نسجت السياسة علاقتها بالإنسان منذ المراحل الجنينية الباكرة التي برز فيها المخلوق البشري إلى الوجود ،واحتاج إلى إدارة شؤونه المشتركة بمقتضى العقل والحكمة. وستغدو السياسة ،فيما بعد ،علما واسعا ،يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى ،خاصة إذا أخذنا بالاعتبار بحثها في العلاقات التي تربط الحاكم بالمحكوم ،سواء أكانت علاقات داخلية أم علاقات خارجية. ويبقى كل تعريف للسياسة قاصرا ما لم نأخذ بالاعتبار رأي الآخر المختلف عما تتبناه الدولة والأحزاب السياسية الحاكمة في تدبير شؤون البلاد والعباد ،أو المعارض للطريقة التي تنتقل بها مقاليد الحكم ؛فكل ما تنتجه المعارضة من فكر يعتبر من صميم السياسة. والخطاب السياسي هو نتيجة السياسة ،وهو خطاب الأنساق بامتياز، لأنه الفضاء الأثير الذي تتخلّق فيه الأنساق وتنمو وتترعرع.فالخطاب السياسي يتعيّن مسرحا للسلطة ،وجسرا من جسور الإيديولوجيا ،كما أنه الفضاء المناسب الذي تراوغنا عبره اليوتوبيا ،وتتفجّر عبر بوابته الثورة. لقد أثبت التاريخ اشتغال السلطة في الخطاب السياسي ،وكثيرا ما اعتبرت السلطة الموضوع الخالص لعلم السياسة ،لأن الخطاب -على حد تعبير ميشيل فوكو- هو أخطر المواقع التي تمارس فيها السياسة سلطتها الرهيبة بشكل أفضل ؛فالسلطة لا تستطيع أن تبرز بدون خطاب ممثل لخصوصياتها. ويبدو أن الخطاب السياسي لا يعتبر وجها من وجوه السلطة فقط ،بل إنه بلا شك التربة التي تعيش فيها الإيديولوجيا ،وتختفي عن الأنظار ،حتى تضفي المشروعية على نفسها.ويعتبر كل فعل مؤسس لجماعة ما ،تقدم نفسها إيديولوجيا فعلا سياسيا في جوهره ،وفي هذا المستوى تتجاوز الإيديولوجيا الوهم الزائف بالتعبير الماركسي ،لتعبّر عن الرؤية إلى العالم، وتتحول إلى أداة للسيطرة ،عبر نمذجة الجماعة التي تصدُر عنها ،وشرعنة معتقداتها وتصوراتها وقناعاتها الخاصة.فالحاكم يؤسس نموذجا مقدسا لذاته،والمعارض يقوم بنمذجة الجماعة التي ينتمي إليها من منطلقات إيديولوجية ،تقوّض خطاب السلطة وتهدمه.وحتى الإرهابي يتحرك في تخوم الخطاب السياسي الإيديولوجي ،فيتخذ من الإيديولوجيا الدينية مطيّة لتسويغ تحركاته على أرض الصراع السياسي ،وهذه هي الطريقة المثلى لضمان استمرار الإرهاب في العراق وسوريا واليمن... وفي كل الخطابات السياسية التي تصدر عن الحاكم أو عن المعارض تتكشف لنا أبعاد اليوتوبيا ،التي تخاطب في الإنسان الحلمَ ،وهي خطاب مستقبلي يتأسس على الأحلام والوعود التي يزفّها رجل السياسة للمواطن ، حينما يصور له المستقبل المشرق ،ويفرش له الأرض المحترقة ورودا تختلف ألوانها.ففي الخطاب «الداعشي» -على سبيل المثال- ينطلق الأمير من المسلمات الدينية ،ويوظفها في سياقات مناقضة ،ليَعِد المقاتلين بالجنة، فتكون اليوتوبيا ،ههنا ،كلمة حق أريد بها باطل بتعبير علي كرم الله وجهه. واللافت أن الرؤساء العرب كثيرا ما توسلوا باليوتوبيا في خطاباتهم التاريخية ؛فقد كان «زين العابدين بن علي» يعد التونسيين بالرفاهية وسعة العيش ،وكذلك يفعل بشار الأسد اليوم ،في الوقت نفسه الذي تحرّق فيه طائراته العسكرية أبناء الشعب السوري. ويندرج ضمن الخطاب السياسي خطاب الثورة ،باعتبارها رد فعل سياسي على السياسة الفاسدة التي تُدار بها شؤون البلاد.والخطاب الثوري هو كل خطاب يحفّز على الفعل المضاد ،ويدعو إلى التغيير بمقتضى المصلحة العامة.ولا شك في أن الثورة هي النتيجة التي يفرزها الخطاب السياسي الذي يقوم بخلخلة الأنساق المخاتلة للسلطة والإيديولوجيا واليوتوبيا ،ويجعل الثائر ينفلت من سيادة النموذج االمقدّس ،ويتحرر من قيود الوهم. وإذن ،فالخطاب السياسي هو الخطاب الذي يشتغل وفق هذه الأنساق الأربعة ،لاستمالة الأذهان ،وجعلها تُذعِن لما يُعرض عليها دون إقناع حقيقي ،وإنما عن طريق تحريك العواطف وتوجيه الانفعالات من خلال التسلط و الأدلجة والتنويم اليوتوبي والتثوير.