حين يكتب الكاتب سيرته الذاتية ، فإنه يتكئ على عصا الذاكرة يهش بها على قطيع الأحداث كي ينتظم في عقد الرواية. الذاكرة / المادة الخام التي يستدعيها الكاتب بأثر رجعي أو بتقنية « الفلاش باك»، بأمكنتها وأحداثها وروائحها وشخوصها العابرين في لحظة اعتراف واقعية يتبلها ببعض التخييل الضروري لإعادة بناء هذه الأحداث بصدق، تبقى مع ذلك محط تردد. فمهما حاول الكاتب إضاءة مناطق غير معروفة من حياته وإشراك القارئ في جزء من خصوصياته، فإنه، باعتباره الماسك لزمام الأحداث في استدعائه للماضي، والشاهد الوحيد على الوقائع، لا شك يمارس نوعا من الانتقائية في تفاصيلها، ويراوغ بعضا من مخزون هذه الذاكرة ليس بسبب النسيان (الذي قد يحدث أحيانا)، أو لأنه لا يخدم النص في جماليته وقيمته الأدبية، بل لأنه يجعل الكاتب في مواجهة أسئلة أكبر، وحدود ترسم رقعة الإبداع. أسئلة لم تجد بعد أجوبة لها على صعيد المجال العام لعل أهمها الجنس، الدين والسياسة. فهل يخدم الصدق دائما « السيرة الذاتية» وصاحبها؟ وهل يمكن الحديث عن تطابق كلي بين السارد والمسرود؟ التجارب الأولى الحديثة في السيرة الذاتية، مغربيا، لم تحلل أو تقيَّم من خلال قيمتها الادبية وإضافاتها، بقدر ما اكتسبت شهرتها بتكسيرها للطابو الجنسي/ السياسي. فحرية شكري وصدقه مثلا في «الخبز الحافي»، ونقله لتجربته بتفاصيلها الحادة والصادمة أحيانا، حولته الى شخص منبوذ من عائلته قبل النقاد ما دفع إلى منعها طيلة سنوات، وهو المنع نفسه الذي ساهم في إشعاعها وترجمتها الى 38 لغة في ما بعد. ولعل عنصر الصدق المستحيل هو ما دفع عبد القادر الشاوي الى موقعة كتاباته، وخاصة «من قال أنا؟»، منذ البداية ، في خانة التخييل الذاتي، نظرا لتداخل التخييل والحقيقة في هذا النوع من الكتابة، واستحالة التدقيق في أحداث الماضي البعيد وبالضبط في مرحلة الطفولة حيث الخيط الزمني يصبح عنكبوتيا، فتحضر الاستيهامات والإسقاطات بشكل مكثف، وتقفز بعض الجزئيات من ثقوب الذاكرة، وتتمنع أخرى وتحتجب بشكل متعمدأحيانا وتتزاحم الصور الكامنة في اللاوعي لتتبدى مثل حقائق معيشة قد يلعب المروي الشفهي فيها دور محرك «الماريونيت». سلطة الذاكرة تحضر أيضا في أدب الاعتقال السياسي لتوثيق مراحل من حياة الفرد والمجتمع وحفظها من التلاشي، مثل «محنة الفراغ» لأحمد المرزوقي، «حديث العتمة» لفاطنة البيه، «كان وأخواتها» لعبد القادر الشاوي، « الغرفة السوداء» لجواد مديدش، «تذكرة إلى الجحيم» لمحمد الرايس.. ولأن هؤلاء كتبوا على بعد مسافة من المكان والزمان والأحداث، فإن عامل النسيان لا شك فتك ببعض الجزئيات والتفاصيل التي لا يمكن بأي حال من الأحوال الإمساك بها في تسلسلها الزمني ووقائعها، ما يجعلها أقرب الى الشهادة منها إلى السيرة.