التراث الشعبي المغربي غني وثري ومتنوع، وأنماطه الغنائية لا تخلو أبدا من أي قرية أو حاضرة من ترابه، إلا وكانت هذه الطبوع موجودة على اختلاف المناطق والجهات، وكل جهة لها خصوصية متفردة في مجالات الغناء التراثي الذي تزخر به. ارتباطا بالموضوع، استضاف البرنامج الإذاعي «تراث بلادي» على أمواج الإذاعة الوطنية ليلة السبت 18 دجنبر الجاري، أحد رواد فن المشيخة بالمنطقة الشرقية، ألا وهو الفنان «الشيخ أحمد ليو»، بالإضافة للباحث المغربي ميمون راكب، و«الكوال» علال المالحي، وميلود اليعقوبي وبوشعايب الذهبي بصفتهما «قصابة» ومولعين بفن القصيدة البدوية المغناة. استهلت الإعلامية لطيفة الفاطمي الدكالي حلقتها بإعطاء المستمعين نبذة عن الحياة الفنية والشخصية للفنان الضيف «الشيخ أحمد ليو» بصوته، وكذا مساره كفنان خبر «الصنعة»، وتشرب من منابعها الأصيلة، بعد حفظه للقرآن الكريم منذ صغره، وتتلمذه على يد شيوخ المنطقة الشرقية، وكان على رأسهم الشيخ الماحي، بالإضافة لإعجابه بالقصائد الدينية الذي كان يرددها الشيخ محمد اليونسي أستاذه ورفيق دربه رحمة الله عليه. ثم انتقلت الإعلامية المهتمة بالتراث المغربي الأصيل، إلى التعريف بهذا الفن وبأسلوبه وخصوصياته والآلات المستعملة، لأجل إيصال النغمة المبتغاة «الدندنة» التي تصل إلى المستمع عبر كلمات القصائد البدوية التي يؤديها الشيوخ. وتحدث الباحث ميمون راكب بالمناسبة عن أهم خصائص ومميزات القصيدة البدوية وتشكيلاتها، وأنماط غنائها وكذا آلاتها النفخية والنقرية الإيقاعية التي تعطي تلك النغمة المتميزة عند الشيوخ، والتي يشتهر بها رواد هذا الفن بالمنطقة الشرقية من المملكة وكذا من الغرب الجزائري الشقيق عموما، وكيف تحول هذا الفن مع مرور الأعوام والسنين إلى «راي قصبة»؟ وأضاف ميمون راكب: «أن ترويج هذا المنتوج الغنائي أو الموروث الشعبي المحلي في عمقه الشعري والدلالي من خلال «الحلقة»، ذلك الفضاء الرحب للتلاقي والتواصل وتبادل الأفكار والأشعار حول هذا الفن المتجذر بالمدينة والمنطقة، وبالتالي الغناء أمام عامة الناس قبل ظهور «الأسطوانات - 33 لفة و45 لفة» والكاسيط، وذلك بجل مدن المنطقة الشرقية وأسواقها الكبرى التي تتحول كل يوم من الأسبوع إلى حدث فني يجوب من خلاله شيوخ المنطقة المشهورين، وعلى سبيل الذكر لا الحصر الشيخ أحمد لوكيلي من تاوريرت، والشيخ محمد السهول والمير الطيب لوكيلي من وجدة، والشيخ محمد اليونسي من بركان، والشيخ المنصوري من السعيدية، والشيخ علي الزكراوي ورمضان كوال من جرادة، والشيخ أحمد ليو من أحفير، والشيخ اليوسفي من الناظور، والشيخ عبد الله المكانة من وجدة وغيرهم كثر... وبالمناسبة دائما، أعاد الشيخ أحمد ليو للذاكرة بعض رموز هذا الفن التقليدي والشعبي بمدينة وجدة والجهة الشرقية ككل، بحيث قال: «كنا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، نحن زمرة من الشيوخ المعروفين بالمنطقة نلتقي فيما بيننا في«الحلقة» التي كانت تقام يوميا بساحة سيدي عبد الوهاب القاعدة الخلفية لجيش التحرير الوطني ولهذا التراث الذي كاد يندثر مع مرور الأعوام، وكان الشيخ عبد الله المكانة والشيخ الجيلالي والشيخ زويتينة، والشيخ محمد السهول، والشيخ المهدي، وعلال ولد اجنايح وغيرهم كثر، تأسفوا لاضمحلال ساحة سيدي عبد الوهاب آنذاك، وتمنوا أن تعود الساحة إلى سابق عهدها قبل وفاة بعضهم، وتعود القصيدة المغناة إلى أهلها وذويها، لأجل التعريف بتراث أصيل متجذر في الذاكرة الشفهية لساكنة وجدة والمنطقة الشرقية للمملكة». وأشار ميمون راكب أيضا في تدخله، وهو يعرف هذا النمط الغنائي الأصيل، على أن القصيدة البدوية المغناة، تنهل من الواقع المعيش للشاعر والشيوخ وعامة الناس، كما لا يغفل هؤلاء الشعراء «النظامة» أجناس شعرية قديمة، خاصة في نظم قصائد مختلفة تعالج النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للوطن، بالإضافة للوعظ والإرشاد عن طريق القصيدة المؤداة، فكانت حينئذ القصيدة الدينية، والوطنية والعاطفية والوصفية والثورية... وتحدث في البرنامج أيضا حول الآلات التي كان يعتمد عليها هذا النمط من الغناء البدوي، فحدد هذه الآلات في: «القصبة» وهي أنواع، ثلاثية، خماسية، سدادسية، وسطية والسبولة... ثم «الكلال» وهو أنواع كذلك، لكن طوله ونغمه لا يتغيران، منه «السباعي» و«لعشاري» وغيره، ينقر عليه بواسطة الأصبع، وهذا الأصبع غالبا ما يحمل خاتما غليظا لأجل النقر أي (الضرب) . وفي سؤال من الإعلامية لطيفة الدكالي حول موقع المرأة في القصيدة البدوية كممارسة؟ أكد الشيخ أحمد ليو بالخصوص، كانت المرأة هي المحرك الأساسي في الإبداع، خاصة في القصائد الغزلية التي أبان فيها الشعراء المحليين عن علو كعبهم في المجال، خصوصا في مجتمع محافظ كان يعتمد على هذه الأغاني كوسيلة لإيصال لواعجهم العشقية الشبه مشفرة إلى المحبوبة، بل في جانب آخر نجد أن هناك نسوة خرجوا بعشقهم إلى العلن ينافسن الشيوخ في هذا المجال، وأن الساحة الفنية البدوية عرفت أسماء نسائية مهمة طبعت حقبة زاهية من الفن البدوي في تاريخ المدينة والجهة، وذلك بالرغم من أن المنطقة محافظة جدا، شهدت وجوها بارزة، ك«الشيخة الوازنة» و«الشيخة الخامسة» و«الشيخة جمعة» و«الشيخة خيرة» وغيرهن كثر، كن يرددن قصائدهن في المناسبات الدينية والاجتماعية، خاصة في الأعراس والأفراح ... وهو الشيء الذي أكده الباحث المغربي ميمون راكب. فن المشيخة إذن، أو التراث الغنائي البدوي كما يطلق عليه بالجهة الشرقية، كان يساير أنماط العيش والحياة اليومية للفرد في الزمان والمكان، وخير دليل على ذلك، القصائد الغزيرة التي تغنت سابقا بمختلف مظاهر الحياة حتى اليوم، ونجد قصائد نظم جديدة تتغنى بالمستجدات العصرية الراهنة في عصر الرقمنة، مثلا قصيدة «البورطابل» التي أداها في البرنامج الثنائي «ميلود الذهبي وبوشعايب اليعقوبي».