة تماما) التي كانت تتوفر عليها الدولة المغربية، لمواجهة مخططات مدريد، في علاقة مع باقي ذات القوى الدولية الوازنة المتدخلة في الملف المغربي منذ أواسط القرن 19، وهي باريس، لندن، روما، برلين، واشنطن ولندن. كان العالم حينها، يعيش تبعات الطفرة النفطية بعد حرب أكتوبر 1973، بين العرب وإسرائيل، بما كان لذلك من انعكاسات جد قوية على مداخيل البترول للدول المنتجة عبر العالم، ويهمنا منها هنا "جزائر الرئيس هواري بومدين"، ذات الطموح أن تصبح القوة الإقليمية الأولى بكل الشمال الإفريقي المتوسطي. مثلما كان العالم، يعيش تفاعلات حرب الفيتنام، ونتائج الإنفتاح على الصين من قبل فرنسا (دوغول) أولا ثم الولاياتالمتحدة الأمريكية (نيكسون) ثانيا. وأيضا نتائج التحولات الديمقراطية في آخر الديكتاتوريات العسكرية في الجغرافية الأروبية، من خلال "ثورة القرنفل" يوم 25 أبريل 1974، بالبرتغال، ثم إعلان الجمهورية الديمقراطية باليونان يوم 24 يوليوز 1974، وإنهاء الإستبداد العسكري بها، لجماعة "جورج بابا دوبولوس". وبداية التحول الديمقراطي في إسباينا ونهاية الديكتاتورية العسكرية للجنرال فرانكو المريض، الذي توفي يوم 20 نونبر 1975 (14 يوما بعد انطلاق المسيرة الخضراء). كان واضحا، أن الدولة المغربية قد تتبعت تفاصيل التطورات تلك بدقة، منذ 1973. وأنه قد بدأت، بالتوازي، تدشن لمسلسل داخلي، بعد استخلاص دروس المحاولتين الإنقلابيتين الفاشلتين صيف 1971 وصيف 1972، من خلال أهمية إعادة إحياء روح التعاقد مع أحزاب الحركة الوطنية، بذات مرجعية "ثورة الملك والشعب"، حتى مع استمرار ما يمكن وصفه ب "أزمة الثقة" بين القوتين (قوة الدولة وقوة المجتمع من خلال ما أفرزه المجتمع من آليات تنظيمية حزبية حقيقية). من هنا، يجب التأريخ لسنة 1975، كسنة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، بعد الإستعمار. لأنها سنة المسيرة وسنة المؤتمر الإستثنائي لميلاد الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية يوم 11 يناير، وميلاد خيار "استراتيجية النضال الديمقراطي" (للتاريخ معناه ورمزيته ورسالته، أي استكمال شق الدولة المؤسساتية الدستورية الديمقراطية كما تم التوقيع عليه في وثيقة 11 يناير 1944 المطالبة بالإستقلال). بما تبع ذلك من عودة للمسلسل الإنتخابي سنتي 1976 (الجماعية) و1977 (البرلمانية)، وهذه المرة في كامل التراب المغربي بما فيه الساقية الحمراء بالصحراء الغربية للمغرب. كانت اللحظة، المحيطة بالمسيرة، إذن جد مكثفة ومتسارعة، باتجاه الخارج وباتجاه الداخل. وأصبح الزمن المكثف للفعل ذاك، جد دقيق، بدليل تفاصيل حتى طريقة عودة رئيس الجماعة الصحراوية إلى المغرب، المرحوم الحاج خطري ولد سيدي سعيد الجماني، الذي اختار في لحظة حسم وطنية رفيعة منه، أن يعود، مثل أي طائر إلى عشه (المغرب)، بعد محاولات حثيثة من مدريد والجزائر لاستمالته إليها واستقطابه، كورقة حاسمة في لحظة التطورات المتسارعة تلك. وكانت المعركة، قد لعبت كلها بجزر الكناري بلاس بالماس، في أيام 5 حاسمة، حين كان مستشار الملك الحسن الثاني، المرحوم أحمد بنسودة، يتوجه متخفيا في لباس امرأة صحراوية إلى بيت بتينيريفي، للقاء رئيس الجماعة الصحراوية، ولعب الدور الحاسم في تيسير ذلك اللقاء، الوطني المغربي الراحل فضول الدرهم رحمه الله. وهو الرجل الذي نجده واقفا، مباشرة إلى جوار الحاج خطري، بلباس أروبي، في الصورة الشهيرة التي استقبل فيها العاهل المغربي الراحل، رئيس الجماعة الصحراوية وألبسه سلهامه الخاص. وبقي المرحوم فضول الدرهم، رجلا في الظل، بدون أية مزايدة، هو الذي تربى أصلا ضمن جيش التحرير بالجنوب، وضمن الحركة الإتحادية في الستينات والسبعينات، وجعل من شبكته الواسعة ضمن مهامه التجارية آلية لترسيخ الفكرة الوطنية بالصحراء لمواجهة الإستعمار الإسباني (صغرى بناته اليوم، هي البرلمانية الإتحادية "رقية الدرهم"). إنه بالعودة إلى السياق التاريخي المحيط باحتلال الصحراء الغربية للمغرب، منذ بداية القرن 20 (بالضبط منذ سنة 1900)، ستفاجؤنا الوثائق التاريخية الرسمية للدولة الإسبانية وللدولة الإنجليزية، أن مدريدولندن تعترفان رسميا بسيادة المغرب على صحرائه الغربية منذ 1900 بالنسبة لمدريد، ومنذ 1895 بالنسبة للندن. هنا، مهم تفصيل القول قليلا، في فهم منطق التنافس بين الدول الإستعمارية الأروبية حول الأراضي المغربية، منذ أواسط القرن 19. ذلك أن التنافس كان قويا بين 3 عواصم كبرى، هي برلين ولندنوباريس، لضبط نغمات إيقاع المصالح الحيوية بالفضاء المتوسطي. ومنذ اتفاقية 1887، ببرلين، التي أعادت رسم خرائط عدة بأروبا، بعد الحرب الروسية العثمانية، والتي انهزم فيها العثمانيون أمام الروس، مما جعل بريطانيا تسرع من حضورها في مضيق جبل طارق وفي الفضاء المصري السوداني (معركة شافودا الشهيرة التي انتصرت فيها على فرنسا). مثلما جعل التوازن مضبوطا بين برلين ولندن، خاصة بعد إعلان استقلال كل من رومانيا والجبل الأسود وصربيا كدول تابعة للنفوذ الألماني. بينما كانت باريس تحاول فرض الأمر الواقع بالشمال الإفريقي منذ احتلالها الجزائر سنة 1830 وتونس سنة 1881، من خلال "معاهدة باردو" (12 ماي). وكان لها طموح استراتيجي دؤوب لاحتلال المغرب كله، من طنجة حتى بلاد شنقيط. وكانت مدريدوروما، تحاولان الفوز بجزء من الكعكة الإستعمارية المتوسطية إفريقيا، من خلال استغلال التناقضات المصالحية بين تلك القوى الكبرى الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا). لهذا السبب، نجد أن باريس باشرت تنفيذ مخططاتها، التوسعية الإستعمارية، من خلال ضم الصحراء الشرقية للمغرب، منطقة توات وتيندوف وكولمب بشار، سنة 1900، خاصة بعد اكتشاف مناجم الحديد بها. وباشرت أيضا احتلال بلاد شنقيط جنوبا، صعودا من السنغال، ابتداء من سنة 1899، من خلال اتفاقية مع زعماء قبائل الترارزة ولبراكنة، ونفذ الأمر بقوة السلاح سنتي 1902 و 1903. وفي الآن ذاته، سعت مدريد، إلى استغلال ما بيدها من أوراق بخصوص "القضية المغربية"، منذ حرب تطوان سنة 1860، من أجل إيجاد موقع قدم لها في الصحراء الغربية للمغرب، في ذات السنوات بالضبط. بدليل ما جرى من مفاوضات مع ممثلي السلطان المغربي مولاي عبد العزيز، بطنجة، خاصة ممثله الخاص الحاج محمد الطريس، والسفير الإسباني بذات المدينة "أوخيدا"، غايتها تنفيذ ما اتفق عليه مع والده السلطان الحسن الأول، حول منح المغرب لمدريد، موقعا تجاريا بالصحراء براس جوبي (طرفاية)، ادعت إسبانيا، أنه كان لها سابقا فيه محطة تجارية منذ القرن 15. الحقيقة، إن حرص الإسبان على إيجاد منفذ تجاري لهم بالصحراء، إنما هو جزء من تسابق أروبي للنفاذ إلى عمق الصحراء ودول الساحل، وصولا حتى إلى تمبوكتو ومملكة غانا، عبر الشواطئ المغربية بصحرائه الغربية الجنوبية. لعل أهمها هي المحاولات البريطانية منذ سنة 1764 و 1836، من خلال محاولات كل من المغامرين الإنجليزيين "جورج غلاس" و "جون دافيدسون". وضمن سياق هذا التسابق، سيأتي اعتراف بريطانيا بمغربية الصحراء من خلال التوقيع على اتفاقية سنة 1895، التي تم بموجبها إنهاء أزمة "الشركة البريطانية لغرب إفريقيا" لصاحبها التاجر البريطاني ماكينزي، وقبولها تعويض الدولة المغربية لتاجرها عن رفض السماح له ببناء ميناء بمنطقة طرفايه وكل الصحراء الغربية، مقابل تعويض مالي حدد في 50 ألف جنيه إسترليني قديم. لقد تم التنصيص في تلك الإتفاقية على أنه لا يمكن القيام بأي نشاط تجاري بكامل المنطقة الصحراوية تلك، حتى رأس بوجدور (أي حوالي 500 كلمترا) بدون إذن كتابي مسبق من سلطان المغرب، لأن تلك الأراضي جزء من التراب المغربي. بينما نص مشروع اتفاقية أخرى، بين المغرب وإسبانيا، كان مفروضا أن توقع سنة 1900 (في شهر شتنبر)، على طلب إذن من السلطان المغربي لمدريد للحصول على موقع تجاري بطرفاية. لكنها لو توقع بسبب التحايل الماكر الذي حاول من خلاله السفير الإسباني، أوخيدا، بالتنسيق مع حكومة بلاده، أن يجعل من تلك الإتفاقية تشمل كل المنطقة الممتدة من طرفاية حتى بوجدور، وأن تختار مدريد فيها المكان الذي تراه مناسبا لبناء موقعها التجاري على شط المحيط، مما يعتبر اعترافا رسميا من مدريد بمغربية تلك الأراضي الصحراوية. لكن السلطان مولاي عبد العزيز رفض التعديل ذاك، لأنه سيفتح الباب لمدريد كي تتدخل في كل تلك الجغرافية الصحراوية الشاسعة وليس فقط في منطقة محددة بدقة، هي طرفاية التي وقع الإتفاق عليها بعد مفاوضات دامت أكثر من 38 سنة. هذا كله يقدم الدليل الحاسم على مغربية الصحراء الغربية باعتراف رسمي من الدولة المستعمرة إسبانيا ومن بريطانيا. دون إغفال أن فرنسا حين احتلت بلاد شنقيط، لم تحاول توسيع تدخلها صوب إقليم وادي الذهب ونبهت مدريد حين حاولت القيام بذلك، سنة 1904، لأن ذلك سيخلق لها مشاكل مع سلطان المغرب، مما يعتبر اعترافا آخر ضمنيا من باريس بمغربية تلك الأراضي. دون إغفال أن اتفاقياتها السرية مع كل من لندنومدريد سنوات 1904 و 1906، حول القضية المغربية، كانت تتضمن تنازلات لباريس عن مصر والسودان لصالح لندن، وعن الصحراء الغربية بإقليميها الساقية الحمراء ووادي الذهب لصالح مدريد، مقابل السماح لها في احتلال باقي الأراضي المغربية شمال الصحراء. إن الذكرى 40 للمسيرة الخضراء، إذن، هي لحظة لاستعادة حقيقة ملف صحرائنا الغربية المغربية، التي كانت جزء من تنافس استعماري مصالحي منذ أواسط القرن 19. وأنه علينا التسطير على أن المغرب، الذي بقي معترفا به كدولة رغم استعماره سنة 1912 (صيغة الحماية تحت راية اتفاقية الجزيرة الخضراء سنة 1906)، قد ظل منذ سنة 1956 (تاريخ استقلاله عن فرنسا وإسبانيا في الشمال) يستعيد أراضيه من خلال اتفاقيات مباشرة بين الدولة المغربية (الملك والحكومة) وبين حكومات الدول المستعمرة. هذا ما تم مع باريس يوم 2 مارس 1956، وما تم مع إسبانيا يوم 7 أبريل 1956، ثم ما تم مع مدريد أيضا لاستعادة طرفاية (15 أبريل 1958) وسيدي إيفني (30 يونيو 1969). وأيضا ما تم بخصوص الصحراء الغربية في إقليم الساقية الحمراء (14 نونبر 1975 من خلال ما عرف باتفاقية مدريد الثلاثية بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا). مثلما تمت استعادة إقليم وادي الذهب يوم 14 غشت 1979، بعد تخلي نواكشوط عنه لصالح البوليزاريو بعد معركة عسكرية بطولية للجيش الملكي المغربي ببئر إنزران، وتعززت تلك العودة بمبايعة قبائل الإقليم الشاسع ذاك للملك الحسن الثاني بالداخلة. ولا يزال ملف سبتة ومليلية والجزر الجعفرية مفتوحا لإنهاء آخر الإستعمارات للأراضي المغربية. دون إغفال أن من الأخطاء المغربية في الستينات هو تسجيله قضية إنهاء الإستعمار الإسباني لصحرائه الغربية سنة 1964، ضمن لجنة تصفية الإستعمار وتقرير المصير بهيئة الأممالمتحدة، بينما الحال أن كل مسلسل تحرير المغرب لأراضيه يتم بينه كدولة والدول المستعمرة لأراضيه بدون أية وساطة أممية، لأنه حينها فتح الباب لتدويل قضيته العادلة. ورغم حرص الملك الراحل على تسجيل اتفاقية مدريد لسنة 1975، مثلما حدث مع كل الإتفاقيات المماثلة السابقة بهيئة الأممالمتحدة، فإن خصومه قد استغلوا بمكر وضع ذلك الملف ضمن لجنة تصفية الإستعمار ضدا على حقوق المغاربة في تحرير أراضيهم واستعادتها من الإستعمار. اليوم، فإن تدشين مشروع الجهوية بالمغرب، الذي هو مشروع ثوري كبير، يعيد مأسسة بنية تدبير الدولة المغربية، بعد دستور فاتح يوليوز 2011 وبعد انتخابات 4 شتنبر 2015، يقدم الحل العملي على أن التنازع مع جزء من أبناء الصحراء المغربية الغربية، الذين ظلوا رهائن حسابات إقليمية بالجزائر، منذ 1976، إنما يجد طريقه في صيغة مشروع الحكم الذاتي المتقدم الذي قدمه المغرب أمميا. وأن زيارة العاهل المغربي محمد السادس اليوم إلى أقاليم المغرب الصحراوية الجنوبية الغربية (غير المسبوقة في سياقاتها المغربية) التي ستمتد لأيام، والتي تحمل برنامجا تنمويا متكاملا غير مسبوق أيضا، تفعيلا لتوصيات المجلس الإجتماعي والإقتصادي، إنما تأتي لتعزز منطق تصالح المغرب مع كل مناطقه تنمويا وتدبيريا. ويدشن لمرحلة ظلت متواصلة منذ القرن 19، لحماية الدولة المغربية لأراضيها الصحراوية الغربية الجنوبية. هوامش: (1) معتمدين أساسا على دراسات تاريخية قيمة لكل من المؤرخ الفرنسي، المتخصص في تاريخ المغرب خلال القرن 19 "جون لوي مييج"، والمؤرخ المغربي الحجة جرمان عياش، خاصة في كتابه "دراسات في تاريخ المغرب" الصادر سنة 1986، ثم دراسات متعددة للمؤرخ المغربي الدقيق في أبحاثه، الذي يتعبر أحسن من اشتغل ضمن جيله من المؤرخين المغاربة، على الأرشيف الإنجليزي الخاص بالمغرب وشمال إفريقيا، خالد بن الصغير، خاصة من خلال مؤلفه التحفة "بريطانيا وإشكالية الإصلاح في المغرب (1886 1904)".