في هذا الحوار الأنيق الذي أجريناه مع الكاتب نور الدين محقق، يتحدث صاحب "الألواح البيضاء" و "كتاب المنمنمات" عن كتبه التي خطتها يده وعن حبه للآداب و الفنون معا و لعملية الغوص في عوالمهما المتشابكة مع الحرص على التجديد فيها، وارتداء القبعات السحرية التي تضاعف من حضوره الرمزي الجميل في دنيا الثقافة. هنا، في هذا الحوار، الأسئلة الموجهة إليه وهنا الأجوبة التي قدمها. o ما المنجز الورقي لك خلال السنة الماضية، وما مؤلفاتك التي هي قيد الطبع ومشاريع الكتب التي تشتغل عليها حاليا ؟ n هو ذا سؤال عميق يحاول أن يغوص في أرجاء غرفة الكاتب، هذه الغرفة السحرية التي لا يريد هو من أحد أن يدخل إليها إلا بعد أن يكون قد استعد لذلك كما ينبغي ، بمعنى أن يكون قد قرأ للكاتب بعضا من كتبه وتعرف بالتالي من خلال هذه القراءة على عوالمه .وسأفترض أن هذا القارئ قد فعل ذلك بالفعل ، وتعرف على عوالمي التي أسعى لتشييدها عالما وراء الآخر، ومن ثمة فهذا القارئ قد أصبح جديرا بأن أحدثه عن غرفتي الخاصة وأن أستقبله داخلها. فبالنسبة لمنجزي الورقي الحديث العهد بالصدور ، يمكن أن أتوقف عند ديواني الشعري "عاشق غرناطة العربي "على اعتبار أنه آخر كتاب ورقي قد صدر لي . وهو كتاب شعري يتحدث عن علاقتي بمدينة غرناطة وعن الأجواء التي عشتها فيها ذات زمن مضى . ومن غرائب الصدف أن هذا الكتاب الشعري، على اعتبار أنه يشكل تجربة شعرية موحدة ومتوحدة في ذات الوقت، لأنه ليس عبارة عن قصائد شعرية متفرقة، وإنما هو عبارة عن سيرة شعرية ارتبطت بمدينة غرناطة، هو أول كتاب شعري لي، كنت قد كتبته خلال سنوات 1984- 1988 ، لكنه ظل نائما داخل أدراج مكتبي طيلة كل هذه السنين، بعد أن كنت قد نشرت معظم القصائد الموجودة فيه في الصحافة العربية، مغربا ومشرقا ومهجرا أيضا، وحين أعدت نشر بعض هذه القصائد الشعرية من جديد في السنوات الأخيرة وخلفت حولها أصداء طيبة، قمت بإصدارها بشكل كلي في كتاب ورقي. ولقد لاقى لدى نشره ترحيبا من لدن النقاد والقراء على حد سواء، وتمت بالتالي عملية ترجمته إلى اللغة الفرنسية من لدن المبدعة والمترجمة المغربية رجاء مرجاني وإلى اللغة الإنجليزية من لدن المبدع والمترجم مراد الخطيبي، ويُنتظر أن تصدر هاتان الترجمتان في كتاب واحد مع النص الأصلي قريبا. وبالإضافة إلى صدور هذا الكتاب الشعري لي في سنة 2015، فقد صدر لي من قبل أي في سنة 2014 رواية "زمان هيلين" عن دار النايا بدمشق/ سورية، وقد رحب النقد المغربي بها بحيث قد كتبت حولها بعض الدراسات الجيدة على قلتها، وهي رواية تلتقي فيها الرواية بالأسطورة لتتوحد معا وتخلقا عالما تخييليا مضاعفا يجمع بين الواقعي والأسطوري في بوتقة أدبية واحدة . وبالموازاة مع ذلك، وإغناء للفعل الثقافي المغربي، فقد صدرت حول أعمالي الأدبية والفنية دراسة جادة عميقة قام بها الأديب والناقد المغربي محمد يوب، وسمها بعنوان "عالم نور الدين محقق، سحرية الحكاية وجمالية الفنون"، وهو مؤشر هام على أن الكتابة الجادة لابد وأن تصل إلى القارئ النموذجي الذي يبحث عنها، ويسعى لدوره إلى تقريبها من مختلف القراء الآخرين . وأما بخصوص ما أشتغل عليها حاليا، فقد انتهيت من كتابة رواية جديدة تتكلم عن عوالم مدينة "الدارالبيضاء" وهي تشكل بشكل ما جزءا ثانيا من روايتي السابقة حول هذه المدينة التي أعشقها، أي رواية "بريد الدارالبيضاء"، كما أهيئ كتابا آخر للنشر وهو كتاب حول الفن السينمائي أتابع من خلاله مقارباتي النقدية لعوالم هذا الفن الإنساني الراقي الجميل .ومن المنتظر أن يصدر لي أيضا كتاب شعري يحمل عنوان "مزامير أورفيوس" سبق وأن نشرت العديد من قصائده مشرقا و مغربا و مهجرا . وهناك أعمال أخرى تنتظرني للاهتمام بها كذلك، منها ما هو أدبي ومنها ما هو فني ،فعسى أن يسعفني الوقت لإنجازها كما أحب و أشتهي. o لماذا يصر الكتاب المغاربة، وأنت واحد منهم، على النشر رغم أزمة القراءة وانحسارها؟ وهل يمكن اعتبار أن النشر الإلكتروني هو بديل لأزمة القراءة والنشر الورقي في المغرب؟ n ليس الأمر إصرارا على الكتابة والنشر بالمعنى العادي للكلمة بقدر ما هو طريقة حياة ورغبة في الحلول في الكلمات بشكل وجودي غامض. إن الكاتب الحقيقي لا يمكن له أن يعيش بعيدا عن رؤية العالم من خلال مرايا الكلمات و متاهاتها بتعبير شيخنا خورخي لويس بورخيس .إنه يجد في عملية الكتابة سحرا يبعده عن اليومي المعيش حتى و لو كان هذا اليومي المعيش هو ما يدفعه للكتابة كي يعبر عن ذاته في عالم وهمي يتسم بالسمو والجمال والفتنة .ولا يمكن لهذه الكتابة أن تحيا ويشعر الكاتب لوجودها في غياب النشر . ذلك أن الكاتب حتى و لو ادّعى أنه يكتب لنفسه فإنه من خلال كتابته لنفسه يريد من الآخرين أن يقتسموا معه رؤيته للعالم المحيط به. فلا وجود للكتابة في غياب القراءة. القراءة هي التي تمنح لهذه الكتابة سحرها وهي التي تجعلها تتحول من تعويذة ذاتية إلى بلسم كلي. والكتابة تتحقق في الورق أكثر مما تتحقق على شاشة الكمبيوتر. إن الورق يمنحها صفة الخلود، إنه يمنحها عشبة جلجامش السحرية التي تطيل عمرها، في حين إن النشر الإلكتروني يمنحها امتدادا قابلا للمحو في كل حين . كما أنه يحول بينها وبين الالتقاء المباشر الجسدي منه تحديدا بقارئها المفترض. بحيث لا يسمح لهذا القارئ أن يقرأها وهو يقوم بعملية التسطير على كلماتها التي تعجبه وعلى التشطيب على تلك الكلمات منها التي قد لا تثير اهتمامه. في الواقع لقد تأخرت في عملية نشر كتبي طويلا وربما قد وقع هذا لمعظم أبناء جيلي الثمانيني- التسعيني ، فأنا من مواليد السيتينيات ، فقد كتبت منذ سنة 1983 ، لكني لم أنشر أي كتاب إلا في حلول سنة 2006 ، تحت إصرار الأصدقاء المقربين أن أفعل . وكان كتابي الأول هو " الألواح البيضاء" و هو عبارة عن مجموعة قصصية تتحدث عوالمها عن الذات في علائقها المتشابكة بالكتب .و من حسن الحظ أن الكتاب قد لاقى ترحيبا كبيرا وقد كتبت عنه دراسات كثيرة ، مما دفعني للقيام بعملية إصدار بعض كتبي الأخرى التي كانت مهيأة للنشر ولا تنتظر سوى فرص سانحة لذلك . وعملية النشر هاته هي ما منح لوجودي الرمزي معنى .فما يبقى من الكاتب هو كتبه المطبوعة ليس إلا بتعبير الكاتب الأمريكي و ليام فولكنر . o مبدعون بقبعات إبداعية متعددة (شعراء-تشكيليون، شعراء تحولوا إلى روائيين، كتاب نثر أصبحوا شعراء... ) ما مشاريعكم الأخرى ثقافيا غير الكتب؟ n في ورقة جميلة كتبها الصديق الكاتب والروائي شعيب حليفي و قدمها في يوم احتفائي بمساري الثقافي ، نظمته شعبة اللغة العربية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية -عين الشق بالدارالبيضاء سنة 2014، شبهني بالساحر الذي يرتدي قبعات سبعا، وينجح في التوفيق بينها ، وقد سرتني هذه الكلمة التي جاءت من صديق عزيز علي أكن له كامل التقدير والاحترام . إن هذه القبعات السبع التي أرتديها تعود إلى زمن بعيد أي منذ أن وعيت بذاتي في عوالم الآداب والفنون. لقد شدني الشعر أول ما شدني إلى عوالمه عاشقا، ومارست المسرح صغيرا في دور الشباب، ورقصنا ضمنه رقص الشباب المعتد بذاته، وكتبتُ عن العديد من المسرحيات العالمية العربية مشرقية ومغربية، ورسمت كثيرا وأنا بعد تلميذ، وأحببت الرواية والسينما، وجمعت بينهم، وكنت كلما ارتديت قبعة أسعى لأن أجعلها تكون في مستوى اللباس الكلي الذي كنت أرتديه حتى يستقيم الذوق الجمالي الكلي الجامع .لكني مع ذلك ظللت أحب من بين كل هاته القبعات السبع، تبعا لعدد الفنون السبعة الجميلة، كلا من قبعة الروائي وقبعة السينمائي. ففي الرواية أجد ذاتي وفي عوالم السينما والكتابة عنها ، أسبح في متاهات التخييل ومراياه المتعددة ، وتظل قبعة الشعر حاضرة في كل القبعات الأخرى فلا وجود لأي فن ، كتابة أو تشكيلا ، سينما أو مسرح أو حتى رقصا في غياب ظلال قبعة الشعر الفاتن الجميل. وفي ظل مشاريع الكتابة المتعددة هاته، تراودني أفكار متعددة، منها فكرة إخراج فيلم سينمائي ينتمي إلى دائرة "سينما المؤلف"، كما تراودني فكرة تنظيم معرض تشكيلي لرسوماتي المختلفة . لكنها تظل مجرد أفكار تراودني من حين لآخر ولا سبيل لعملية تحقيقها في ظل غياب دعم مادي لها.