لقد تبين بالواضح والملموس، أن الانتخابات خرجت من سلطة الأحزاب، بمعنى أن الأحزاب لم تعد تتحكم في الانتخابات وإنما أصبح المتحكم الأساسي فيها هم السماسرة الذين أصبحوا يتحكمون في العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها وهذا راجع إلى غياب المجتمع المؤطر. ناضلنا عقودا لنجد أنفسنا في الأخير أمام سماسرة يتحكمون في كل شيء، أحياء ودواوير يتحكم فيها أشخاص. أصوات الناخبين تعرض للبيع بالجملة في سوق الانتخابات.. إن الديموقراطية هي التمثيل، وإذا كان التمثيل فاسدا فكل شيء بالضرورة سيكون فاسدا، فالمقدمات الفاسدة تترتب عنها نتائج فاسدة، والانتخابات الفاسدة تنتج مؤسسات فاسدة. سلطة الأعيان إن قراءة اللوائح الانتخابية التي قدمتها أغلب الأحزاب في الاستحقاقات الأخيرة، تؤكد أن وكلاء هذه اللوائح أعيان، أو على الأصح أباطرة المال، الحلال والحرام... لقد تبين أن بعض الأحزاب تراهن على هؤلاء لكسب المقاعد، بل يمكن التأكيد على أن هذه الأحزاب لا تقدم مترشحين، باعتبار أنهم مناضلين وأكفاء، بل لأنهم قادرون على فرض أنفسهم في سوق الانتخابات وقادرون على حصد الأصوات بتوزيع الأموال.. وهكذا لاحظنا أن أشخاصا يرشحون أحزابا، لا أحزابا ترشح أشخاصا... شخص يشتري التزكية من هذا الحزب أو ذاك، فيصبح هو صاحب سلطة يتحكم في الحزب الذي ترشح باسمه... إن بعض الأحزاب أصبحت تتهافت على الأعيان، أولئك الذين احترفوا الانتخابات، أولئك الذين يوزعون الأموال بسخاء، أولئك الذين حطموا الأرقام القياسية في الترحال الحزبي... هؤلاء «يفوزون» لا لأنهم يحملون برامج وأفكار، ولا لأنهم مدعومين بحزب له مصداقية وحضور في المجتمع، بل «يفوزون» لأنهم يشترون... وفي الأخير تحسب مقاعدهم لهذا الحزب أو ذاك... وفي كل محطة انتخابية يبحثون عن حزب نافذ، أو قريب من أصحاب النفوذ... يبحثون عن مظلة تقيهم شر المحاسبة وجلسات التحقيق... الملفات جاهزة وكل من عصى الأوامر والتعليمات يعاقب وتسلط عليه مشاعر القلق والخوف والإفلاس. وما يميز الاتحاد الاشتراكي عن هذه الأحزاب أنه قدم لوائح اتحادية، مناضلات ومناضلون، رصيدهم المشروع الاتحادي... أفكار وبرامج... لوائح نظيفة لا تضم الفاسدين والمفسدين، أولئك الذين أفسدوا العملية الانتخابية في التجارب السابقة... أولئك الذين أدينوا من طرف القضاء.. لا تضم تجار الانتخابات... ولقد تبين أن مترشحي الاتحاد الاشتراكي «عاجزون» عن منافسة مترشحي الأحزاب إياها، منافسة من يوزع من الملايين والملايير... والنتائج نعرفها جميعا... واهمة هي تلك الأحزاب التي تعتقد أنها تصدرت النتائج بكذا مقاعد... فالحاصلون على المقاعد هم الأشخاص الأعيان الذين أمروا أن يترشحوا هذه المرة، باسم هذا الحزب المتحكم أو ذاك القريب منه والتابع له... هؤلاء الأشخاص يغيرون الحزب والرمز، في كل مناسبة انتخابية، ينتظرون الأمر والتوجيه فينفذون... وإذا كان هؤلاء الأشخاص الأعيان «ينجحون» في الانتخابات بتوزيع الأموال، فإنهم لا يخضعون لسلطة الحزب الذي ترشحوا باسمه... وما وقع أثناء تشكيل المكاتب المحلية والجهوية وانتخاب الرؤساء، وانتخاب أعضاء مجلس المستشارين... عنوان العبث والسوريالية... ويتأجل الموعد مع الديموقراطية إلى إشعار آخر. زبناء الاتحاد لا يصوتون لقد أفضت نتائج الاقتراع إلى تأكيد منحى ذي نفحات محافظة عموما في اختيارات الناخب المغربي، وهذا ما تعكسه الخارطة التي أكدت أن جيوب العقلانية والحداثة في السياسة أبانت عن هشاشتها وضخامة العمل الذي مازال ينتظرها. بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، أكبر أحزاب اليسار المغربي، فرغم «الكبوة» التي مسته، فإن من الخطأ الاعتقاد بأن إضعافه يخدم الديموقراطية والتحديث، وهذه إحدى الخلاصات التي لن تبرح القوى السياسية أن تقر بها على اعتبار أن خيارات التحديث والديموقراطية لا يمكن أن تتحقق بدون حزب من وزنه. إن الاتحاد الاشتراكي لم ينته ولم يمت، كما يتمنى البعض، وإن دوره ضروري لإنجاح المشروع الديموقراطي الحداثي الذي تنشده بلادنا، باعتبار أنه كان ومايزال ركيزة أساسية للنظام الديموقراطي ولا يمكن أن نتصور أي تحول ديموقراطي أو ديموقراطية بدونه، ولا يمكن أن نؤسس ونبني مشروعا ديموقراطيا بالتشكيك في قوته وتبخيس فعاليته، أو بمحاولة تجاوزه أو إلغائه. وحتى النتائج السلبية التي حصدها الاتحاد الاشتراكي والتي لابد من معالجة أسبابها، يمكن أن تقرأ رمزيا باعتبارها نوعا من القسوة على من ننتظر منهم أكثر مما أنجزوا... وهنا لابد من الوقوف عند حقيقة أساسية، وهي أن نسبة كبيرة من زبناء الاتحاد الاشتراكي لم تشارك في عملية التصويت، ويتعلق الأمر بالفئات المتوسطة، وبالمتعاطفين مع المشروع الاتحادي، بالمثقفين، بكل من يؤمن بالمشروع الديموقراطي الحداثي... هؤلاء كلهم، عن حق أو غير حق، يرفضون الانخراط في العملية الانتخابية أصلا، بدعوى أنها مسرحية من مسرحيات العبث... هؤلاء كانوا يصوتون للاتحاد الاشتراكي، لكنهم اعتزلوا الانتخابات وأصبحوا من العازفين والمقاطعين للتصويت... أملهم في التغيير كان يتجسد من خلال وضع الثقة في الاتحاد ومناضليه... إلا أن هذا الحزب، كما يزعمون، لما شارك في الحكومة لم يكن في مستوى الانتظارات. وهذا الموقف يحتاج إلى أكثر من وقفة للتفكير والتأمل... ويكفي أن نقول بأنهم بموقفهم هذا لا يخدمون الديموقراطية في شيء، لأنهم عندما لا يصوتون فهناك من يصوت مكانهم، ويتعلق الأمر بالناخبين المكدسين في أحزمة الفقر والأحياء الهامشية، أولئك الذين يتحكم فيهم سماسرة الانتخابات... ويتعلق الأمر كذلك بأولئك الذين يستهويهم الخطاب الديني الأصولي، والعمل الإحساني المشبوه. إن هيمنة حزب العدالة والتنمية على المدن الكبرى كانت نتيجة لتصويت كاسح من الناخبين في الأحياء المدارية والهامشية، أما الناخبون الممثلون للفئات الوسطى فإنهم لم يشاركوا ولم يصوتوا! وربما يكون على الحزب، والحالة هذه، أن يستحضر حين الإقدام على المراجعات واتخاذ القرارات، أن يستحضر كل الخلخلة التي يتطلبها الحقل السياسي من أجل تعزيز قوى الحداثة، والطريق الذي لازال ينتظر المغرب في مجال التحديث. إن الاتحاد الاشتراكي هو ملك لكل قوى الديموقراطية والحداثة وليس ملك نفسه، وهو بذلك معني، من وجهة نظر التاريخ، ليس بمصيره الخاص فقط، بل بمصير كل العائلة التحديثية، إن جاز القول، بشكل عام، وعلى هذا الأساس مطلوب منه أن يتصرف... وهناك أكثر من جهة تحاول إلغاءه كرقم أساسي في أجندة البلاد. هؤلاء أضعفوا الاتحاد هناك سؤال لابد أن يجيب عنه رجال السياسة الاتحاديون، المتفرجون أو المستقيلون، المنسحبون أو المنشقون عن الاتحاد، على ضوء التطورات السياسية ونتائج الاستحقاقات الأخيرة، أية قيمة إضافية في إعادة تشكيل الخارطة السياسية جاءت بها مبادرتهم؟ وإلى أي حد ساهم اختيارهم في إضعاف الاتحاد الاشتراكي دون أن ينجحوا في المقابل في إنشاء بدائل ذات شأن أو تقوية الصف الديموقراطي، والمحطات التاريخية والمعارك الديموقراطية والأرقام المسجلة في الانتخابات دليل على ذلك ولا حاجة للتذكير بها... لحسن حظنا، لم يعد هناك ذو عقل يمكن، بعد كل هذا، أن يعلو كرسي الأستاذية ليفتي الفتاوى ويوزع النقط والميداليات، ويقرر في لائحة الفائزين والراسبين في مسار بناء الديموقراطية...لهذا نطلب من المنسحبين الكسالى أن يكفوا عن هراءاتهم، ونشر خبائثهم وسموهم... إنهم يتحملون كل المسؤولية في إضعاف الاتحاد الاشتراكي، بل إنهم بذلوا قصارى جهودهم من أجل التقزيم والتدمير... منذ البداية، وبعد الإعلان عن نتائج المؤتمر التاسع، وهم يعملون من أجل استنزاف القيادة الجديدة في معارك هامشية، معارك داخلية زائفة... والهدف كان هو إبعاد القيادة التي «خسرها» الحزب أخيرا... وعشية الإعلان عن النتائج راحوا ينشرون أحقادهم المرضية ويدعون إلى استقالة المكتب السياسي وعقد مؤتمر استثنائي، كذا! لقد زعم هؤلاء، بعد انتخاب القيادة الجديدة في المؤتمر التاسع، أن هناك أيادي خفية أوصلت لشكر إلى الكتابة الأولى، واليوم، تبين أن هناك أيادي مكشوفة استعملت هؤلاء لتدمير الاتحاد الاشتراكي، إنهم كانوا يشتغلون وفق إملاءات جهات متحكمة. إذن، والحالة هذه، نرفض أن يلعب هؤلاء دور الضحية... ونرفض تقييمهم لحصيلة الحزب في الانتخابات.. لقد كانوا خارج الحزب بل كانوا أدوات تنفذ قرارات جهات تروم إماتة حزب الاتحاد الاشتراكي... ونصرخ في آذان هؤلاء بأن تقييم النتائج من حق المناضلات والمناضلين الذين انخرطوا بقوة في المعركة... أوفياء للمشروع الاتحادي، كانوا ومازالوا... إن السياسة هي فن المراكمة الصبورة وتحضير الطفرات النوعية بالعمل الطويل النفس الخاضع للتقييم الدوري، لا الأستاذية المتعالية على واقع السياسة المعطى تاريخيا، هنا والآن، وعبرة السياسة الحقيقية هي بالممارسة وليس بالنيابات والمقالات أو النداءات أو التوقيعات ولا حتى بالنيات، التي قد تكون صادقة عند البعض على الأقل... نتفق مبدئيا على بناء وحدة الأسرة الاتحادية وخلق تحالف واسع حول الحزب على أساس نقاش وبرامج واضحة في اتجاه تعزيز البناء الديموقراطي لبلادنا.. ونتفق أيضا أن تقوية الحزب ليست شعارا أو «ماكياجا» للتزيين، وليس موضوعا للمزايدة، بل إنها ثقافة وسلوك، قناعة وممارسة.. إذن، لا يكفي أن نوقع النداءات لنظهر أننا غيورون على الاتحاد، فالإيمان بوحدة الحزب تبدأ أولا بالانخراط في بنائه وتقويته، والمشاركة الفعالة في معاركه، وتقوم ثانيا على القطع مع العقلية التشتيتية والتدميرية، وقبل هذا أو ذاك تقتضي الحسم مع الذات والخروج من دوائر الكسل واللعب على الحبال.. أن توقع النداء على مستوى الورق فذاك منتهى السهولة، لكن أن تجسد التوقيع على مستوى الواقع متعذر على أولئك الذين يقتاتون بالشتات، وينبعثون بعد أن طواهم النسيان... فما صنع التوقيع مناضلا ولا النداء زعيما... ومرة أخرى نؤكد للذين غنموا مكاسب وامتيازات ومناصب باسم الحزب، للذين ساهموا بالأمس القريب في إضعاف الحزب.. ليس من حقهم اليوم أن يحاسبوا القيادة الجديدة... فهم كانوا سببا ضمن أسباب أخرى في إضعاف الحزب في هذه المحطة. في الحاجة إلى ثقافة انتخابية جديدة إذا كانت قوة البعض في توظيف الدين ومؤسساته، وقوة البعض الآخر في استعمال الأموال وشراء الناخبين، فإن قوة الاتحاد الاشتراكي في تنظيمه –أو هذا ما ينبغي أن يكون- قوته في برنامجه، في قدرته على التواصل مع الناخبين، في قدرته على الإبداع في أشكال التواصل، في تنويع أشكال تبليغ الخطاب الاتحادي للناخبين والناخبات، الخطاب الاتحادي الذي يروم بناء مجتمع ديموقراطي، حداثي ومتضامن. ونسجل أن الدينامية التنظيمية والسياسية التي عرفها الاتحاد الاشتراكي منذ نجاح المؤتمر الوطني التاسع، وما أسفرت عنه من نتائج إيجابية في فترة وجيزة، لم تنعكس إيجابا على مستوى نتائج الانتخابات.. أن هذه الدينامية التنظيمية والسياسية لم ترفع من حصيلة الحزب الانتخابية... ففي الرابع من شتنبر طغى التواضع على نتائج الحزب، وتأكد تراجع ثقل الحزب... نتائج باهتة لا تشرف حزبنا بتاريخه وأمجاده ومشروعه المجتمعي.. نتائج آلمت المناضلين والمتعاطفين أمام تشفي الغدارين والخصوم والأعداء.. إذن، النتائج لم تكن في مستوى الانتفاضة التنظيمية التي عرفها الحزب، لماذا؟ ربما نتائج هذه الحركية ستظهر في المستقبل.. فالقديم لا يموت بسرعة والجديد لا يظهر بسرعة، وهذا هو حال حزبنا. ولكن نؤكد أن حزبنا، بالرغم من أدبياته السياسية الرفيعة، وبالرغم من ديناميته التنظيمية، فإنه لم يكتسب بعد ثقافة انتخابية... فمازالت أجهزتنا التنظيمية، إقليميا ومحليا، تشتغل بأساليب قديمة وعقيمة، أساليب شاردة وغير مجدية. مازالت الانتخابات محطة لتضخم الخلافات والصراعات في صفوف الاتحاديين والاتحاديات، وأغلبها خلافات ذاتية يحركها التهافت على المواقع، فمن خلال هذه التجربة الانتخابية، كما التجارب السابقة، لاحظنا التطاحن بين الاتحاديين، التطاحن الذي يسيء إلى الاتحاد الاشتراكي ومترشحيه، والمستفيد الأكبر هم خصوم الاتحاد الاشتراكي الذين يعملون بكل الوسائل على تأجيج هذا الصراع الذي يستنزف طاقات الاتحاد في حروب تافهة من خلال نضال بعضهم في بعضهم... ينقسم الاتحاديون إلى غاضب، بسبب عدم حصوله على التزكية أو عدم تموقعه ضمن الأوائل في اللائحة، وإلى منخرط متحمس بسبب حصوله على التزكية أو تموقعه في المراتب الأولى... وللغاضب أصحابه، وللمنخرط أصحابه.. يتبادل الفريقان التهم، ينشغل بعضهم بالبعض الآخر... اتحاديون يقودون الحملة الانتخابية وآخرون يقومون بحملة مضادة! وهذا أثر ويؤثر سلبا على نتائج الاتحاد الاشتراكي وضياع مقاعد وأصوات، ما كانت لتضيع لو تجاوز الاتحاديون الخلافات الثانوية والمعارك الذاتية. إن الحزب الذي يتخذ من ذاته موضوعا للاشتغال و»النضال» محكوم عليه بالتآكل الذاتي والانقراض. إن موضوع الاشتغال والنضال بالنسبة للاتحاد الاشتراكي هو المجتمع، إشاعة الفكرة الاشتراكية وقيم الديموقراطية الحداثية داخل المجتمع... إن مستقبل الاتحاديين الاتحاديين، لذا وجب عليهم أن يعملوا جادين، كلهم، مسؤولين ومناضلين، على معالجة الاختلالات التنظيمية وتجاوزها بشكل إيجابي، وهذا يقتضي هدم الذاتيات وتدمير الأنانيات ويقتضي التشبع بثقافة سياسية وتنظيمية جديدة، وبثقافة انتخابية جديدة... ثقافة تقوم على حضور دائم في المجتمع بمختلف قطاعاته ومؤسساته، حضور دائم مع المواطنين بمختلف فئاتهم... وتقوم على طريقة تفكير جديدة، ومنهجية جديدة في انتقاء المترشحين ووكلاء اللوائح.. تقوم على انخراط واعي وعمل هادف، عمل جمعوي، إنساني، اقتصادي واجتماعي... تقوم على الإنصات للمواطنين والتضامن معهم... تقوم قبل هذا وذاك على التواجد المستمر والفعال مع المواطنين لا تذكرهم فقط عشية الانتخابات للحصول على أصواتهم... إن الاتحاد الاشتراكي مازال ضحية الوعي الشقي بثقافة الانتخابات... مما يترجم عدم مبادرته لتجاوز العوائق التي تعوق استقطاب فاعلين مجتمعيين قادرين على كسب أصوات الناخبين والناخبات.. لم يعمل الاتحاد الاشتراكي بعد على وضع حد للمقاومات الداخلية التي ترفض انفتاح الحزب على المواطنين... إن من يتحمل مسؤولية حزبية، وطنيا، إقليميا ومحليا، ليس بالضرورة هو المؤهل ليكون وكيلا للائحة انتخابية... وهنا يجب إعادة النظر في منهجية الترشيح، ونتائج الانتخابات الأخيرة أبانت عن فشل كثير من أجهزتنا الإقليمية.