في البدء كان التراب، العنصر التشكيلي ذو الوظيفة المزدوجة، إذ هو المادة وخالق تشكيلة الألوان. في البدايات، كان المصطفى غزلاني يهب السند للتراب كما يتراءى له، مغترفا إياه من سطح الأرض أو من أعماقها. جلية كانت، حينها، الأعمال التي يهيكلها التراب. وقابلا لكشف ذاته دون مواربة كان وضع التراب الأولي ذاك، ومعه طيف ألوانه الأولي. في البدء كان التراب، العنصر التشكيلي ذو الوظيفة المزدوجة، إذ هو المادة وخالق تشكيلة الألوان. في البدايات، كان المصطفى غزلاني يهب السند للتراب كما يتراءى له، مغترفا إياه من سطح الأرض أو من أعماقها. جلية كانت، حينها، الأعمال التي يهيكلها التراب. وقابلا لكشف ذاته دون مواربة كان وضع التراب الأولي ذاك، ومعه طيف ألوانه الأولي. المرحلة الأولى هذه كرست المصطفى غزلاني ضمن الأسماء الحاضرة بقوة في حقل تجديد المشهد التشكيلي المغربي. لكنه تكريس كان يحمل في باطنه منزلق جعل الفنان ﴿كل فنان﴾ «يستنسخ نفسه» وفق مقولة بيكاسو. للانعتاق من براثين مثل هذا المنزلق، توالى التنقيب والبحث التشكيليان لدى غزلاني، مثلما تراكمت القراءات من طرفه، هو الناظر بامتياز والملتهم النهم للنصوص المكتوبة، ليتخلق لديه، مع سبق الإصرار والتفكير والتخطيط، نفَس ثان، نفَس ملؤه السعي الحثيث إلى معانقة قارات تشكيلية مبتكرة، بتواطؤ، دائما وبالطبع، مع التراب، نفَس كان عنوانه: البورتريه. خلال هذه المرحلة الثانية، تملك المصطفى غزلاني، بفعل تفضيله للبعد العمودي، ناصية مقولة جاك نيني التي مفادها: «نتعرف على الوجوه أساسا عن طريق التعبيرات الوجهية التي تبعث فيها الحياة، لكن البعد العمودي أساسي في عملية تأويلها». البورتريه، الذي هو تمرين بصري جوهريا، سيترك مكانته المحورية، لاحقا، لمقاربة مغايرة من طرف الفنان لمادته المنتقاة، لتركيب مختلف من طرف التشكيلي لازدواجية التراب. هكذا، لن يمثل البورتريه في مسار المصطفى الغزلاني، رغم عكسه المبهر لديه للشخصية الداخلية والخارجية لشخوص حقيقية أو متخيلة، سوى محطة انتقالية لحط الرحال في مرافئ فنية أخرى. في منعطف غزلاني الجديد، هناك بالطبع حضور التراب دائما وأبدا، لكنه أقل تجليا الآن، أقل كشفا عن كينونته المزدوجة، ذا تمظهر أكثر صفاء وتوليدا للآثار، وهو منخرط في الإبداعات الأخيرة، بفعل تدخل الفنان المضني والخلاق، في منحى محو مجلاه الخارجي للاحتفاظ فقط بجوهره وللاحتفاء بهذا الجوهر فحسب. تمثلت شرارة اقتراح غزلاني الجمالي الحالي في لوحة موسومة ب «أرض على أرض- 2014»، لوحة حيث النور غائب تماما. فكان أن أنارت عتمة العمل هذا سبيلا غير مسبوق أمام المبدع! لا يتعامل السبيل الجديد الذي انخرط فيه المصطفى غزلاني مع التراب، الذي هو العنصر الصلب اليتيم ضمن عناصر الطبيعة الأساسية الأربعة، بوصفه مجرد مادة تحتل حيزا فضائيا. بل أساسا بصفته إحساسا، إدراكا مخطوطا على أديم جغرافية طفولة الإنسانية قبل تعرضها لإقبار الإنسي في الإنسان الذي ولده الزحف العارم لوأد التجانس بين الكائن ومحيطه. وهو المعطى المجسد لخلفية أعمال الفنان الأخيرة التي تعتبر صدى إبداعيا لإلزامية «إعادة تموضع الإنسان بجذرية ضمن محيطه»، إعادة التموضع تلك التي طالما دعا إليها فليكس غاتاري. التراب عودة إلى المنابع، والمصطفى غزلاني يشتغل عليه كمادة وطيف ألوان في ذات الآن، يحكه ويصقله قبل أن يترك الزمن المسترسل يفعل فيه فعلته هو الآخر. ولا يكف الفنان، في لحظات اقتراف إبداعه، عن إجهاد الذات بالعمل، عن إعمال ذلك «التوتر الكامن في الجهد المتواصل» الذي تحدث عنه ثيودور مونو، توتر عضلي وفكري مبتغاه ارتقاء اللوحة إلى درجة أمثلة جوهرها، إلى درجة تمجيد الإيحاء. أجل، إن الرهانات التشكيلية والجمالية لغزلاني تكمن في التنقيب عن جوهر التراب وليس في مجرد عكس مظهره، في الإيحاء به عبر محوه وليس في مجرد سرده مزينا. وهي الرهانات التي تفرض، أحيانا، حضور الرقوق، رقوق لا تندرج وظيفتها ضمن قواعد التناسق البصري للعمل فحسب، بل في سياق الإيحاء بالرجوع إلى البدايات أيضا، إلى الجذور. رقوق هي في الحقيقة آثار سابقة عن معنى الكلمات المخطوطة، خربشات سابقة عن الكتابة... رقوق ميزتها التحول أيضا، لأنها منفلتة من عقال الأشكال الساكنة المحددة سلفا، غير مستعارة من عتمة الكهوف الفعلية، بل مستقاة من أغوار المخيلة اللامادية للسلف الذي هو الإنسان قبل تعرضه للتنميط. تقنيا، يبدو التركيب الأفقي مهيمنا على أعمال غزلاني الأخيرة، وذلك رغم تراجعه أحيانا لصالح العمودية. كما أن درجات الألوان الشاحبة تغزو فضاء اللوحة، ولا تقبل إلى جانبها الدرجات المائلة إلى الأزرق والبرتقالي إلا حين تستلزم راحة العين الأمر. أما الأشكال، فهي مندثرة تماما ومتلاشية، تهب نفسها للناظر مجردة إطلاقا، متخلصة من كل معنى بديهي، وذلك نظرا لكونها نتيجة تنضيد أشرطة اشتغل عليها الفنان بمعية حليفه الزمن. أعمال المصطفى غزلاني الأخيرة تقترح نفسها على شكل تراتيل لأتربة معالجة جماليا إذن. هي قصائد مديح لهشاشة التراب وللتحاب الذي يفرضه على الفنان. إنها منغرسة في الثقافة المغربية، وبقدر ما هي مخترقة بالحيوية، بقدر ما هي منفتحة على الكوني ومساهمة في صياغته,