منذ أن وجد الإنسان على كوكب الأرض و هو يصارع من أجل البقاء و الإستمرار و لم الخلود، فكانت مسيرته سلسلة من الانتصارات و الهزائم، من النجاحات و الإخفاقات، تارة يتمرد ضد الأقوى و تارة يمارس بطشه و وحشيته ضد الضعفاء ، لقد كان و لا زال همه الوحيد هو السيطرة و الاستبداد و بأي ثمن. بعد آلاف السنين، عرف الإنسان الاستقرار و خاصة بعد اكتشافه للنار و الزراعة و المواد المعدنية و الكتابة و اقتحامه لمختلف المعارف و فنون العيش، كما لعبت الأديان التوحيدية و الوضعية دورا أساسيا في إعادة الإنسان إلى طبيعته الإنسانية وبعدها الأخلاقي. لكن رغم هذا التطور في مساره ظل وفيا لتناقضاته، يظهر إنسانيته وطيبوبته أحيانا، و يتحول في رمشة عين إلى وحش قاتل بدون رحمة و لا شفقة. في السياق ذاته، و في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي سقط جدار برلين و سقطت معه معظم الأقنعة و الإيديولوجيات التي كانت تؤسس للحرب الباردة و بالتالي ازدادت حدة عزلة الأفراد و الجماعات الذاتية و خاصة الذين كانوا يراهنون على الفكر الاشتراكي و الشيوعي، و أصبح هناك شلخ كبير بين تفكيرهم و واقعهم. و من خلال كتاب « مرآة الغرب المنكسرة» لصاحبه «حسن أوريد» بانهيار الشيوعية ظهر الغرب على حقيقته و بدت فكرة الأنوار التي طالما تغنى بها الغرب و فئة من المثقفين العرب مجرد غطاء، فالنزوع إلى السوق في الغرب هدفه هو القطع مع تراثه الديني و التأسيس للبرالية جديدة لا شيء يقف أمام أسواقها، لا الكيانات الوطنية و لا الدولة و لا الديمقراطية نفسها، و بالتالي وجدت هذه الفئة المثقفة نفسها في عمق العزلة و التيه و خاصة بعد الأزمات الاقتصادية و الأخلاقية التي يعرفها الغرب حاليا. أما «محمد أركون» فجاء في كتابه «قضايا في نقد العقل الديني»: «إذا أردنا الخروج من هذه العزلة و التيه الذي تعيشه مجتمعاتنا منذ قرون مضت نحن مضطرون للقيام بحركتين اثنتين: أولا،استدراك ما فات و هذه عملية ضخمة تتطلب وقتا و جهودا كبيرة لأن العقل الكلاسيكي الغربي قام بعمل ضخم في وقته، فقد تجرأ على مواجهة العقل الديني المسيحي و فتح معه معركة حقيقية و هذه خطوة لابد منها من أجل التحرير و استرجاع الذات التائهة و المعزولة. و هذا ما لم يحصل عندنا لحد الآن في بلداننا، و علينا أن نواجه هذه المشكلة بنوع من التدرج و هضم المراحل و عدم الانتقال إلى المرحلة الجديدة قبل استيعاب المرحلة السابقة. ثانيا، يضيف صاحب الكتاب، أن نكون يقظين في ظل التحولات الآنية التي يعرفها الغرب لكي لا تزداد الهوة مرة أخرى بيننا، فالعقل الكلاسيكي الغربي المرتكز على اليقينيات المطلقة ينتقل إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر، فهو ما يدعوه البعض إلى عقل ما بعد الحداثة، أي عقل أكثر تواضعا لكنه أكثر دقة و حركية في آن واحد، و هو عقل ما بعد انهيار الاديولوجيات الكبرى و اليقينيات الراسخة». إذا نحن كأفراد و جماعات في مجتمعاتنا نعيش فوضى و تيه في داخلنا و أعماق ذواتنا نتيجة تراكمات سنين و قرون مضت. هل هذه الفوضى المنظمة أحيانا و الغير منظمة أحيانا أخرى و التي يتقاسمها كل أفراد مجتمعنا في كل مظاهر حياتهم والتي وصف «بول باسكون» من خلالها المجتمع المغربي مثلا بطبيعته المركبة ، و شخصها البعض كمرض نفسي اجتماعي يوازي مرض الانفصام في الشخصية ( سكيزوفرينيا )، هل هي حقيقية و بالتالي عقبة أمام تطورنا و تقدمنا؟ أم أن هذه الفوضى و الخلط و التيهان بين الماضي و الحاضر و الانقلاب على المبادئ و الوعود و الالتزامات بشكل مفاجئ و غير منتظر يشكل ميزة أساسية تنفرد بها مجتمعاتنا، و بواسطتها تمكنت من الصمود في وجه الغزاة و الطامعين، و في وجه مختلف الحضارات و الثقافات عبر التاريخ ، وكونوا خصوصية مستقلة و بالتالي ضمنوا لأنفسهم البقاء و الاستمرار؟ يظل السؤال حول كيف تحيا و تفكر مجتمعاتنا و مدى صحة تيهان ذواتهم، و مدى ارتباط فكرهم بواقعهم ؟ سؤال وجيه لكن الجواب صعب و كذلك بدوره متغير، وربما حان الوقت للشروع في تفكيكه. و في نفس السياق هناك أيضا أحداث تاريخية متنوعة أثرت على فكر و حياة المغاربة و العرب و المسلمين، نذكرمن بينها : في أوائل القرن السابع ظهرت حركة دينية على حواشي الإمبراطورية البزنطية و الساسانية بمكة تبشر بدين الإسلام الجديد يتزعمها النبي محمد (ص) و أسست بذلك اللبنات الأولى لبناء الحضارة الإسلامية. بعد وفاة النبي محمد (ص) اشتد النزاع حول الخلافة و السلطة فانقسم المسلمون إلى مذاهب و طوائف وهي في العمق صراعات بين أهل البيت من جهة و الأمويين من جهة أخرى، حيث طعنت الشيعة في شرعية انتقال الخلافة إلى الأمويين السنيين و اعتبرته اغتصابا للحق، فاشتد الصراع و بادر الجميع نحو تأويل النصوص الدينية تأويلا يخدم مصالحه و يدعم حججه، إنها الفتنة الكبرى. كما عرفت هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي أحداثا دامية لم تتمكن الشعوب العربية و الإسلامية من التخلص من جراحها و آثارها إلى يومنا هذا، اغتيل الخليفة عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و ابنيه الحسن و الحسين. بعد آخر الخلفاء الراشدون «علي بن أبي طالب» تأسست الدولة الأموية عاصمتها دمشق ثم بعدها الدولة العباسية و عاصمتها بغداد، فكانت هذه الفترة الممتدة بين القرنين السابع و العاشر الميلادي من أرقى الفترات التي عرفتها الحضارة الإسلامية، في المقابل انقسم المسلمون و لحد اليوم إلى تيارات و طوائف و مذاهب أسست لمجموعتين فكريتين متناقضتين : - المجموعة الأولى و التي أسست لعصر التنوير الأول قبل أن يعرفه الغرب و ذلك ابتداء من القرن الثامن، و كانت تتزعمها فرقة المعتزلة حيث كانوا يعتقدون أن بالإمكان بلوغ الحقيقة باستعمال العقل على ما جاء في القرآن و كانوا قد تأثروا بالفكر اليوناني، لكن تلاشت أهميتهم داخل الفكر السني الناشئ و في المقابل استمر تأثيرهم بشكل قوي في مدارس أخرى كما هو الشأن بالنسبة لمدارس الفكر الشيعي و لحد اليوم، و من أمثال هؤلاء العقلانيون و المتنورون الذين شهدهم العالم الإسلامي و العربي : بن خلدون، بن رشد، الفرابي إضافة إلى الخليفة العباسي المامون و الخليفة المعتصم اللذان احتضنا فكرهم.