شكل الخصاص الكبير المسجل في مخزون الدم حدثا بارزا خلال الأسبوع الفارط، مما دفع المركز الوطني لتحاقن الدم إلى دقّ ناقوس الخطر، والمبادرة بتوجيه نداء عاجل للمغاربة من أجل التبرع بدمائهم لإنقاذ حياة أشخاص آخرين يكونون في أمسّ الحاجة إليها، مادام التبرع هو ليس طوعيا عند العديدين، ومادام البعض يؤمن بالإشاعة التي تتحدث عن بيعه، والحال أن الأمر يتعلق بمصاريف إعداده حتى يكون جاهزا ولكي تستخلص منه المشتقات الأخرى. وقد لايقف هؤلاء الرافضون لفكرة التبرع بالدم تلقائيا أمام هول وجسامة الحاجة إلى الدم الموضوع إلا إذا ما عاشوا لهفة الطلب عليه حين إصابة قريب في حادثة سير، أو لحظة ولادة عسيرة نتج عنها نزيف، أو كانوا أمام عزيز على القلب أصيب بمرض يتطلب الحصول على حقن الدم مدى الحياة، أو تطلب وضعه إجراء عملية جراحية، أو أصيب بفشل كلوي، وغيرها من الحالات التي يكون فيها الدم عملة أساسية، إن توفر استمرت الحياة وإن انعدم انطفأت شمعة المعني بالأمر ، وأغمض عينيه دون القدرة على فتحهما مرة ثانية، وغادر الدنيا إلى الأبد. وإذا كان عدد من المواطنين يغلب عليهم التردد فإن أصحاب الوزرة البيضاء الأقرب إلى المرضى ومعاناتهم، الذين يدركون تمام الإدراك أهمية الدم ويقفون على حجم المأساة التي تترتب عنه حين فقدانه، شكلوا عنوانا راقيا للتفاعل مع نداء المركز الوطني لتحاقن الدم، فخلال يوم واحد عاشت الدارالبيضاء، نموذجين اثنين، محورهما أصحاب السماعة الطبية، الذين شمّروا عن سواعدهم واصطفوا للتبرع بدمائهم. وجاء النموذج الأول من مصحة الشفاء التي سارع مديرها الدكتور حسن التازي للاتصال بالمركز الجهوي للدارالبيضاء لاستقدام الفريق المكلف بالإشراف على عملية التبرع بالدم، وبسط ذراعه إلى جانب أذرع أطباء، ممرضين، إداريين، بوجه مبتسم وروح عالية للتبرع والمساهمة في إنقاذ حياة الغير، مقدمين صورة مغايرة لما يمكن أن يُتداول عن بعض المصحات الخاصة التي تنعت بكونها تمتص دماء المواطنين، لنكون اليوم أمام مصحة هي التي يقدم رئيسها والعاملون بها دماءهم لغيرهم. خطوة أكد الدكتور حسن التازي أنها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد دأبت المصحة على القيام بخطوات مماثلة في مناسبات عدة، داعيا الجميع، مواطنين ومهنيين من مختلف المشارب، إلى الإقدام عليها، لأن فيها ثوابا وأجرا عظيم للمساهمة في استمرار الحياة، علما بأن إحياء الحياة الواحدة هو إحياء للناس جميعا، مبرزا على أن هناك فوائد أخرى للمتبرع نفسه، الذي يمكنه من خلال خطوته هذه، الاستفادة الذاتية من تنشيط الدورة الدموية، إذ يتم تنشيط نخاع العظم لإنتاج خلايا الدم المختلفة بعد التبرع بالدم، ويساهم في التقليل من احتمال الإصابة بأمراض القلب وانسداد الشرايين، لأن التبرع بالدم يقلل نسبة الحديد في الدم، إذ ثبت علميا أن زيادة نسبة الحديد تزيد من نسبة الإصابة من هذه الأمراض، فضلا عن كون المتبرع يتأكد من سلامته وخلوّه من العديد من الأمراض التي تنتقل عن طريق الدم، كالإيدز، التهابات الكبد الفيروسية، الزهري، الملاريا وغيرها ... النموذج الثاني هو عبارة عن «ملحمة» جماعية وسمفونية غير مسبوقة أطربت كل من تتبع أنغامها والتي عزفها طلبة كلية الطب وطب الأسنان، والأطباء الداخليون والمقيمون، الذين لم يحل غضبهم وسخطهم، وإحساسهم بالضياع، والخوف من المستقبل المجهول، جراء مشروع قانون الخدمة الوطنية للصحة الذي يسارع وزير الصحة لإخراجه إلى حيّز الوجود، ويغض الطرف عن ملف مطلبي يتضمن العديد من النقاط العالقة التي تعد عللا من بين أخرى تئن تحت وطأتها المنظومة الصحية، من التبرع بدمائهم لفائدة المواطنين الذين يخاطبهم الوزير قائلا بأن هذه الفئة، التي تبرعت بدمائها، لاتريد أن تخدمهم وترفض الخدمة المدنية الإجبارية، فكذبوا التصريح بدمهم، واصطفوا جنبا إلى جنب بعد انتهاء مسيرتهم الاحتجاجية يوم الاثنين الفارط للإقدام على هذا الفعل النبيل، وظلوا كذلك طوال الأسبوع، شأنهم في ذلك شأن زملائهم في كل من فاس، وجدة، الرباط ومراكش. هكذا تبرع الأطباء، طلبة ومقبلون على التخرج، قطاع خاص ومنتمون للقطاع العام، اختلف المتبرعون والمتبرّع به واحد هو الدم، في وقت يتعدد المتضررون، جنسهم، سنهم، مرضهم، والمطلوب أيضا واحد هو الدم. فمتى نطرد «الشحّ» جميعا من قلوبنا، متى نتخلص من الخوف ومن الإشاعة، متى يكون إصرارنا قويا على المساهمة في إنقاذ حياة غيرنا، ونعلنها جميعا، هذه دماؤنا جاهزة للتبرع ؟