بين استحالة تحويل المعيش الى لغة، وغواية الإمساك بالذكريات والمشاهد قبل أن يطويها النسيان، يظهر التخييل جسرا محتملا. الروائي والناقد المغربي محمد برادة يتخيل قصة حياته. أكثر من أي وقت مضى، تبدو مسألة كتابة السيرة الذاتية، كاملة أو مجزأة الى شذرات ومقاطع من كتلة الحياة، عملية متعسرة إن لم تكن مستحيلة، هل أجازف بالقول إن وهم كتابة السيرة الذاتية قد استحوذ على الادب أمدا طويلا، منذ كتب القديس أوغسطين اعترافاته ثم بالأخص عندما جاءت اعترافات جان جاك روسو شفافة كأنما كتبت على صفحات من البلور؟ ومنذ ستينيات القرن الماضي، حظيت السيرة الذاتية باهتمام كبير من لدن النقاد ومنظري الأجناس الأدبية، وتفرعت هي بدورها الى يوميات ومذكرات وسيرة ينص عليها تعاقد كاتبها مع القراء، ثم ارتدت ثوب التخييل الذاتي لتتيح لصاحب السيرة أن يمزج وقائع اختزنتها ذاكرته بمشاهد وأحداث أضافتها مخيلته أثناء بحثه عن فضاء أرحب يجعل الكتابة تأخذ مداها من حيث الكثافة والشعرية وتلاوين الاستيهام. عندما بدأت علاقتي تتوطد بالكتابة، أدركت أن السيرة الذاتية لا تكون مبررة الا عندما يتعلق الأمر بشخص عاش أحداثا مهمة. واختزنت ذاكرته مشاهد ومواقف قادرة على أن تتعدى النطاق الشخصي الى مجال الشهادة لإضاءة مرحلة تاريخية. ومن هذه الزاوية، ملت الى أن الروائي يكون أكثر حرية عندما يستوحي، عند الاقتضاء، وقائع ولحظات من سيرته ليدمجها في فضاء تخييلي أوسع، يضمن للكتابة والمخيلة مجالا أرحب، ويسعف على التحليق بجناحين لا بجناح واحد. مع التجربة والتأمل، ازداد اقتناعي بأن لا أحد يستطيع ان يلتزم بالتعاقد الذي تحدث عنه الناقد الفرنسي فيليب لوجون، لسبب بسيط وهو أن التخييل ذا الدلالة الزئبقية، يندس في ثنايا كل سرد ولا يترك »الواقع« يتحرك خالصا عبر اللغة وعناصر الشكل. من ثم، كل سيرة ذاتية تتباعد بالضرورة عن تلك الصدقية والتطابق المفترضين في السيرة الذاتية. وأذكر أن هذه المشكلة واجهتني في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما بدأت أكتب روايتي الأولى »لعبة النسيان«، في فترة تأزم من حياتي جعلتني آنذاك أعاود النظر في علائقي بالمجتمع والسياسة والجنس وميراث »رواية العائلة« في مفهومها الفرويدي.. انطلقت أول الأمر من مشاهد ومواقف تسربت في ذاكرتي منذ طفولتي التي أمضيتها في قاع مدينة فاس، من 1939 الى 1948، لكن النص الروائي سرعان ما أخذ يتسع ويفيض عن الوقائع الخاصة، ليلامس ذلك الفضاء الشاسع، المجهول الذي كنت أعايشه دون أن أدرك أسراره أو آلياته. عندئذ انفتح الباب على مصراعيه ليتدفق التخييل والتأويل والتركيب وبحران الاستيهام وتحتفظ ذاكرتي الى الآن بمشاهد يحفها الالتباس، ولا أستطيع البت في الصيغة الاقرب الى ما كانت عليه في الواقع. أذكر أنني بعدما غادرت فاس الى الرباط، وبدأت أتردد عليها في العطل لزيارة خالي، أنني سألته ذات مرة، من باب الفكاهة، عن مصير اللحمة الصغيرة التي اقتطعها الحلاق من رأس حمامتي وحمامة أخي يوم الختان؟ فاجابني جادا بأن اللحمتين مدفونتان عند أول الدرب الملاصق للبيت الكبير الذي كنا نسكنه، ابتسمت متشككا في ما أخبرني به، لكنه أقسم أن عملية »الدفن« تمت على يده. وساعتها استيقظت ذاكرتي لتستعيد تلك الطقوس البهيجة التي صاحبت حفل الختان: أنا وأخي مرتديان كسوتين من الجابادور، ممتطيان بغلتين والطبل والغيطة، يضربان بقوة، و مجموعة من الاهل واطفال حي سيدي موسى يلتفون حول الموكب المتجه الى ضريح مولاي ادريس للزيارة والتبرك، قبل العودة الى البيت الكبير حيث كان الحجام (الحلاق) ينتظرنا ليقول لكل منا، وهو يمسك بطرف الحمامة: انظر الى فوق لترى الطوير (الطائر الصغير). وعندما رفعنا العينين، استلَّ مقصه وقطع القَلفَة... أتذكر ذلك المشهد مقترنا بالغيبوبة التي ألمت بأخي بعد أن أساء الحلاق قطع قلفته، والهرج والمرج الذي ساد البيت الكبير. ولأن حظي كان أفضل، فقد تلقيت هدايا كثيرة، والتفت حولي بنات الأسرة، وأخذت المراهقات منهن يلاعبنني ويمسّدْن شعري الأسود المتموج وهن يلهجن بإعجابهن ب »لفريزي« (شعَر الرأس) الذي جاء إلى المغرب في ركاب الحماية الفرنسية، فتحررتْ جماجم الصّبية من العراء الدائم. إلى اليوم، لم أنس تلك المداعبات الأنثوية وولعهن بالشعر الإكليل فوق رأسي. صارت كلمة »لفريزي« المأخوذة عن كلمة فرنسية صفة شائعة لتمييز الأطفال والشبان الذين يتركون شعر رأسهم ينمو، وأظن أن ولع فتيات جيلي ب »لفريزي« هو تعبير عن كرههن للرؤوس الصلعاء والجماجم البيضاء من غير سوء التي تحيل على خشونة وقساوة مغاربة ما قبل الاستعمار؟ الآن وأنا أستعيد تلك الوقائع، لا أستطيع أن أجزم هل فعلا غافلتُ خالي وذهبت لأنبش التراب بحثاً عن اللحمة المقطوفة من رأس حمامتي. وأستغرب لحد الآن، لأن المسألة لا تستحق الاهتمام، ومع ذلك، ظلت تراودني باستمرار. من نفس فترة طفولتي الفاسية، أحتفظ بمشهد يطاردني ويحملني على الشك في ما كتبته عنه في روايتي »لعبة النسيان«، أقصد مشهد زوجة خالي الأولى وهي ممددة فوق المغسل بعد وفاتها. ما أذكره إلى الآن، وأظن أنه سيلازم ذاكرتي إلى آخر يوم لي في هذه الدنيا، هو أنني كنتُ ما أزال أحبو، لم أكمل بعد سنتي الثانية، وأن البيت الكبير كان غارقاً في جلبة الباكيات والباكين، وأنا متروك بجانب الغرفة ذات الباب الخشبي المُنفرج، فوجدتني أحبو ثم أتسلل إلى حيث كانت زوجة خالي ممددة على المغسل، عارية وشعرها الأسود منسدل على صدرها. حبوتُ إلى أن حاذيتها وبدأت أمد يدي لألامس صدرها... هذه هي الصورة الراسخة بذاكرتي إلى الآن، لكنني وأنا أستحضر هذا المشهد عند كتابة »لعبة النسيان«، وجدتني أحدد عمري بأربع سنوات، وأجعلني أمشي على قدميَّ، لأنه لا يعقل أن أرتاد الغرفة وأنا أحبو، ولأن سنتين من العمر لا تكفيان لتذكر مثل هذا المشهد بكل تفاصيله. لكنني اليوم وأنا أراجع ما كتبتُ، أظل على يقيني بأنني كنت أحبو، وأنني لم أدرك أن زوجة خالي ميتة وبقيت أحرك يدي على صدرها إلى أن دخلت امرأة وهي تولول واختطفتني لتخرجني من غرفة المغسل. إليكم ما كتبته في »لعبة النسيان«: »اقتناع حد الهوَس، أن أبعد ذكرياتي الموغلة في بُكرة الطفولة، هي تلك التي أرى فيها نفسي دون سن الرابعة وأنا أخطو مشدوهاً، مفتوناً، منجذباً نحو جسد زوجة خالي سيد الطيب، جسد أبيض هامد، مُسجى فوق المغسل. أخطو وقد تسللتُ من بين دفتي الغرفة المتعانقتين، وسكان الدار والمعزون منشغلون بالبكاء ولطم الخدود والضرب على الصدور. أخطو عند عتبة الغرفة الكبيرة التي أفرغت من الأفرشة والحشايا، ولم يبق بها غير الزليج الأزرق والأسود، والمغسل الخشبي الواسع، وجسدها الأبيض بياضاً بنصاعة الجير، وشعرها الفاحم الطويل منسدل على الكتفين وقد استدار الوجه صوبَ الجدار (...) وأنا أخطو نحو جسدها المُسجى ماداً يدي نحو ثدييها، لم أكن أدرك أنها ميتة. ربما عندما لامست أصابعي صدرها البارد في اللحظة التي امتدت يدان لتخطفاني من وراء، مولولة احتجاجاً على ما يفعله الطفل المنسي في غمرة الحزن والنواح ربما آنذاك بدأتْ ترتسم في سريرتي صورة ما، عن زوجة الخال الحبيبة، عن فقدان حضور جسدي وعاطفي مُثقل بالغبطة والدفء...«. ص 40 هذا التضارب في التذكر والتخييل لا يخلو من »عواقب«، لأنني أطلقت لنفسي العنان وأنا أستوحي تلك الحادثة، فربطتُ بين بياض جسد زوجة خالي وبين بياض افترضتُ أنه لونُ الموت، وعللتُ به انطفاء رغبتي الجنسية وأنا أواجه جسداً أبيض لامرأة فرنسية التقيتها في ستينيات القرن الماضي بباريس. أي أنني عند الكتابة، أزلتُ الحواجز بين المشاعر المختزنة منذ الطفولة والأحاسيس الطارئة على جسدي بعد مرور ثلاثة عقود. هل هو إسقاط مني لبعض ما قرأته من نظريات سيجموند فرويد؟ أم أن الأمر يتعلق فعلا بتأثير سلبي لحادثة المغسل ظل كامناً في اللاشعور واستيقظ على غفلة حين اختليتُ فوق الفراش بامرأة لها بياض ذكرني ببياض زوجة خالي الميتة؟ في جميع الأحوال، يظل تأثير التخييل أكثر نفاذاً وتحريكاً للتأمل لأنه يستوعب تجارب الحياة بطريقة خاصة، على نحو ما شرح ذلك روبير ستيفنسون في كتابه »محاولات عن فن التخييل« (1992): »الكتب التي لها تأثير أكثر دواماً، هي الأعمال التخييلية. إنها لا تربط القارئ بعقيدة يتعين عليه في ما بعد أن يكتشف خطأها، ولا تعلمه درساً سيتحتم عليه لاحقاً أن يمحوه من ذاكرته. إنها كتب تكرر، ترتب وتوضح دروس الحياة. إنها تحررنا من أنفسنا وترغمنا على معرفة الآخرين. وهي بذلك، تدلنا على نسيج التجربة، لا كما يمكن أن نراها بأنفسنا، وإنما من خلال تغيير جوهري، وهو أن ذلك »الأنا المتضخم«، الغول الملتهم، الكامن فينا، سيكون مُلغى أثناء التخييل«. طبعاً، لا يمكن أن ننكر دور »الواقع« أو »الحقيقة« في تكوين التخييل، لأن كثيراً من الأشكال التخييلية ترسو على أسس واقعية، كما أوضح ذلك أوليفيي كايْرا في كتابه »تعريف التخييل: من الرواية إلى لعبة الشطرنج« (2011)، حيث ميز بين التخييل المحاكي، والتخييل البديهي، مؤكداً على وجود شكل هجين هو الوثيقة التخييلية، التي تسدُّ الثغرات التي تصاحب بالضرورة كل رواية تُقدم من خلال عنصر أحادي. لأجل ذلك، أعتقد أن السيرة الذاتية يتعذر تحقيقها في نطاق تطابُق النص مع ما عاشه »حقيقة« صاحبها. من ثم، يغدو التخييل عنصراً جوهرياً يكاد يلازم جميع أنواع الخطابات، وبخاصة تلك التي تمتح من الذات، أو تسعى إلى التأريخ لها. ولا أستطيع، في هذا السياق، أن أحدد أسباب غلبة التخييل على أجناس التعبير السردية، لأن الموضوع شاسع، فضلاً عن أن الأبحاث المتصلة به لم تعرف ازدهاراً إلا في العقدين الأخيرين. لكن يمكن القول بإجمال، بأن التخييل يتغلغل في النصوص السردية بسبب المسافة الضرورية الموجودة بين اللغة المكتوبة والمعيش، بين المحاكاة والتذكُّر، وهو ما يفتح الباب أمام الإضافة والحذف. يضاف إلى ذلك، أننا لا نستطيع أن نحدد بالضبط العناصر التي تضفي صفة التخييل على النصوص: هل هي الشخوص الروائية؟ أم ترتيب السرد وتحديد الشكل؟ أم الكلام المنقول في الحوار؟ كثيرة هي العناصر التي تجعل النص يتباعد عن الحدث كما وقَعَ، أو عن الوقائع كما عاشها صاحب السيرة الذاتية. غير أنني أميل إلى القول بأن ميزة التخييل وضرورته تأتيان من أنه يجعلنا نرى الأشياء والعلائق والشخوص تبدو على غير ما هي عليه، أي أنه يبرز بقوة الفوارق بين الظاهر والباطن، بين المرئي واللامرئي، بين الأصل والسيميلاكر. حين أفكر في »السيرة الذاتية«، أتذكر تجربة الروائي البريطاني لورانس ستيرن الذي كتب سيرته بعنوان »(1767)، من منظور المحاكاة الساخرة والفانتستيك، فبدأ السيرة وهو بعدُ جنين في Tristram Shandy« بطن أمه، مُعرجاً على تعرُّف والده على أمه عبر لغة ومشاهد مغرقة في السخرية اللاذعة، وكأنه يشكك في إمكانية أن يحكي المرء سيرته الذاتية بطريقة مطابقة لما عاشه في واقع الحال. على ضوء ما استحضرتُه عن علاقتي بالسيرة الذاتية، أظل أميل إلى رحابة الرواية المُشرَّعة على التخييل وتعدد الأشكال واللغات والأصوات، لأنها تمنحني وتمنح القارىء فسخة التحرر من قيود التعاقد والالتزام بالحقيقة الخالصة، الخانقة.