أن يتحدث مولاي عبد السلام الجبلي، أخيرا، فذلك حدث. حدث سياسي بامتياز. اعتبارا لموقع الرجل الذي كان ضمن جسم المقاومة المغربية، وأيضا ضمن كوكبة المنفيين السياسيين المغاربة من اليسار ومن الحركة الإتحادية، سواء بالجزائر أو فرنسا، أو غيرهما من الدول. بالتالي، فإنه طبيعي تماما، أن تكون قراءة كتابه الصادر هذا الأسبوع، تحت عنوان "أوراق من ساحة المقاومة"، قراءة بشغف خاص، لأنه كلام ومقول منتظر من زمان. الحقيقة، إن قراءة كتاب مولاي عبد السلام الجبلي (قرأته مرتين في بحر عشرة أيام)، يفتح الباب أكثر للسؤال، مما يطفئ جوعا للإشباع التفسيري للأحداث كما وقعت في 60 سنة الأخيرة من تاريخ المغرب والمغاربة. انطلاقا، من موقع مشاركته الخاصة في تلك الأحداث، ومن وجهة النظر التي رأى منها الرجل، الفارع الطول، تلك الأحداث والوقائع. ولعل أول تلك الأسئلة، مرتبطة بالعنوان نفسه، الذي يطرح إشكالا حول مفهوم "المقاومة المغربية"، بالمعنى الإصطلاحي والتاريخي للكلمة. لأن اختيار عنوان "أوراق من ساحة المقاومة المغربية" يخلق التباسا جديا، بعد الإنتهاء من قراءة صفحات المؤلف، البالغة 235 صفحة من القطع الكبير، حول مدى اتساق العنوان مع المضمون. لأن التاريخ المحكي يمتد من ثلاثينات القرن الماضي حتى سنة 1999، مع تفاصيل استقبال العاهل المغربي محمد السادس لبطلنا، ضمن المعزين لجلالته في أيام الحداد على رحيل والده، الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله. بالتالي، يحق لنا كقراء التساؤل: أين يبتدأ "زمن المقاومة المغربية" عند مولاي عبد السلام الجبلي، وأين ينتهي؟. هل ما حدث من تدافع سياسي، عنيف أو سلمي، طيلة فترة الإستقلال جزء من "ساحة المقاومة المغربية" عنده؟. هل تفاصيل علاقته، مثلا، مع الراحل إدريس البصري منذ 1978، جزء من "ساحة المقاومة" تلك أيضا؟. بالتالي، واضح أنه كان تمة استسهالا في نحت العنوان، الذي كان ربما أسلم لو اختير له توصيف "أوراق من سيرة حياة". من موقع الجيل، الذي أنتمي إليه، الذي هو جيل ما بعد استقلال المغرب، فإن قراءة كتاب حدث، مهم ومنتظر، مثل كتاب مولاي عبد السلام الجبلي، يطرح جديا أسئلة أخرى حول الرؤية المؤطرة لشهادات مماثلة، تكتب للتاريخ. مفروض أنها، لا تكتفي بتنويرنا بوقائع معينة، بل إنها تمنحها معنى سياقيا أيضا. هنا، تصبح اللغة رسالة عن صاحبها. ومنطوق حكي مولاي عبد السلام، يصدر عن لغة عنيفة، تترجم أكيد عنف الوقائع والأحداث المحكي عنها، أي تلك التي يقدم شهادته حولها. مما يجعلها، شهادة غير يسير التعامل معها من قبل ممحصي درس التاريخ، أي المؤرخون. وتكبر الصعوبة أكثر، أمام بنية الوصف والحكي، التي تتأسس على رؤية ذاتية للوقائع والناس والعلائق، يخشى جديا أن يستشعر القارئ والمؤرخ معا، أنها تجعل الشهادة أقرب إلى تصفية الحساب مع الماضي، منها إلى شهادة تحاول تنوير الحاضر والمستقبل حول قصة ذلك الماضي، كما وقع، بأكبر قدر ممكن من "الإنصاف" للواقعة التاريخية كما كانت. إن المؤرخ، أمام شهادة مولاي عبد السلام الجبلي (التي علينا ربما الإنتباه أنه لم يكتبها هو بنفسه مباشرة، وقد يكون محررها، الروائي المراكشي عبد العزيز آيت صالح، قد حرر الحكي بقاموس لغوي عنيف، رآه الأكثر أمانا في ترجمة روح أفكار الرجل)، أقول إن المؤرخ سيجد نفسه أمام معطى سردي للوقائع، مثير، يجعلنا نكتشف أن جل أبطالها، إن لم يقل المرء أغلبهم، قد كانوا مخطئين في ردود أفعالهم، وأن الوحيد الذي لم يخطئ هو صاحب الحكي. وهذا أمر مقلق بالنسبة لكل ممحص في درس التاريخ. هذا يطرح، إشكالا آخر، حول مدى قدرة أصحاب شهادات مماثلة، تكون حاسمة وهامة جدا، منتظرة ومطلوبة، في أن يتخلصوا من شرنقة تصفية الحساب مع الماضي، وأن ينتصروا في ذواتهم، لمعنى الشهادة، في معانيها المخصبة لتأويل الوقائع، بالشكل الذي يساعد في تنوير الأجيال الجديدة (وكتاب الجبلي يتضمن تفاصيل غاية في الأهمية). لأنه علينا الإتفاق، شئنا أم أبينا، أن الماضي هو الماضي، وقع وانتهى، وأن إنصافه لا يقتضي سوى نفض غبار المعنى عن أحداثه، التي لا مجال لتغييرها اليوم. هنا يكبر السؤال حول مدى وعي النخبة السياسية المغربية، كأفراد كان لهم فعل في جزء من أحداث التاريخ الجمعي لبلدهم وأهله، في أن يدركوا، أن الشهادة تكون عنوانا عن صاحبها في نهاية المطاف. تجربة حياة مولاي عبد السلام الجبلي، غنية جدا، ما في ذلك شك، بل مبهرة. فاتورته النضالية والوطنية، التي أداها من لحمه وجسده ومن مصير عائلته، ثقيلة في ميزان الوطنية المغربية، هذا أيضا لا جدال فيه. جرأته، صلابته، في زمن حارق، مثل زمن المقاومة، تجمع عليها كل شهادات مجايليه التقاة. الكثير، من تفاصيل كتابه، جد مهمة وغير مسبوقة في بعضها، هذا أمر لا ينكره إلا جاحد. الصدمة كامنة في اللغة، في بنية الشهادة نفسها، التي فيها قلق الماضي الذي لا يزال يحكم الرؤية إليه في الحاضر. هنا يكمن التحدي، الذي لم يتخلص منه صاحب الشهادة، مولاي عبد السلام الجبلي.