أقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على إحالة الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق، قائد جهاز الأمن والاستعلام "دي. آر. آس" على التقاعد. وأكد بيان لرئاسة الجمهورية أن الرئيس بوتفليقة استخلف على رأس جهاز المخابرات، اللواء المتقاعد عثمان طرطاڤ، المدعو بشير، الذي كان مستشارا أمنيا في رئاسة الجمهورية وقالت "الخبر" الجزائرية: "انتهت بالجزائر أسطورة اسمها "الجنرال توفيق"، بعد أن سقط خبر إنهاء مهامه رسميا كقائد لجهاز المخابرات الذي تولاه منذ 25 سنة". وأضافت أن هذا القرار يأتي في سياق سلسلة إقالات واسعة أجراها الرئيس بوتفليقة في المؤسسة العسكرية وتحديدا جهازها القوي مديرية الاستعلام والأمن، خلال الشهر الماضي. وبناء على ذلك، كانت الكثير من التخمينات تتوقع إقالة الجنرال توفيق من مهامه، لكن لا أحد استطاع الجزم بإمكانية وقوع ذلك نظرا للهالة المرسومة حول الجنرال وموقعه داخل النظام. وقد ظل الجنرال محمد مدين المدعو "توفيق"، الذي عين في نونبر 1990 مديرا للمخابرات العسكرية، لغزا محيرا أو بالأحرى "شبحا" يرفض الظهور في وسائل الإعلام والتحول إلى "مادة إعلامية"، لكن شاءت الأقدار أن يكون "تقاعده" فعلا "أبرز وأهم حدث" لحد الآن لسنة 2015، كما ذهبت إلى ذلك وسائل الإعلام الجزائرية. ولد محمد مدين إلى في 14 ماي 1939 (76 عاما)، في مدينة ڤنزات بولاية سطيف، لكن المتداول أنه قضى طفولته في حي شعبي ببولوغين وسط الجزائر العاصمة. وبدأ اسم محمد مدين المكنى "توفيق" يبرز بعد انضمامه لجيش التحرير الوطني، على إثر إضراب الطلبة سنة 1957. وقد التحق "توفيق" بوزارة المخابرات والتسليح برئاسة عبد الحفيظ بوالصوف، رفقة يزيد زرهوني (وزير الداخلية سابقا) والراحل قاصدي مرباح (مدير مخابرات سابقا) ودحو ولد قابلية. ولقب ب"توفيق" إبان الحرب ضد فرنسا، عندما انتقل إلى الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) وكلف بمهمة تسهيل إدخال السلاح على الحدود الشرقية الجزائرية. وحين حصلت الجزائر على استقلالها سنة 1962، دخل الجنرال "توفيق" مدرسة "الكي. جي. بي" العسكرية ضمن دفعة "السجاد الأحمر" في الاتحاد السوفياتي سابقا، حيث تلقى تكوينا عسكريا مختصا في مجالات الاستخبارات. وبحسب المعلومات المتداولة على شبكة الأنترنت، عمل الفريق "توفيق" "مسؤولا عن الأمن العسكري بمديرية وهران، مع العقيد الشاذلي بن جديد مسؤول الناحية العسكرية الثانية، وهناك تعرف على العربي بلخير". في سنة 1980، عينه الرئيس الشاذلي بن جديد قائدا للمعهد العسكري للهندسة، ثم مديرا للمديرية الوطنية لأمن الجيش (الأمن العسكري)، والتي قضى فيها ست سنوات، وفي سنة 1986 عين قائدا للأمن الرئاسي، ثم بعد سنة 1989 ونظرا لطموحه وقربه من الجنرال النافذ العربي بلخير (مدير ديوان الشاذلي)، وجده مدير المخابرات لكحل عياط يشكل عقبة في طريقه فقام بإبعاده إلى ليبيا (طرابلس)، حيث عينه ملحقا عسكريا بسفارة الجزائر، حسب الرواية المتداولة. ومع اندلاع أحداث 5 أكتوبر 1988، أقال الرئيس الشاذلي بن جديد مدير الأمن العسكري لكحل عياط ومدير الوقاية والأمن محمد بتشين، وهما جهازان للمخابرات، مع إعادة هيكلة الأجهزة الخاصة وإنشاء دائرة الاستعلام والأمن، وأوكل مهام رئاسة هذا الجهاز إلى محمد مدين "توفيق" وتمت ترقيته إلى رتبة عميد. ومنذ أن "اشتد" عود الفريق "توفيق"في جهاز المخابرات، فرض "هيبته" على الجميع، فتحولت "الهيبة" إلى "خوف" من رجل كان يمارس مهامه الدستورية العادية، كضابط سام في وزارة الدفاع الوطني، إلى أن جاء عمار سعداني على رأس جبهة التحرير الوطني، في جانفي 2013، فتحول الفريق "توفيق" في "رمشة عين" إلى مادة إعلامية بسبب الانتقادات اللاذعة التي كان يصوبها ضده، فكانت القراءة الأولى أن قيل إن "سعداني جاء خصيصا لمحاربة توفيق". فكان أبرز تصريح يقوله سعداني، في تلك الفترة، أمام الصحفيين في ندوة صحفية: "إذا كانت دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات العسكرية) هي من تصنع كل شيء حاليا، فلن تستطيع أن تفعل كل شيء في المستقبل في إطار الدولة المدنية". وتوالت التصريحات النارية من سعداني ضد الفريق "توفيق" دون توقف، وإن كان سعداني "يلطفها" بتبريره الذي ألصق بلسانه: "لماذا يخشى التحدث أو انتقاد المخابرات في الجزائر، أليس دول العالم كلها لها مخابرات مثل الجزائر؟". وغضب سعداني عندما انتقده كثيرون جراء "حربه" على جهاز المخابرات، فدافع عن موقفه بتاريخ 29 أفريل 2014، قائلا في فندق "المونكادا" بالعاصمة: "أتعرض لحملة شرسة مست بكرامتي، لا لشيء إلا لأنني قلت لا بد من التغيير، والقضاء على الحكم الموازي (أي جهاز المخابرات)". وفتحت الانتقادات "غير المسبوقة" ضد جهاز المخابرات ومديرها الفريق "توفيق"، حسب الأمينة العامة لحزب العمال، لويزة حنون، أعين المنظمات الدولية غير الحكومية، منها منظمة العفو الشامل "أمنيستي"، للتدخل في شؤون أمن الدولة. كما لم يغفل الكتاب المثير للجدل "باريس - الجزائر.. قصة حميمية" الصادر في 15 أفريل 2015، تخصيص حيز للتحدث عن الفريق "توفيق". وذكر مؤلفا الكتاب "كريستوف دوبوا" و"ماري كريستين تابت" أن "المخابرات العسكرية التي تتبع لوزارة الدفاع الوطني، تملك هامشا كبيرا في التأثير على عملية اتخاذ القرار في البلاد، ولا توجد أي مؤسسة أو جريدة أو نقابة تستطيع الإفلات من رقابة المخابرات، التي صنفها في خانة الشرطة السياسية التي تتولى تنفيذ العمليات القذرة". ولم يعدم الجنرال توفيق من يدافع عنه أمام هجوم سعداني، حيث جاء في مقال موقع باسم "مفتاح سحنون" ما يلي: - إذا كان الجنرال توفيق هو من يعيّن ويعزل وهو من يدبر الانقلابات والانشقاقات داخل الأحزاب -على حد قول سعداني - فان هذا الكلام يلزم سعداني من باب أولى ، إذن ، فالجنرال توفيق هو من عيّن سعداني رئيسا للمجلس الشعبي الوطني سنة 2002 ، وهو من انقلب على بلخادم ، وهو من عينه على رأس الآفلان ، وقبل ذلك كله هو من عيّن بوتفليقة ( الذي يدافع عنه سعداني دفاعا مستميتا ) وسمح له بالاستمرار في الحكم طيلة هذه السنوات ...؟ !! - حزب سعداني يملك الأغلبية في البرلمان، وكان بإمكانه استدعاء وزير الدفاع أو نائبه إلى البرلمان لمسائلتهم في أمر خروج قائد المخابرات عن النص ، فلما التهريج بهذا الشكل ...؟؟ - سعداني قال غير مرة أن عودة السلم و الأمن كان بفضل الرئيس بوتفليقة ، ولكنه في نفس الوقت ينسب الإخفاقات الأمنية- وبعضها قد وقعت في عهد بوتفليقة على غرار حادثة تيقنتورين - للفريق مدين .. فكيف له أن ينسب الانجازات للرئيس والإخفاقات للتوفيق ، ولما يتحامل على قائد المخابرات بهذا الشكل ..؟؟ - يتهم سعداني الجنرال توفيق بأنه يدعم خصومه في الآفلان لأنه ضد العهدة الرابعة ، والسؤال : وهل خصوم سعداني في الآفلان ضد العهدة الرابعة..؟؟ ألم يصرح بلعياط أن بوتفليقة هو مرشح الحزب إذا ترشح لعهدة رابعة .. ؟! وهل يصدق عاقل في هذا البلد أن يقف رجل مثل بلعياط في وجه بوتفليقة إذا ترشح لعهدة رابعة .. ؟ولما يحرص سعداني على جعل الجنرال توفيق في مواجهة مع بوتفليقة ..؟؟ - أكبر دليل على أن الجنرال توفيق خارج دائرة النفوذ ، هو تهجم سعداني عليه بتلك الطريقة ، ولو كان توفيق بمثل تلك القوة والجبروت التي حاول أن يصورها لنا سعداني ، لما تجرأ عليه بتلك الطريقة ، ولو كان سعداني يعلم أن الجنرال توفيق في أوج عطائه وقادرا على إيذائه .. لما نام قرير العين ليلة واحدة ..ولما جلس مطمئنا على كرسي الزعامة في الآفلان ليوم واحد ..! من خلال ما تقدم نجد أن استهداف الجنرال توفيق لا يخرج عن أحد أمرين أو كلاهما : - ما قاله سعداني يندرج في سياق "الشو الإعلامي" بمعنى : أن الأمر مصطنع ومدروس ومتفق عليه لتمرير شيء ما ، وتم استدعاء الجنرال توفيق للقيام بالمهمة ، .. أو أن أشخاصا من محيط الرئيس أرادوا إبعاد الرجل الأول في المخابرات ، تمهيدا لتعيين رجل آخر ينتظر المنصب منذ مدة. وتسود في الجزائر قراءتان لما يجري داخل المؤسسة الأمنية، الأولى تقول إن الرئيس بوتفليقة يجري تعديلات عادية كانت مقررة منذ سنوات وترمي إلى إعادة هيكلة جهاز المخابرات وتحيين مهامه بما يتماشى مع السياقات الدولية التي تعيشها المنطقة. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن الرئيس بوتفليقة يريد من جهاز المخابرات أن يتفرق لمهام جمع المعلومات الاستخباراتية لغرض حماية الأمن القومي للجزائر من الهجمات الإرهابية وتحصين حدودها، وهي مهمة تتطلب تخفيف كاهل ?الأجهزة? من باقي الأعباء الثقيلة التي كانت تتولاها مثل مراقبة الإدارات والوزارات وأجهزة الإعلام. أما القراءة الثانية، فتعتبر أن هذه التغييرات تأتي في سياق صراع بين مؤسستي الرئاسة والمخابرات، يبحث فيه كل طرف زيادة نفوذه داخل النظام على حساب الآخر. وبعد فترة من "التوازن غير المستقر" بين المؤسستين القويتين، تمكن الرئيس بوتفليقة من بسط نفوذه على كامل أجهزة الدولة، بما فيها جهاز المخابرات الذي كان، إلى وقت ما، عصيا على كل تغيير. وفي هذا الإطار، تعتبر إقالة الجنرال توفيق بمثابة الضربة القاضية التي أعادت للرئيس بوتفليقة سلطاته الدستورية كاملة، وأنهت كابوس ?ثلاثة أرباع الرئيس? الذي تعهد بالتخلص منه في بداية عهدته الأولى. ويستند أصحاب هذه القراءة إلى خرجات أمين عام الأفالان، عمار سعداني، الذي هاجم بشراسة الجنرال توفيق ودعاه للاستقالة، وربط بين ذلك وبين تحقيق الرئيس للدولة المدنية التي وعد بها. ومهما تكن الأسباب والدوافع وراء إحالة توفيق (76 سنة) على التقاعد، فالأكيد أن هذا القرار يعد "تاريخيا" بالنظر إلى طبيعة هذا المسؤول العسكري الأكثر إثارة للجدل في الجزائر ربما منذ الاستقلال، لاسيما وأن الرجل بنيت حوله "أساطير" جعلته "الحاكم الفعلي للجزائر" فوق كل المؤسسات الدستورية في البلاد، ووصل البعض لحد وصفه ب"رب الجزائر"! . وعن أسباب إبعاد الجنرال القوي توفيق، تشير بعد التحليلات إلى أنه بعد عودة الرئيس من رحلته العلاجية الأخيرة، هندس شقيقه السعيد لتنحية الجنرال توفيق من منصبه. فالسعيد بوتفليقة كان يرى أن الفريق مدين كبر في السن وأنهكه المرض ولم يعد قادرا على تسيير الجهاز الحساس، واتضح أن الأمور تجاوزته ، خاصة وأن بعض الخلايا المنفلتة داخل المخابرات تسببت في فوضى النشر التي سادت قبل مرض الرئيس، وجعلته هو وكثير من الشخصيات المقربة من محيط الرئيس في قلب فضائح فساد مدوية، الحقيقية أن رحيل الجنرال توفيق لم يكن مستبعدا مع سابق رغبة الفريق مدين ذاته في الرحيل، واقترح السعيد اسما بعينه خلفا لقائد المخابرات، وقد علم بطلب الفريق أكثر من مرة إحالته على التقاعد. الواقع أن السعيد بوتفليقة كان يراهن على إحراج الجنرال توفيق قبل 13 شتنبر الحالي، وذاك من خلال إحالة بعض العقداء والجنرالات على التقاعد وهم من تلاميذه النجباء ومن رجاله المفضلين ، وبالتالي دفعه إلى الاستقالة. ويظهر أن خطة السعيد لجأ إلى تبنى نفس الإستراتجية التي استخدمها في الإطاحة ببلخادم و أويحي في وقت سابق، ولو أن الأدوات التي استخدمها ليست نفسها، حيث استنجد باالكميكاز عمار سعداني ليرسل له رسائل خاصة لعل وعسى يستشعر الجنرال مدين الحرج ويقدم استقالته. غير أن ذلك لم يحقق الهدف منها ، مما اضطر السعيد لإخراج جميع أوراقه ، وتكليف سعداني للقيام بمهمة انتحارية، واستهداف الجنرال توفيق بشكل مباشر وبصفة علنية. والحقيقة أن هناك خلافات شخصية داخل محيط الرئيس بشأن التعاطي مع قائد المخابرات السابق.