ألقى محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، الموافق ل 24 يوليو 2014 بمسجد محمد السادس بمدينة وجدة، درسا من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لعام 1435 تناول فيه بالبحث والتحليل موضوع «المجتمع المدني في خدمة القيم الدينية» انطلاقا من قول الله تعالى «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون». وتماشيا مع الأجواء الحالية، التي تعرف نقاشا يحضر فيه المجتمع المدني بقوة ولاختياراته ومواقفه مما يجري في الحقل الوطني، لا سيما الاعداد للانتخابات نورد نص الدرس بتصرف.. (...) المدينة بالمعنى السياسي هي التي افتخرت بها أثينا الإغريقية قرابة عشرة قرون قبل البعثة المحمدية وأطلق عليها فلاسفة اليونان اسم Polis، ولكن المجتمع الذي بناه الرسول الأكرم على الأخوة والتعاون والتساكن والتسامح والمجاهرة بالحق، لم تتوفر كل مقوماته في مجتمع أثينا. ونظرا للأبعاد التي اتخذها المجتمع المدني في حياتنا المعاصرة، مصطلحا وواقعا، فمن المفيد ذكر مجتمع المدينة في الإسلام، سيما وأن بعض الأذهان ترى في المجتمع المدني الحالي إما كيانا معارضا للدين، أو كيانا لا علاقة له بقيم الدين. وبعد، فإن الناس في مجتمعهم الذي يعيشون فيه، يحتاج بعضهم إلى بعض في شؤون الحياة، وهم في مجموعهم يؤلفون قوة لا تبلغ تمامها واكتمالها إلا بقوة كل فرد من أفرادها وسعادته، فبقدر ما تتوفر هذه القوة في الأفراد يعتبر المجتمع قويا، وبقدر ما تتوفر السعادة لكل فرد فيه يعتبر سعيدا. ومن المعلوم أن مشكلة الفقر والجوع والمرض والحرمان والتفاوت بين الأفراد، كانت وما تزال من أهم مشكلات الحياة، وكانت مهمة الأنبياء والمصلحين على اختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم هي الدعوة إلى الإنصاف والعدالة بين الناس، ودفع الظلم الاجتماعي عنهم. والديانات السماوية الثلاث: الإسلام، والمسيحية، واليهودية بحكم أصولها المشتركة، متفقة على الاعتراف بما يترتب عن الحياة العملية من تفاوت بين الناس، وهي حين تعترف بذلك لا تقر الظلم الاجتماعي، ولا تترك المستضعفين عرضة للحرمان والإهمال والمهانة. ومما يتميز به عصرنا هذا الذي نعيش فيه، أنه عصر يعج بالشعارات الداعية إلى تحقيق الحقوق والمساواة والكرامة للإنسان، ومن حول كل شعار عشرات المنظمات والجمعيات والهيآت: سياسية، ونقابية، وجمعوية وثقافية، وفكرية، ومذهبية، وغيرها . ينضوي معظمها تحت عنوان كبير اسمه: "المجتمع المدني" الذي تختلف النظريات في تموقعه بين المواطن والدولة. ومن المعلوم -أيضا- أن أوروبا عاشت من وقت سقوط روما إلى عصر النهضة تاريخا موصوفا بالضعف والانحطاط، بينما كان العالم الإسلامي في بعض مناطقه يشهد حضارة زاهية، وتجارة مزدهرة، ومستوى من العيش تتجلى فيه الرحمة والتعاون، والتكافل الاجتماعي في أبهى صوره، وأسمى معانيه. واستيقظت أوروبا من سباتها، فبدأت تحطم القيود والأغلال، وتطوي المراحل والمسافات، حتى تحققت نهضتها الحديثة، فجاءت -مع الأسف- متزامنة مع بداية التخلف والتفكك في العالم الإسلامي وتخليه عن المكاسب الحضارية والعلمية التي رفع المسلمون لواءها حينا من الدهر. حركة الإحياء الأوروبي فخلال القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده، شهد الجزء الغربي من هذه القارة حركات فكرية وسياسية متعددة، تتوخى كلها معالجة التفاوت الاجتماعي، وإصلاح الأعطاب والعاهات التي خلفتها القرون الوسطى من الظلم والحرمان، والمهانة والضياع والاستبداد. نجحت بعض الحركات في تصور أنظمة لحكم يناهض الاستبداد، كما تأَتَّى لبعضها أن تنجح في حمل الحكومات على سن قوانين ترُوم في روحها إنصاف المحرومين والتخفيف من وطأة المستغلين. في أوج هذه الحركة التغييرية ظهر مصطلح: "المجتمع المدني"، والباحثون المعنيون بهذا الموضوع وقضاياه يرجعون جذوره إلى عمق الوجود الإغريقي الأثيني الأفلاطوني، حيث ظهرت بذوره الأولى كثمرة لما كان يجري في مدينة أثينا من نقاش فلسفي صاخب. تولى بعثه وتحيينه وتطويره فلاسفة العصر الحديث الذين قادوا حركة التغيير من أمثال "توماس هوبز" و"جون لوك" و"جان جاك روسو" ومن بعدهم "إيمانويل كانت" و"فريدريك هيجل"، ثم طبقة المجددين في المفهوم، والأسلوب والحركة، من أمثال "كارل ماركس"، و"أنطونيو غرامشي"، ومن نهج نهجهم، واقتفى أثرهم من دعاة الاشتراكية. كان التحدي الذي واجه دعاة التغيير هو: السلطة الحاكمة بمنطق القرون الوسطى، وبعض حلفائها في السلطة الدينية، ضدا على السواد الأعظم من الشعب الذي ألهب حماسه خطباء الثورة بخطبهم النارية. * * * * * * * * ومن المؤسف أنه وقع في أوج هذا التدافع بين المحافظة والتجديد، إسقاط ينظر إلى الدين مناصرا للظلم والاستبداد من غير تمييز، وهو ما يحتاج إلى بعض التوضيح، وشيء من البيان(...) قال تعالى:﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون﴾. تنتمي هذه الآية، إلى سورة آل عمران المدنية، وقد ورد ي فضلها وفضل سورة البقرة حديث أبي أمامة الذي يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرأوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرأوا الزهراوين –البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو فرقان من طير صَوَّاف). وحديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران). وكلمة ﴿أمة﴾ في الآية، كما قال القاضي أبو بكر ابن العربي: (ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى، منها: أن الأمة بمعنى الجماعة، ومنها أن الأمة: الرجل الواحد الداعي إلى الخير)،﴿إن إبراهيم كان أمة﴾. ومعنى قوله:﴿يدعون إلى الخير﴾،أي يدعون إلى الإسلام، فإن الخير اسم يقع على خصال الإسلام كلها، و(آل) في (الخير) للاستغراق، فتفيد العموم في المعاملات كلها. وصيغة الأمر في:﴿ولتكن﴾تقتضي الإلزام، كما هو الشأن في الأوامر عند الإطلاق، وهو موجه إلى الأمة جميعها بأن يُكَوِّنوا من مجموعهم جماعة خيرة تعمل على إشاعة فعل الخير والتخلق به، فإن هي فعلت ذلك كانت أفضل الأمم، وهي أهل المدينة الفاضلة المنشودة للحكماء في كل زمان ومكان، وهذا الوجوب يشمل كلجيل، بعد جيل الصحابة الأكرمين عن طريق القياس حتى لا ينقطع دعاء الخير أبدا، على غرار قوله تعالى:﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾. وتعد هذه الآية الكريمة في رأي أهل الدراية والتحقيق، أقوى آية في باب ضبط حياة الناس وتنظيم مجتمعهم، ضبطا وتنظيما يكفل له التماسك والالتحام عن طريق انتداب فئة من أهل الخير والصلاح، تنوب عن الأمة كلها في القيام بالسهر على تحقيق الانسجام والأخوة، والسعي في حدود صلاحيتها التربوية والتنويرية من أجل توفير شروط العيش في مجتمع آمن مستقر، مع اجتهاد دائم للتخفيف من آثار الفوارق المتعارف عليها بين الناس، وتلك هي السمة المفترضة في المجتمع المدني في الإسلام. علما بأن الفئة المنتدبة لهذه المهمة، نيابة عن الأمة، ليست بديلا للدولة الحاكمة بأجهزتها المختلفة، بل هي معينة لها في مجال، تفقيه الناس، وتذكيرهم بواجبهم وبحقوق الآخرين من إخوانهم في الإنسانية، وما تفرضه حقوق التعارف والتعاون والتعايش الباني من احترام متبادل، وتعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد. فإن قصرت الأمة عن انتداب من ينوب عنها في التفقد والمراقبة الدائبة من أجل التنبيه للاختلالات وإصلاحها كانت آثمة بأجمعها كما هو الشأن في فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإذا أهملوه وعطلوه، كان المجتمع آثما عاصيا بكل أطيافه وفئاته، فرادى وجماعات. وفي هذا الميدان -أيضا- يقدم الإسلام مشروعا يسعى إلى التوازن ويتجنب الإسفاف والإسراف والغلو في كل شيء، ومعنى هذا أن ما نسميه اليوم بالمجتمع المدني موجود وجودا مركزيا في الإسلام من حيث المبدأ والآلية والوظيفة والغاية، والغاية المتوخاة منه هي بناء المجتمع الأخوي المتعاون المتكافل أولا، والتواصي بالحق والمجاهرة به ثانيا، وفي هذا المجال تتنافس المذاهب الاجتماعية وتتبارى. التجربة الإسلامية في الإصلاح الاجتماعي إن تحليل أحكام الدين وتوجيهاته الأخلاقية في الإسلام يظهر بجلاء ما له من عناية كبيرة بقضايا الناس في مجتمعهم عامة، وبخاصة الطبقات التي يسميها صراحة بالمستضعفين سياسيا، وبالذين لا يجدون اجتماعيا، لأن شرائع الله عامة لا يمكن إلا أن تكون كذلك، فالخلق كلهم عيال الله، وقد وسعت رحمة الله كل شيء، قال تعالى:﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾. وأهم ما امتازت به طريقة الإسلام في المعالجة، ميزتان: الأولى: إنه لم ينظر إلى مشكلة التفاوت في المجتمع على أنها مشكلة قائمة بذاتها، بل متصلة بغيرها من شؤون الحياة، فلابد لمعالجتها من معالجة صحيحة لكل ما له ارتباط بها. الثانية: إنه لم يقتصر على المواعظ والوصايا الأخلاقية، فذلك مما لا يؤثر في سواد الشعب غالبا، إلا أن يكون مصحوبا بقوانين واضحة تحدد الواجبات وتحميها، دولة تمنع المسيئين وتأخذ على يد الظالمين، وتحمل الذين لا تجدي فيهم الوصايا والمواعظ على تنفيذ تلك القوانين، وتلك سنة الله في إقامة الحياة وانتظام أمر الخليقة. والناظر في قوانين الإسلام، يجدها كلها تتوخى تحقيق مصالح الناس وحاجتهم الضرورية والحاجية والكمالية في الحياة الدنيا، وسعادتهم في الحياة الأخرى. والعلماء مجمعون على هذه الحقيقة، والفقه الإسلامي في جميع مذاهبه قائم عليها، وإنما يختلف مذهب عن مذهب في شرحها وكثرة التفريع عليها. ومن هنا نشأت نظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي التي أخذ المذهب المالكي بالحظ الأوفى منها. واتفق العلماء على أن الضروريات التي جاء الشرع لتحقيقها، خمسة: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل قل الإمام الغزالي -رحمه الله-: (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأحوال فهو مفسدة، ودفعها مصلحة). وقال أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله-: (تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد، لا تعدو أن تكون ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية). في ضوء هذه الحقيقة التي أجمع عليها فقهاء الإسلام، وعلى هدي النصوص التشريعية الخاصة بحقوق الإنسان، وبخاصة حقوق الفئات المحتاجة إلى عون المجتمع والدولة، يمكن رسم صورة المجتمع المدني في التجربة الإسلامية، بدءاً بالحقوق الطبيعية: حق الحياة، والحرية، والمساواة، والعلم، والكرامة، التي كَرَّس الإسلام لصيانتها والحفاظ عليها، مجموعة من التدابير والإجراءات والقوانين؛ أكتفي هنا بذكر نموذجين، منها تمثيلا لا حصرا، وهما: حق الحياة، وحق العلم. حق الحياة الحياة في منظور الإسلام منحة ربانية مقدسة لا يملك أحد حق انتزاعها من الأفراد بغير حق، وقد أُعطي هذا الحق للدولة وحدها بموجب قانون القصاص لحماية مصلحة الجماعة وحياة الأفراد تطبيقا لنص قرآني كريم:﴿ولكم في القصاص حياة﴾. ومن ثم، فإن العدوان على حياة فرد بدون حق هو عدوان على المجتمع كله، والاقتصاص من الجاني هو إحياء للمجتمع كله، قال تعالى:﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا﴾. كما أنه أحاط هذه الحياة بمجموعة كبيرة من الضمانات والتدابير القانونية والتربوية. فحرم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات وغيرها ما يضر بصحة الإنسان الجسدية والعقلية والمالية والأخلاقية، كما أسقط عنه بعض التكاليف والواجبات عندما يتعارض القيام بها مع سلامة الجسد، وأباح له بعض المحرمات عند الضرورة، ولكن بالقدر الذي يدفع تلك الضرورة. وفي مجال حماية حياة الأطفال الجسدية والعقلية، حرم الإجهاض واعتبره كقتل النفس، وإذا ماتت الأم وفي بطنها حمل معلوم الحياة، وجب شق بطنها وإنقاذ حياة وليدها. وأوجب على الأم رضاعة طفلها، فإذا امتنعت من ذلك لعذر مشروع وجب على الأب استئجار مرضع لوليده الطفل إبقاء على حياته. وسواء كان الطفل شرعيا أو لقيطا، فالحقوق مكفولة شرعا لكل منهما سواء بسواء، فعلى من وجده في الطريق أن يلتقطه وينفق عليه حتى يسلمه للدولة. ولم تقف عناية الإسلام بالحياة عند الإنسان وحده، بل اعتبر ذلك حقا للحيوان غير الضار وغير المأكول. فلا يجوز قتل الحيوان غير المؤذي، ولو بلغ من الهرم حدا لا يستطيع معه صاحبه أن ينتفع به كالخيول العاجزة أو المريضة، ومن امتنع عن إطعام الحيوان الذي يملكه، وجب عليه أن يطعمه أو يسيبه إلى مكان يجد فيه مأكله، فإذا امتنع من ذلك أجبره القضاء على الإنفاق عليه أو بيعه، وبه قال جمهور فقهاء الإسلام. حق العلم العلم حق ثابت لكل مواطن في المجتمع الإسلامي، وسأكتفي في هذا المقام بذكر قضية غير مسبوقة في التاريخ حتى ذلك العهد، وهي وجوب التعلم والتعليم على كل مواطنة ومواطن تحت طائلة صارم العقوبة. فقد خطب صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا، ثم قال: (ما بال أقوام لا يُفَقِّهون جيرانهم، ولا يُعَلِّمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتعظون؟، والله ليُعَلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتعظون، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبة. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: (من ترونه عَني بهؤلاء؟ قال: الأشعريين (والأشعريون اسم قبيلة من اليمن) هم قوم فقهاء، ولهم جيران من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ذكرت قوما بخير، وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال: ليعلمن قوم جيرانهم، فأعاد الكلمات الأولى السابقة، ثم أعادوا السؤال، فأعاد نفس الكلام: (ليعلمن قوم جيرانهم ...)، فقالوا:"أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم....، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليهوسلم هذه الآية:﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا، وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبيس ما كانوا يفعلون﴾. إن الواقف على هذا الحديث سيجد فيه من الحقائق ما يجدر التنبيه إليها منها: أولا: إن الرسول عليه السلام، يرفض رفضا قاطعا إقرار قوم على جهلهم وأميتهم، وهم بجانب قوم متعلمين؛ ثانيا: اعتبر بقاء الجاهلين على جهلهم، وامتناع المتعلمين عن تعليمهم، عصيانا لأوامر الله وشريعته؛ ثالثا: اعتبر ذلك عدوانا ومنكرا يستوجب اللعنة والعذاب؛ رابعا: أعلن الحرب والعقوبة على الفريقين حتى يبادروا إلى التعلم والتعليم؛ خامسا: أعطاهم لذلك مهلة عام واحد للقضاء على آثار الجهل والأمية فيما بينهم؛ سادسا: إن هذه الواقعة، وإن كانت قد وردت بشأن الأشعريين العلماء، وجيرانهم الجاهلين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن ذلك المبدإ بصفة عامة، لا بخصوص الأشعريين وحدهم بدليل أن الأشعريين لما جاءوا يسألون عن سر تخصيصهم بهذا الإنكار كما فهم الناس، لم يقل لهم: أنتم المرادون بذلك، بل أعاد القول العام الذي سلف ثلاث مرات دون أن يخصصه بالأشعريين، إشارة إلى أن القضية قضية مبدإ عام، غير مخصوص بفئة ولا عصر معين. بهذا يكون الرسول الكريم قد أعلن مكافحة الأمية والجهل وإجبارية التعليم، وإنه لشيء عُجاب أن يصدر ذلك من نبي أمي في بيئة أمية، لولا أنه رسول الله وخاتم النبيئين حقا؛ إن كلمة "أمة" الواردة في الآية منطلق هذا الدرس تحيلنا على:أهمية الجماعة في الإسلام-الجماعة في مكة - أولى الإسلام أمر الجماعة عناية فائقة في تشريعاته التعبدية والمدنية على السواء، باعتبارها الأداة الحاسمة في القضايا المصيرية، بما فيها التشريعات وسن القوانين ولمن شاء أن يزداد فهما لأهمية الجماعة في الإسلام أن ينظر أيضا في كون المسلمين الأوائل الذين فهموا روح هذا الدين قد جعلوا الإجماع ثالث مصادر التشريع، بعد كتاب الله وسنة رسوله، ناهيك عن حثه على العمل الجماعي حتى في العبادات نفسها، حيث جعل للنشاط التعبدي رتبة تعلو رتبة العمل الفردي بسبع وعشرين درجة كل ذلك حثا منه على الانخراط في سلك الجماعة، ولزوم العمل في إطارها، وعدم مفارقتها، فمن فارق الجماعة قيد شبر فمات، فموتته جاهلية، والذئب إنما يأكل من الغنم القاصية عن القطيع.