منذ نعومة أظافرها،تحب أن تكون مميزة،أمَا كانت تعصِب جيدها وجبهتها بإكليل من القرقاص وشقائق النعمان مثل الهنود الحمر،وتختال وتتبختر مثل الأميرات؟ ولمّا دانت لها الدنيا،حتى أصبح الناس يخطبون ودها،أمعنت في الكبرياء والخُيلاء،بقفاطنها وتكشيطاتها المرقطة والمزركشة وشرابيلها وعِصابها وحزامها(مضمتها) الذهبية ودمالجها الفضية وأقراطها و قلادة ذهبية وعقيق بجيدها وخواتمها الذهبية الخمسة الثمينة ، وتسريحة شعرها المتشح بالاسود الناصع ووشمة(سيالة) بذقنها، وجسمها الثخين ومقلتيها السوداوين وابتسامتها العريضة ولكنتها البدوية،فخرا بمغربيتها، واعتزازا بكونها المرأة التي ناضلت من أجل المرأة،لدحض الدونية عنها،ولتأكيد حريتها واستقلاليتها وقدرتها على البذل والعطاء. ما أحوجنا،مرة مرة، أن نعرض لأناس من عيار الشعيبية، نتحدث عن تفتق قرائحهم وملكاتهم ونبوغهم ، فالشعيبية، فلتة من فلتات الزمان التي يعز تكرارها،وذكرى وصنيع سكّ الاعتبار للمرأة وشهدَ على نضال شرس رسخت خلاله وجودها في عالم الفن،وبزت رجالاته من مثقفي الستينيات بوجه خاص،وأفحمت كثيرا من فناني الغرب ورفعت راية المغرب عاليا أمام الناس وأمام التاريخ. تحبل الشعيبية، وينتفخ بطنها بشكل يجعل بدانتها تزيد من إرهاقها وتعبها. تتنفس بشِقّ الأنفُس، وتتحرك ببطء داخل غرفة تحتاج كثيرا للتهوية والصيانة وشروط السكن الكريم. وكان زوجها يطمئنها بين الفينة والأخرى.وكانت أختها التي تزورها في بعض الأحايين تحثها على التحمل. لم يأخذ أحد بيد الشعيبية لحديقة، قريبة كانت أم بعيدة، لتستنشق الهواء النقي وتُرخي العنان لمفاصلها المتعبة، لبصرها كي يمتد" بعيدا بدل حيطان بقياس ولون معين تكاد تحسر البصر وتجثم على النفس وتكبت الروح، أو لطبيب يفحصها..يتتبع حالتها الصحية. يؤون وقت الوضع، وتكون أختها بجانبها، لتساندها وتساعدها. تئن الشعيبية وتتوجع بصوت مرتفع وتتشنج عضلاتها وتتأفف وتتأوه،بينما زوجها ليس بجانبها،كي يخفف وجودُه عنها بعض الألم. بعد جهد وإجهاد..تستطيع أختها أن تسحب مولودها شيئا فشيئا،دون إحساس بخطورة. وتتكفل بأمه وبجنينها في الآن نفسه.ولقد أسر لي أحد الفنانين التشكيليين أن الشعيبية قد ولدت توأمين، لم يبق منهما إلا واحد، أسمته الحسين، وهو ما ينفيه هذا الأخي، الذي كبِر وأصبح له شان، غير أن كل محاورة معه بخصوص ولادته هو ، أين ومتى وكيف..وهل كان له أخ توأم..وماذا عن ظروف والدته الصحية والمعيشية، لا تعطي أُكلها،فالرجل- من النوع الكتوم الغامض، يتحدث بصوت خافت،حتى لا تكاد تتبين منه سوى النذر القليل..ويشعر بضيقك، فيتعذر ويتعلل بأنه يتحدث الفرنسية أفضل،وتخاطبه بالفرنسية، فيكون نفس الشئ..وهنا يُفتح الباب على مصراعيه لخيال المبدعين، ليتزيدوا ويتفننوا في الاختلاقات والأقاويل والقراءات التأويلية. لما استفاقت الشعيبية من وجعها المرير، كان أول شيئ فاهت به: أين طفلي؟ ولكَم كانت سعادتها حين شعرت أنها أصبحت فعلا أمّا، وشعور الأمومة يولد مع كل فتاة، وهذا ما يفسرارتباط الطفلات منذ الصغر بالدمى، يلبسنها،يكلمنها، يلاعبنها ويبتسمن في وجوهها ويحملنها بين أيديهن الصغيرات وعلى ظهورهن.. كلما كان شعورهن أنها جائعة أو متعطشة للحليب أو النوم او لتغيير ملابسها. عندما عاد الزوج إلى البيت، عاد خالي الوفاض، ممتقع المحيا، متضايقا منزعجا، ليسأل عن جنس المولود.ولما علم أن الشعيبية منحته ذكرا، لم يتمالك نفسه من البكاء سرا، وقام يصلي شكرا لله وحمدا. وليس الذكر كالأنثى، فهو الحامل لاسمه، وهو الاستمرارية لنسله، وهو القوة والعون يوم يقل الجهد ويهزل الجسد،على نقيض الأنثى، في الثقافة الشعبية،التي تعني "العار" الذي ينبغي "ستره" بالزوج أو الوأد حقيقة أو مجازا بين أربعة حيطان لاتَرى ولا تُرى. خرج الزوج،وعاد أدراجه وهو يحمل قفة بها فروج حي وخضر طازجة وفواكه طرية وحلويات. كان الزوج في غاية السعادة والفرح، ويسمي الله المولود الحسين،ويوم سبوعه، يعق عنه أبوه خروفا فرحا وحمدا لله. ويتريث في حلق رأسه و"طهارته" حتى يشتد عوده مع الأيام. ترى الشعيبية في اسم الحسين،الحلم والتحدي واليُمن.لم تصرح لأحد أو جهة رسمية بولادته ولا باسمه، إذ كان كناش الحالة المدنية زمن الحماية مفتقدا، ومن بعدُ كان ضباط الحالة المدنية هم من يختارون للناس القادمين إليهم، لتسجيل عقد زواجهم،أسماء عائلية حسب أمزجتهم أو اختيار أو إملاء عليهم من لدن قريب أو ذي نفوذ. هكذا أسموا الشعيبية عائليا: "طلال"، أما زوجها، فيُصر الرسام الكبير الحسين طلال على السكوت عن اسمه الشخصي والعائلي إن كان له،ومسقطه وأهله وسنه..وسكناه مع أمه وشكل بيته.ف"طلال" لم يكن الاسم العائلي لوالده،علما أن الشعيبية لم تكن ابنة عم زوجها،بل لا تجمعها به أي قرابة،فهو من ورزازات وهي من دكالة،وهو أمازيغي وهي عَروبية.. يمر عامان على قران الشعيبية، كان فيه الزوجان غير متكافئين .. بدءا من "ليلة الدخلة"، حيث المرأة تعتبر حرمة ومِلكا ومتاعا، يلتذ به الرجل عازبا كان أم متزوجا متى وأين وكيف ما شاء..يغازل..يداعب.. يلوم ..يتهكم..يعنف،وبكلمة واحدة يده طولى تسنده أحكام المجتمع الذكوري. لم يكن أمام الشعيبية إلا أن تستجيب لغرائز وأحكام وأوامر وملامات بعلها.. لم ولا تعترض على شيئ، لا تعصي له أمرا ولا تناقشه في شيئ.. ولا يمكن ان تنتظر منه شيئا أكان خبرا عاديا أم مسارّة، ففي الثقافة الشعبية:(يا ويل من أعطى سره لمراته، يا طول عذابه وشتاته)-( امرا ولد امرا اللي يطاوع امرا)-(شاور المرا ولا تاخذ بريها)-( لا تامن المرا الى صلت ولا للشمس الى ولت).. اعتادت الشعيبية على رؤية معيلها كل يوم ..على سماع صوته وحركاته وسكناته..وتحول الاعتياد والمؤانسة والإيلاف إلى شعور غريب لذيذ، تستفيق صباحا من غير مشورة المنبه لطبخ الحساء له وإعداد الشاي والخبز والزيت قبل أن يستخيرَ الله ويسترزقه. وعند عودته مساء، تستقبله باحترام وحياء وتتسلم منه قفة.يخلع جلبابه..يتنهد من العياء، يسألها هل هي بخير، وتجيب باقتضاب. يخلع نعليه، فتحملهما من أمامه بخفة وسرعة كما لو أن أي تأخير سيجعلهما ينفجران..يرتاح قليلا ثم يسألها إن كانت أعدت العشاء. تغيب عن ناظره قليلا وتعود وهي تحمل بين يديها صحنا من خشب العرعار به مرق وقليل من اللحم وكوب ماء كبير. يبسمل الزوج ويشرع في ازدراد العشاء بنهم ويتجشأ إيذانا بالشبع. يحمدل ثم يشرب ويغسل يديه ويمسحهما بقطعة قماش تمده بها. ويمدد رجليه فوق اللحاف. وقبل أن تاخذه غفوة أو نعاس، تسارع لحمل رأسه قليلا وبلطف، لوضع الوسادة تحته ، ثم تغطيه، وتتركه، و تتسلل إلى ركن في البيت، لتنسل إلى حوضه، ولايهم في الثقافة الشعبية أن تُشبع المرأة رغبة أو تُطفئ جذوة أو تَطمع في مداعبة خصلة شعرها اوحلمتيها أو لمس خصريها وأردافها وظهرها أو تقبيل ركن من أركانها الحساسة أو في محادثة عشقية غزلية تدغدغ أحاسيسها ومشاعرها أو نكتة - حتى-على مسامعها..كي تصل إلى رعشة من أي نوع، بل لا يهم حتى أن يكون مزاجها عكرا أوليس لها رغبة في شيئ... أو يكون قبولها ضدا على إنسيتها وكيانها وعقلها وقلبها..لا مندوحة عن التودد والتزين والتبسم والتحمّد، فهذا السلوك يعضده الأثر: (إذا أطاعت المرأة بعلها دخلت من أي أبواب الجنة)، (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة)، ( لو كنتُ(أي النبي) آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ). كلمة الرجل إذن، رادفت القوة والبأس والهيمنة والعنجهية. وما المرأة سوى امرأة، أي الضعيفة الذليلة الباكية الشاكية البائسة الصبورة المطواعة القابلة للنهر والزجر على الدوام، ف"طوبى" لامرأة وجدت في زمن "عزّ" فيه وجود "الرجال" من"يسترها" و يكون مسؤولا عن أكلها وشربها ودوائها. آمنت الشعيبية بمكتوبها واستطاعت أن تنسجم مع زوجها، أن تستوعب شخصيته، أن تدرك ما يروقه وما يعافه منها كي يصبح مزاجه عاليا صافيا. ازداد تعلقها به يوما عن يوم، تترقب طلعته "الميمونة" وهو يحمل قفة فيها مافيها دون أن ينسى قطع حلوى لها أو قطعة قماش.. ملأ عليها دنياها و"عمر عينيها"..سكن مخيلتها حتى أضحى يتراءى لها في كل شيئ. تشتاق للرائحة المنبعثة من جسمه الضعيف المترهل الأسمر..لرائحة جلبابه الصوفي الداكن الخشن ونعله،اللذين لا يخلعهما إلا عند استعداده للنوم بغرفته. لم يكن الرجل في ناظر الشعيبية زوجَها فقط،بل كان كل شيئ.نعم كل شيئ بعد أن تركت أهلها ومسقطها وماضيها خلفها. ويأبى القدر ألاّ يُتمّ على الشعيبية فرحتَها، فما كادت تنعم بولادة طفلها بعد حول، حتى اختطف الموت زوجها الذي عاملها ليس فحسب كزوجة ولكن أيضا كفلذة من فلذات كبده..ووفّر لها الحماية والرعاية والأمن والأمان في مدينة الدارالبيضاء الأشبه بالغول، هكذا ينتهي فصل من حياتها ليولد آخر يعج بذكريات عجيبة وخواطر حالمة مذهلة..وعقبات وأشواك، جابهتها بقوتها الداخلية وإيمانها القوي وطموحها المشحوذ. كانت دهشتها عظيمة، وهي تودع زوجها الوداع الأخير، فقد استأثره الله..غُسل المسكين وكُفن وصُلي عليه.وهي في كل هاته الأحوال محرومة من النظر إليه.لم تفارقها نظرات الشفقة والعطف والرقة المنبعثة من عينيه السمراوين كلما كان يحادثها.كان حريصا أن تسعد معه. كانت القفة اليومية لا تخلو من فاكهة وخضر متنوعة ولحم وخبز وتوابل وقطع من الحلوى لأنها تحبها كثيرا، وكان أشد ما يحرص عليه: الصلاة. وكان يامر الشعيبية بأدائها وألاّ تكون مثل الذين إذا قاموا إليها قاموا كسالى. مات زوجها، وترملت وهي صغيرة،وجاء الولد،ويستمر النسل،وتستمر الحياة برغم الحزن الساكن فينا ليل نهار،لانملك إلا أن نتنهد،نحوقل ونبتسم -على مضض- ابتسامة رأس الذبيحة المقطوع. اضطر الزمان الشعيبية للخروج من البيت بحثا عن عمل لسد الرمق. لم تكن تدري ما العمل الذي يمكن أن تقوم به. فلم يسبق لها أن اشتغلت لدى أحد، أو في حرفة ، اللهم إلاما كان من تعلمها باشتوكة الخياطة ومشاركتها في عملية ندف الصوف او فتله خيوطا تمهيدا لغزل الزرابي،ذات الألوان المتعددة والمختلفة. اشتغلت الشعيبية خادمة ببيوت كثيرة، وانتهى بها المطاف أن تشتغل عند أسرة بورجوازية تبحث عن خادمة صغيرة السن، قوية، أمينة وصالحة. تقبل الأسرة بالشعيبية. ودون أن تحدثها في موضوع الأجر، تعِدها أن تهتم بها كثيرا إذا ما كان أداؤها وعملها جيدا ومتفانيا.