صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب جديد للمفكر الأردني فهمي جدعان تحت عنوان: "تحرير الإسلام"، و يعدفهمي جدعان أحد الأصوات المتميزة في الثقافة العربية المعاصرة بالنظر إلى القضايا التي يطرحها في كتاباته ودراساته المتعددة المنابع والمصادر. وقد عرفت كتاباته بالتحليل العلمي الرصين للأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية في الوطن العربي وبنقده المزدوج للعرب والغرب على السواء في المجالات السياسية و الاقتصادية والثقافية. فهو من دعاة إعادة قراءة التاريخ الإسلامي برمته بروح نقدية. يتضمن هذا الكتاب قسمين، الأول يحمل عنوان تحرير الإسلام ويتضمن عشرة فصول:أمر التحرير/عقب إخيل/ شيئ من المنهج/سكيزوفرينيا/الإسلام العربي/الإغراء السحري/القبيلة والجيل المؤسس/التراث/حواء/عقدة الأفاعي أو جحيم الأخريين.والثاني يحمل عنوان رسائل زمن التحولات ويحتوي على ثلاثة عشر فصلا:تأملات في حال الإسلام اليوم/العدل في حدود ديونطولوجيا عربية/في العدالة والشورى والديمقراطية/نحن والديمقراطية/هل يمكن قيام علمانية إسلامية؟/الحرية في المدينة/الحرية في الثقافة العربية الحديثة/المقدس والحرية/السلفية-حدودها وتحولاتها/في الحداثة والحداثة العربية/في الطاعة والاختلاف/نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر/ضميمة أفكار موجهة: من أجل استراتيجية ثقافية لهذا العصر. ما المقصود بتحرير الإسلام؟ ينفى مؤلف الكتاب أن يكون المقصد من وراء عنوان كتابه "تحرير الإسلام" ،هو الدعوة إلى تحرير دين الإسلام من مقدماته الكبرى و من عقائده الأساسية،أو تقديم إسلام جديد يشجب التجربة الإسلامية التاريخية ويتنكر لها ويعويضها بإسلام ليبرالي علماني تنويري،إن ما يقصده على وجه التحديد من خلال عنوانه هذا كما يقول في ص 16 من الكتاب هو "الدفاع عن صورة للإسلام،ماهيتها صادرة عن منطوق كتابه المنزل العظيم،وعن الغائيات والمقاصد العظمى التي أتبينها فيه،صورة نقية،أصلية،جاذبة،متحررة من الاختلاطات والاختلافات والتجاوزات والحيدات الزمنية،التاريخية،البشرية،سبيلي إلى ذلك لا الذهاب إلى استخلاص أو استنتاج أو تبين عقائد أو تصورات ومواقف "مبتدعة" في هذا الدين،وإنما الذهاب إلى تحريره من جملة العقائد والتصورات والفهوم والمواقف التي أعتقد،وأرى،وأجزم أنها سالبة،وتجريد الصورة الجاذبة لهذا الدين، برد الأمور إلى نصابها وبذل الوسع من أجل صون والإسلام اليوم وغدا، من التعديات والفهوم المغلوطة التي تولد إساءات حقيقية له ولأهله. وليس يغيب عن بالي أنني فيما أقصد إليه أعبر عن اجتهاد إنساني يأخذ في الحسبان أمورا خمسة أساسية، على الأقل: الأول: تمثلي الشخصي العقلي والوجداني،لإيماني،ولنصوص (الوحي) وروحها وغايتها. الثاني: اجتهادي النقدي العقلي الإنساني في مسائل الوجود والمجتمع وحياة هذا الدين وأهله في العالم. الثالث: اعتقادي أن دين الإسلام في ذاته، وفي حدود الفهم الذي أتمثله لنفسي منه،دين يستحق أن يعاش، وأن يكون خيارا إنسانيا عاقلا لإنسان يريد أن يحيى حياة أخلاقية،طيبة،مطمئنة،سعيدة،عادلة،رحيمة،كريمة. الرابع: اعتقادي أن من الضروري بذل الوسع من أجل حماية هذا الدين من أهله أولا، ومن مبغضيه وأعدائه ثانيا، وأن ذلك يتطلب تحريره من ثلة التصورات والتمثلات والمواقف التي تفسد صورته وتجور عليها وتيسر إصابته والإساءة إليه، وربما أيضا إقصاءه من لوح الوجود الحي. الخامس: أنني، في جملة مقاربتي للمسألة التي أنهض لها، لست داعية، ولا واعظا دينيا ولا إسلاميا سياسيا أو غير سياسي، إنما أنا مفكر بحث ألزم منهجا عقلانيا تكامليا،واقعيا،حرا،نقديا،وأقارب المسألة الإسلامية بما هي مسألة مركزية تقترن بجملة المسائل المشكلة للمركب العربي الشامل، وأن هذا المركب وما يطال المستقبل العربي منه يتعلق بنيويا ومصيريا بالمسألة الإسلامية،مثلما يتعلق بالمسألة العربية وبمسائل كثيرة أخرى." لما النهوض من أجل تحرير الإسلام؟ غدى الإسلام في السنين الأخيرة مصدر إنكار ونفور وكراهية وتوجس واساءة، بعد أن كان مصدرا إنسانيا للسلم والعدل والقيم الأخلاقية النبيلة والتواصل الإنساني الرحيم. ومنبعا للحرية والعدل والكرامة، وقد ساهمت العولمة في إنتاج هذا الوضع بشكل كبير،وهذا ما سبق أن أشار إليه المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد في حديثه حول مسألة تغطية الإسلام، حيث أكد بأن الموضوع يتعلق باستجابات غربية لعالم إسلامي أصبح مهما مع مطلع السبعينات من القرن الماضي (ثروة النفط)، لكنه عالم مضطرب وغارق في المشاكل التي أصبحت مصدرا للعداء. إن نظرة الغرب هاته تحكمها العناصر التالية: 1- النقص في توريدات النفط والتضخم والأسعار. 2- عودة الإسلام بعد الثورة الخمينية في إيران. 3- انبعاث القومية الراديكالية في العالم الإسلامي. بالإضافة إلى أحداث أخرى مرتبطة بهذا الوضع، وهي الحرب الإيرانية العراقية، والتدخل السوفيتي في أفغانستان، وانتشار القوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي. هذه العناصر كافية لتوجه وسائل الإعلام نحو تغطية الإسلام عن طريق العرض والتصوير وتحديد خصائصه وتحليله والنتيجة أنها جعلت الإسلام معروفا عند الجميع. إن التغطية الإعلامية للإسلام حسب فهمي جدعان مليئة بالمغالطات وبعيدة عن الموضوعية حيث يتم تصوير الإسلام كدين يتميز بالعصبية العرقية والكراهية الثقافية والجنسية، في حين تحضى المسيحية واليهودية باحترام كبير بل بالانتعاش. صحيح أن جماعات وتنظيمات إسلامية قامت بتبني الكثير من الانفجارات والاختطافات والاغتيالات التي استهدفت خصوصا مصالح الدول الغربية ومواطنيها. لكن الواضح أن التغطية الإعلامية تجعل من الإسلام دينا متهما ومدانا من دون الحاجة إلى حجج مدعمة. ومن مظاهر الخلط والتغطية غير الموضوعية هو الحديث عن الأصولية وربطها بالإسلام كأنه هو الدين الوحيد الذي أنتج الظاهرة الأصولية، فلماذا يتم تجاهل الأصوليات اليهودية والمسيحية والهندوسية؟ لقد أصبحت وسائل الإعلام تختزل الإسلام في الأصولية وتضع هذه الأخيرة بمثابة العدو الأول الذي ينبغي محاربته بعناوين تحريضية بكبريات الصحف الغربية والأمريكية خاصة، كما كان الأمر من قبل مع الشيوعية أثناء الحرب الباردة، فخطر الإسلام أصبح بديلا عن الخطر الأحمر. لكن ماينساه الكثير من صناع القرار في نقاشاتهم هو أن المجموعات الإسلامية المتهمة بالإرهاب والعنف تنتمي إلى دول حليفة للولايات الأمريكية من السعودية إلى ماليزيا وأندونيسيا مرورا بباكستان ومصر والمغرب والأردن وتركيا، فالحركات الإسلامية ظهرت في هذه البلدان المدعومة من طرف الولاياتالمتحدة. إن هذه التغطية السلبية تسعى من بين ماتسعى إليه: - التغطية على جرائم إسرائيل ودعم أمريكا لها واعتبارها ضحية العنف الإسلامي. - إخفاء الحقيقة التاريخية حول هجرة يهود أوربا إلى فلسطين وتدمير أرض العرب وسلب ممتلكاتهم وتهجير أغلبيتهم. - إخفاء ما يفعله الغرب الذي يسلط الضوء على مايسميه ماهية المسلمين والعرب المعيبة من دون تمييز فالعرب والمسلمون شيء واحد ويمكن مهاجمة أحدهما كأنه الآخر. -رسم صورة للمسلم على أنه إرهابي، عنيف، مسلح، ملتح، متعصب ومصمم على تحطيم أمريكا.ومن هنا فهو جدير بالقتل. بالإضافة إلى إسهام العولمة في إنتاج هذا الوضع المريب، أصبح الإسلام اليوم يشهد تنامي وتعاظم صيغ إسلامية جديدة من داخل المجتمعات الإسلامية تعمل على نشر صورة سلبية حول الإسلام، صورة مغايرة لجوهره وماهيته الاصلية،وتدافع ببسالة على فهم سطحي ظاهري للنص الديني، وتهاجم بشراسة كل محاولة علمية أدركت ركوض العقل الإسلامي . يؤدي هذا الانغلاق اللاهوتي الذي يطبع الفكر الإسلامي إلى تشكيل اكليروس ديني مضمر يتحكم بالإسلام ويرفض أي تأويلية مستجدة له. بل ويظهر عداوة مقيتة للعلوم الحديثة التي ليس له أدنى دراية بتخصصاتها، ورغم ذلك نجد الشيخ الهمام يفتي في كل المجالات بدءا من السياسة والاقتصاد وصولا إلى الفن والإستنساخ... ويظهر فهمه على أنه حكم القران والإسلام. هل يمكن لفهم غبي ساذج لا منطقي أن يقنع مثقفا مشبعا بالعقلانية والحداثة والصرامة المنهجية؟ لا يمكن لوضع مركب كهذا إلا أن ينتج مسلما مقلوبا يعاني من تبعية تفسير القران لا نص القرآن،مسلم لا يقوى على التمييز بين الكلمة الإلهية ( النص) والكلمة البشرية( التفسير). مسلم ذو ذهنية أسطورية متينة يصعب اختراقها، إذ سرعان ما تظهر أنيابها لكل محاولة تسعى إلى إنتاج تفسير تحليلي بنيوي يزاوج بين علوم العصر والقران الكريم. مثل ما تعرض له الشيخ محمد عبده، عندما ذهب مذهبا مغايرا في تفسير معنى بعض آيات الكتاب، المتعلقة بطير الأبابيل وحجارة السجيل، الواردة في سورة الفيل، بصفتها افات جرثومية يمكن أن تكون ناشئة عن حشرات من جنس الباعوض أو الذباب الحامل لبعض الأمراض، فتكون الحجارة من الطين الممسوس اليابس الذي تحمله الرياح، يعلق بأرجل الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، حتى يثير فيه القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه... وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه بالميكروب لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يحصى عددها ولا بارئها. يبدو أن كل أرثوذكسية عقائدية تؤدي إلى تشكيل مثل هذا السياج حول نفسها، وحول عقيدتها وأفكارها ويقينياتها ومسلّماتها، وتعمل على حصرها و حصر أتباعها في تلك المنطقة المسوَّرة والمسيجة والمغلقة من كل الجهات الشيء الذي يؤدي إلى الانقطاع والانعزال، السياج الدوغمائي يضع حدودا بين المفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، ومن جهة أخرى يؤدي إلى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة دون الغير واتخاذ مواقف مسبقة وإصدار أحكام جاهزة تؤدي إلى تكفيره وبالتالي إلى استباحة دمه. يتعلق المفكر فيه بما يسمح به الفكر والتصوُّرات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها المتكلم، وبالفترة التاريخية من فترات تطوُّر تلك الجماعة. ثم إنه يتعلَّق كذلك بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة اللذين يتضامن معها المتكلم. أما ما لا يمكن التفكير فيه فيعود إلى ما تمنعه السلطة السياسية أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم مقدسة وجعلها جوهراً مُؤسِّساً لكينونته ومصيره وأصالته. إن مهمة المثقف هي مهمة وخطيرة في نفس الوقت إذا هو ساهم في تغير المناخ الفكري والحضاري العام، لأن أي نظام سياسي هو نتاج لهذا المناخ ولابد أن يخضع له في نهاية المطاف ويحس أداءه كلما ارتقى المثقفون ورجال الأعمال إلى العمل الفكري والعلمي والاقتصادي المتواصل لإخراج الوطن من التخبط في التخلف والعشوائية. من هنا ينبغي إذن العودة إلى الأجواء الثقافية الغنية التي ظهرت خلال النهضة العربية الأولى واتي انقطعنا عنها خاصة في مجال المعرفة والانفتاح والتفاعل مع تطور الإنسانية. ينبغي إذن العودة إلى هذه النهضة والاعتماد عليها خصوصا في المجال المعرفي والتعمق في دراسة التراث العربي الإسلامي خاصة في الفلسفة وعلم التاريخ وعلم الاجتماع. أستاذ/باحث