الانتخابات هي تلك الآلية التي تمكن الدولة من الوقوف على منسوب الرضا لدى المواطنين، بمعنى أنها ترمومتر لقياس مدى رضا المواطنين على مجهودات الدولة في أداء وظائفها، وبطبيعة الحال الدولة بكل مؤسساتها وبكل شركائها. لهذا فنسبة المشاركة في الانتخابات تشكل دائما هاجسا للدولة، حيث أن تدنيها يعتبر مؤشرا واضحا على فشلها والعكس صحيح فقط إذا كان خيار المشاركة خيارا واعيا وبشكل يحترم مبدأ النزاهة وتغيب فيه كل أشكال الإفساد. لكن في الحالة المغربية فالدولة تكابر جاهدة لجعل الأحزاب السياسية مشجبا تعلق عليه خيبتها وتصدر إليه فشلها وتحمله جزء كبيرا من مسؤولياتها جاعلة نفسها بهذا السلوك فوق سقف أي نوع من أنواع المحاسبة. فهي الكيان الذي لا يفنى والإدارة التي لا تخطئ والموظفون الذين لا يحاسبون إلا بواسطة من عينهم وهو وحده الذي يعرف معيار محاسبتهم انطلاقا من تعاقده معهم ومدى التزامهم وتفانيهم في أداء وظائهم طبقا لذلك التعاقد. وبالرغم من هروب الدولة المغربية من تحمل مسؤولياتها تجاه نسب المشاركة المتدنية في الانتخابات التي يعرفها المغرب واكتفائها، بالإضافة إلى تحميل الأحزاب السياسية الجزء الأكبر من المسؤولية فيها، باجترار نفس الأسطوانات وبنفس الطريقة التي تدعو فيها المواطنات والمواطنين إلى التسجيل في اللوائح الانتخابية ثم إلى التصويت بشكل يتهم جهلهم بأهميتها –أي الانتخابات- دون تحملها عناء نقاش دوافع عدم استجابتهم لدعواتها بشكل مسؤول وواقعي، إلا أن هذه النسب المتدنية هي بمثابة إعلان -ولو بشكل مستتر- على قصورها في أداء وظائفها وإنذار على أن المستقبل الديمقراطي بالبلد يُقلِق عكس ما تروج له من خطابات مفعمة بلغة الارتياح ومبنية على فرضية الاستثناء. المغرب يعيش اليوم لحظة مفصلية في تاريخه وسيكون لها أثر بليغ على مسلسل بناء الديمقراطية فيه، وبالتالي على مستقبله.. لحظة تختلف عن سابقاتها نظرا لحجم الآمال التي غمرت المغاربة بعد التعديلات الدستورية الأخيرة والتي شكلت استجابة مباشرة لجزء من مطالبهم بعد انتفاضتهم في إطار حركة 20 فبراير، لحظة من المفروض أن تدشن لمرحلة جديدة وبفلسفة جديدة أولا عند الدولة في طريقة تعاملها معها، وثانيا عند الأحزاب السياسية في طريقة خوض غمارها، وثالثا عند المواطنات والمواطنين في طريقة تحديد اختياراتهم، إذ أنه ليس مقبولا، بل لا يستقيم أصلا، أن تحتفظ الدولة بمنطقها الكلاسيكي والأحزاب بآلياتها التقليدية واللاديمقراطية ليطلب من الناخبين تحديث وترشيد اختياراتهم وكأنهم المسؤولون المباشرون والوحيدون عن وصول رموز الفساد إلى مسؤولية تدبير الشأن العام المحلي. إن الانتخابات الجماعية في هذه الظرفية السياسية التي يعيشها المغرب والتي تتسم بالبشاعة على جميع المجالات وبالنكوص على كل المستويات ليست إجراء روتينيا زائدا ولا تمرينا ديمقراطيا عاديا ولا مظهرا ديمقراطيا صوريا كمشهد عابر من مسرحية مألوفة لدى المتفرجين ومحفوظة عن ظهر قلب عند الممثلين، بل هي نقطة عبور فاصلة إما لتأكيد نية البناء أو لتكريس منطق الالتفاف. ولعل الوضع يعطي الحق لأي متتبع للشأن السياسي في البلد أن يطرح تساؤلات أكثر من هذه حول هذه الانتخابات خصوصا مع ما عرفته من ارتجالية في التحضير المتأخر كثيرا ومع ما شهدته بعض فصولها من فساد وإفساد (انتخابات المأجورين وانتخابات الغرف المهنية) ومع ما تعرفه اليوم من تجاوزات في شقها المتعلق بالانتخابات الجماعية والجهوية. إننا نعيش مرحلة تفرض على كل المتدخلين -وعلى رأسهم الدولة- تحمل مسؤولياتهم إلى جانب الفاعل الحزبي الملتزم باحترام مبدأ النزاهة في أداء وظائفه، فلا معنى لرفع شعارات تناقض المنطق الذي يحكم ممارسات وتحركات جل المتدخلين، لا معنى لتبرير التغاضي عن الفساد كشكل من أشكال الحياد أو المساهمة فيه بهدف الرفع من نسب المشاركة من أجل التأسيس لمرحلة جديدة وبمعطيات مغشوشة تعكس اختيارات مزورة وموجهة في أحسن الأحوال، ولتكون بهذا مرحلة خارجة عن السياق والذي من المفروض أن المغرب قد اختاره منذ دستور فاتح يوليوز، لا معنى ولا جدوى، إذن، من الانتخابات أصلا إن لم تكن وسيلة لتصريف إرادة المواطنات والمواطنين بشكل يحترم هذه الإرادة ويحميها ويسهر على تصريفها من خلال من اختاروه ليكون ممثلا لهم في مجالس تدبير شؤونهم.